لانه ضروري في الحياة.. هكذا تطور قدرتك على “ضبط النفس”

يُمكن تعريف ضبط النفس، بأنه القدرة على تجنب السلوكيات غير المرغوب فيها، وزيادة السلوكيات المرغوبة، وتحقيق أهداف طويلة الأجل. وقد أظهرت الأبحاث أن امتلاك القدرة على ضبط النفس امر مهم للصحة والرفاهية.
فالأهداف الشائعة مثل فقدان الوزن، وممارسة الرياضة بانتظام، وتناول الطعام الصحي، وإنجاز المهام في الوقت المطلوب وتجنب التسويف والمُماطلة، والتخلي عن العادات السيئة، وتوفير المال والادخار ليست سوى بعض الطموحات الجديرة بالاهتمام، التي يعتقد الناس أنها تتطلب أن يكون لديهم القدرة على ضبط أنفسهم، وغالبًا ما يستخدم الناس مجموعة متنوعة من المصطلحات للتعبير عن التحكم الذاتي وضبط النفس، مثل الانضباط والتصميم وقوة الإرادة والثبات.
أهمية ضبط النفس في حياتك اليومية
وجدت دراسة استقصائية أُجريت عام 2011 أجرتها «الجمعية الأمريكية للأمراض النفسية» أن 27% من المبحوثين حددوا عدم وجود قوة الإرادة، عاملًا أساسيًّا يمنعهم من الوصول إلى أهدافهم.
سواء كان الهدف هو إنقاص الوزن، أو الحصول على شهادة جامعية، أو الإقلاع عن التدخين، فمن السهل تصديق أن تحقيق هدفك ما هو ببساطة إلا مسألة تتعلق بالتحكم في سلوكياتك. فغالبية الناس الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن ضبط النفس هو أمر يمكن تعلمه وتعزيزه، وقد حدد الباحثون أيضًا عددًا من العوامل والاستراتيجيات المختلفة التي يمكن أن تساعد الأشخاص على تحسين ضبط أنفسهم.
ولقد وجد الباحثون أن الأشخاص الذين لديهم ضبط ذاتي أعلى يميلون إلى أن يكونوا أكثر صحة وسعادة، ففي إحدى التجارب، حصل الطلاب الذين أظهروا قدرًا أكبر من الانضباط الذاتي على درجات أفضل في الاختبارات الدراسية، وكانوا أكثر عرضة للقبول في برنامج أكاديمي تنافسي، ووجدت الدراسة أنه عندما يتعلق الأمر بالنجاح الأكاديمي، فإن ضبط النفس يكون هو العامل الأكثر أهمية حتى من درجات مُعدل الذكاء.
لا تقتصر فوائد ضبط النفس على الأداء الأكاديمي فقط، فقد وجدت إحدى الدراسات الصحية طويلة الأجل أن الأشخاص الذين تم تصنيفهم على أنهم يتمتعون بمستويات عالية من ضبط النفس أثناء الطفولة يظلون يتمتعون بمستويات عالية من الصحة البدنية والعقلية في مرحلة البلوغ.
مفتاحك السحري لضبط النفس
تُعدّ القدرة على تأخير الإشباع، أو الانتظار من أجل الحصول على ما تريد، جزءًا مهمًا من ضبط النفس، فغالبًا ما يكون الأشخاص قادرين على التحكم في سلوكهم عن طريق تأخير إشباع رغباتهم، على سبيل المثال، قد يحاول الشخص الذي يتبع نظامًا غذائيًا مُحددًا تجنب إغراءات الانغماس في الأطعمة غير الصحية، هذا الفرد يؤخر إشباع رغباته وينتظر حتى يتمكن من الاستمتاع بصحة أفضل وجسد أكثر رشاقة وقد يتمكن حينها من تناول ما يرغب من أطعمة بشكل عرضي وغير دائم.
تأخير الإشباع ينطوي على تأجيل الرغبات على المدى القصير لصالح المكافآت طويلة الأجل، لقد وجد الباحثون أن القدرة على تأخير الإشباع أمر هام للغاية ليس فقط لتحقيق الأهداف ولكنها تلعب أيضًا دورًا مهمًا في الرفاهية والنجاح الشامل في الحياة.
