معادلة الشهيد عمر أبو ليلى.. قاتل الإسرائيلي بسلاحه وافتدى فلسطين بروحه

قبل نحو 19 عامًا ولد فتى صغير لعائلة فلسطينية تعيش في قرية الزاوية القريبة من «سلفيت»، تلك القرية التي اقتطع الاحتلال الإسرائيلي الكثير من أراضيها لإقامة مستوطناته عليها.

كبر هذا الفتى الذى دعاه والده أمين أبو ليلى بعمر، ودون أن تبرح ملامح الطفولة البريئة وجهه، شب عمر رجلًا قويًا هادئًا٬ يحب الناس ابتسامته ووده الذي ينعم به كل من عرفه، ومثل أبناء جيله كان عمر يحب أن يرتدي ملابس شبابية حديثة، ويحب أن يلتقط صور «السيلفي» في رحلاته نحو مدن الضفة الجبلية والساحلية، لكن هذه «العيشة» لن تأتي على حساب حبه للوطن الذي دفعه بمفرده للقيام بعملية مقاومة مزدوجة، قتل فيها باستخدام سلاح إسرائيلي جنديًّا وحاخامًا، ثم قاتل حتى الرمق الأخير بهذا السلاح مسجلًا واحدة من أهم العمليات الفدائية التي عرفت باسم  عملية «أرائيل» المزدوجة.

عملية أرائيل المزدوجة.. بطلٌ من حديد

استيقظ الفلسطينيون في صبيحة يوم 17 من مارس (أذار) 2019، على أخبار الاعتداءات الإسرائيلية، تارة يخرج خبرًا يفيد بإغلاق مصلى