للتأكيد على النتيجة السابقة أجرى عالم النفس والتر ميشيل سلسلة من التجارب الشهيرة خلال السبعينيات من القرن الماضي والتي بحثت في أهمية الإرضاء المتأخر، في هذه التجارب، عُرض على الأطفال الاختيار ما بين: تناول حلوى المارشميلو على الفور أو الانتظار لفترة قصيرة من الوقت للحصول على وجبات خفيفة. وعند هذه النقطة، يترك الباحث الطفل وحده في غرفة من أجل الاختيار بحرية.
وكانت النتيجة أن العديد من الأطفال قد اختاروا تناول المارشميلو في اللحظة التي غادر فيها الباحثون الغرفة، ومع ذلك، كان بعض الأطفال قادرين على الانتظار للحصول على الاختيار الثاني، وقد وجد الباحثون أن الأطفال الذين تمكنوا من تأخير الإشباع من أجل الحصول على مكافأة أكبر كانوا أكثر عرضة أيضًا لأداء أكاديمي أفضل من الأطفال الذين استسلموا للإغراء على الفور.
بناءً على بحثه، اقترح ميشيل ما وصفه بأنه نظام «الساخن والبارد» لشرح القدرة على تأخير الإشباع، يُشير النظام الساخن إلى جزء من إرادتنا العاطفية والاندفاعية الحالية، ويحثنا على التصرف بناءً على رغباتنا، وعندما يستولي هذا النظام علينا، فقد نستسلم لرغباتنا اللحظية ونتصرف بتهور دون النظر في الآثار المحتملة على المدى الطويل.
أما النظام البارد فيُشير إلى جزء من قوة الإرادة لدينا وهو نظام عقلاني مدروس، ويُمكنّنا من النظر في عواقب أفعالنا، ويساعدنا على البحث عن طرق لصرف انتباهنا عن رغباتنا وإيجاد طرق أكثر ملائمة وعقلانية للتعامل مع هذه الرغبات.
من خلال الأبحاث السابقة وُجد أن ضبط النفس هو مورد محدود، على المدى الطويل، يميل تكرار ممارسة ضبط النفس إلى تقوية هذه القدرة وتحسينها بمرور الوقت، ومع ذلك، فإن ضبط النفس في المدى القصير محدود، فتسليط تركيزك على التحكم في نفسك تجاه شيء واحد يجعل من الصعب عليك التحكم في المهام اللاحقة المطلوبة منك طوال يومك، يُشير علماء النفس إلى هذا الاتجاه باعتباره استنزاف الأنا، ويحدث هذا عندما يستخدم الناس مخزون قوة الإرادة لديهم في مهمة واحدة، مما يجعلهم غير قادرين على حشد أي قدر من الضبط الذاتي لإكمال المهمة التالية.
ضبط النفس يؤثر على صحتك..
ضبط النفس مهم أيضًا للمحافظة على السلوكيات الصحية، فضبط النفس يتحكم فما تأكله خلال الإفطار، وعدد مرات مُمارستك للتمارين، وما إذا كنت تذهب إلى الطبيب بانتظام أم لا، كلها قرارات تتأثر بمستوياتك من ضبط النفس وهو ما له تأثير بشكل مُباشر على صحتك.
لقد وجد الباحثون أن ضبط النفس يمكن أن يكون له عدد من التأثيرات المحتملة على الصحة والرفاهية، ففي إحدى الدراسات، كان الأطفال الذين لديهم مستويات أعلى من ضبط النفس أقل عرضة لزيادة الوزن أثناء فترة المراهقة. ووجدت دراسة أخرى أن المشاركين الذين استنفدوا قوة إرادتهم في أشياء لا أهمية لها كانوا أكثر عرضة للاستسلام للإغراء عندما طُلب منهم الاختيار في أشياء أكثر أهمية.
أظهرت الدراسات أيضًا أن الأطفال الذين يُعانون من قدر أقل من ضبط النفس أثناء الطفولة، يكونوا أكثر عرضة لتعاطي المخدرات والكحول في المدرسة الثانوية.
وفي حين أنه من الواضح أن ضبط النفس أمر بالغ الأهمية للحفاظ على السلوكيات الصحية؛ إلا أن بعض الخبراء يعتقدون أن المبالغة في التأكيد على أهمية قوة الإرادة يمكن أن يكون أمرًا ضارًا، فالاعتقاد بأن ضبط النفس بمفرده يمكن أن يساعدنا في تحقيق أهدافنا، ويمكن أن يؤدي إلى إلقاء اللوم على الناس عندما لا يتمكنون من مقاومة الإغراء، وقد يؤدي هذا أيضًا إلى الشعور بالعجز المُكتسب حيث يشعر الناس أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء لتغيير السلوكيات التي يرغبون في تغييرها، ونتيجة لذلك، قد يستسلم الناس بسرعة أو يتوقفون ببساطة عن المحاولة ومواجهة العقبات.
أسباب الفشل في تحقيق الأهداف
وفقًا لعالم النفس والباحث روي بوميستر، فإن قلة الإرادة ليست هي العامل الوحيد الذي يؤثر على تحقيق الأهداف، فهناك بعض الأسباب التي رصدها الباحثون والتي تقف وراء حدوث العجز المُكتسب، فإذا كنت تعمل لتحقيق هدف مُعين، فيجب أن تكون هناك ثلاثة عناصر مهمة:
• يجب أن يكون هناك هدف واضح ودافع قوي للتغيير، فوجود هدف غير واضح أو عام بشكل مفرط، مثل فقدان الوزن، يجعل الدافع اللازم لتحقيق الهدف غير كاف، وعدم كفاية الدافع يمكن أن تؤدي إلى الفشل، فأنت أكثر قدرة لتحقيق هدف مُحدد بوضوح مثل فقدان خمسة كيلو جرامات.
• تحتاج إلى تتبع أفعالك لتحقيق الهدف، ببساطة تحديد الهدف فقط لا يكفي، فأنت تحتاج إلى مراقبة سلوكك كل يوم لضمان قيامك بالأشياء التي يجب القيام بها للوصول إلى هدفك.
• ثالثًا، تحتاج إلى قوة الإرادة، فتُعدّ القدرة على التحكم في سلوكك جزءًا مهمًا في تحقيق أي هدف، لحسن الحظ، تُشير الأبحاث إلى أن هناك خطوات يمكن للناس اتخاذها من أجل الاستفادة القصوى من قوة الإرادة المتاحة.
تحسين قدرتك على ضبط النفس.. كيف؟
بينما تُشير البحوث إلى أن القدرة على ضبط النفس هي مورد محدود، فقد وجد علماء النفس أيضًا أنه يمكن تقويته، ومن الاستراتيجيات الفعّالة لتحسين هذه القدرة:
• تجنب الإغراء
هذه طريقة فعّالة لتحقيق أقصى استفادة من التحكم في نفسك، يضمن تجنب الإغراء أن لا تستخدم التحكم الذاتي المُتاح لديك قبل الاحتياج إليه في شيء هام بالفعل.
فإذا لم تتمكن من تجنب الإغراء عليك التخطيط مُسبقًا للإجراءات التي ستتخذها لتجنب الاستسلام؟ فقد وجدت الأبحاث أن التخطيط للمستقبل يمكن أن يُحسن قوة الإرادة حتى في المواقف التي يكون فيها الأشخاص قد عانوا من آثار استنزاف الأنا.
• حاول التركيز على هدف واحد
عادةً ما يكون وضع الكثير من الأهداف في وقت واحد، مثل إعداد قائمة بقرارات السنة الجديدة، طريقة غير فعّالة، لأنه يُعرضك لاستنزاف قوة الإرادة الخاصة بك وتوزيعها على الكثير من الأشياء التي لن تستطيع أن تفي بها جميعًا، بدلًا من ذلك يكون الأفضل اختيار هدف محدد واحد وتركيز طاقتك على ذلك، وبمجرد تحويل السلوكيات اللازمة للوصول إلى الهدف المُحدد إلى عادات، فلن تحتاج إلى تكريس الكثير من الجهد من أجل الحفاظ عليها، يمكنك بعد تحقيق هذا استخدام قوة إرادتك من جديد لتحقيق أهداف أخرى.
• انظر إلى الصورة الكبيرة
تُظهر دراسة أن التفكير التجريدي أو رفيع المستوى يُعزز نجاح ضبط النفس، وهذا يعني أن الناس أكثر عُرضة لممارسة ضبط النفس عندما يستطيعون رؤية الغابة ولا يغرقون في رؤية الأشجار، وبمعنى آخر عندما لا يستهلكون أنفسهم في التفاصيل.
على سبيل المثال، عند العمل في مشروع طويل الأجل، من السهل أن تشعر بالإحباط بسبب كثرة الخطوات الصغيرة اللازمة للوصول إلى هدف مشروعك، هكذا أنت تغرق في التفاصيل، بدلاً من ذلك، يُمكنك تذكير نفسك والآخرين بشكل دوري بالهدف النهائي وبأنكم تقتربون منه، مما يعمل على تعزيز ضبط النفس عن طريق منع الإحباط.
• تجنب استنفاد قوة إرادتك في الجزئيات
ضبط النفس له آثار مهمة على جودة قراراتنا، يُلاحظ روي ف. باوميستر، مؤلف كتاب «قوة الإرادة: إعادة اكتشاف أعظم قوة بشرية»، أنه بعد أن يتخذ الناس عددًا من القرارات، بصرف النظر عن مدى أهميتهم، فإن الإرهاق الناتج عن القرارات الصغيرة قد يكون له تأثير سلبي على القرارات الأكثر أهمية، لذلك يجب تجنب اتخاذ القرارات المُتعلقة بالأمور المهمة في نهاية اليوم، لأنه حينها تكون قد اتخذت بالفعل العديد من القرارات كما نفعل جميعًا خلال المسار العادي ليوم واحد.
يُمكنك أيضًا وضع بعض مظاهر حياتك على الوضع الافتراضي حتى لا تضطر إلى اتخاذ الكثير من القرارات غير الضرورية، فمثلًا الرئيس الأمريكي السابق أوباما كان يرتدي بدلات زرقاء أو رمادية فقط، وقال لصحيفة «فانيتي فير»: «أحاول تقليص القرارات، لا أريد اتخاذ قرارات بشأن ما آكله أو أرتديه، لأن لدي الكثير من القرارات الأخرى التي يجب اتخاذها».
• احظ بكفايتك من النوم
تُشير دراسة أجرتها «جامعة واشنطن»، نُشرت في مجلة «هارفارد بيزنس ريفيو»، إلى أن الحرمان من النوم يستنزف الجلوكوز في قشرة الفص الجبهي، وبالتالي يستنفد الوقود اللازم للسيطرة على النفس. فالنوم يُعيد هذا الوقود. وقد تم الحصول على هذه النتيجة عن طريق مُلاحظة حدوث فرق في العمل في اليوم التالي بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي، مثل الغش عن طريق تزوير الإيصالات، فأولئك الذين ينامون ست ساعات أو أقل كانوا أكثر عرضة للانخراط في سلوكيات العمل المُنحرفة من أولئك الذين ينامون أكثر من ست ساعات.
فهناك الكثير من الآثار السلبية المترتبة على إهمال الحصول على قدر كاف من النوم بالنسبة لأولئك الذين يُديرون أعمالًا مهمة جدًا، يقول الباحث كريستوفر بارنز: «تحتاج المنظمات إلى إعطاء مزيد من الاحترام للنوم، يجب على المديرين التنفيذيين أن يضعوا في اعتبارهم أنه كلما زاد عدد الموظفين الذين يعملون حتى وقت متأخر، ويأتون إلى المكتب في وقت مبكر، ويكونون مُطالبين بالرد على رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات في الساعات التي ينصرفون فيها عن المكتب، فتحوا الباب للسلوك غير الأخلاقي».
• قم ببعض التمارين القصيرة
عندما يتعلق الأمر بتحسين التحكم الذاتي، فإن المُواظبة على مُمارسة التمارين المكثفة القصيرة وقتيًا، هي كل ما تحتاجه لتعزيز قوة إرادتك وتحسين ضبط نفسك، فقد أظهرت الأبحاث المنشورة في مجلة «ساينس ديلي» أن مُمارسة التمارين القصيرة تؤدي إلى زيادة تدفق الدم والأكسجين إلى القشرة المخية، مما قد يفسر زيادة القدرة على التحكم الذاتي، فبغض النظر عن مدى انشغالك، خطط لتضمين موجات قصيرة من التمارين في روتينك اليومي.
• اعرف نفسك
يُعدّ ضبط النفس العاطفي، أو التحكم في الاندفاع، حجر الزاوية في بناء الذكاء العاطفي، تعرّف إلى نفسك حتى تتمكن من إدارة مشاعرك ودوافعك، على سبيل المثال، هل أنت معتاد على الرد بشكل سريع عندما تشعر بالهجوم عليك؟ هل تجد صعوبة في التوقف عن التحدث؟ هل أنت قادر على البقاء هادئًا وإيجابيًا في الظروف العصيبة؟ هل يُمكنك مُمارسة الصبر في المواقف المزعجة والأزمات؟
الوعي الذاتي هو الشيء الذي يسبق الإدارة الذاتية، فبمُجرد أن تتمكن من التعرّف إلى نفسك تتمكن من إدارتها، وزيادة وتحسين قدرتك على ضبطها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى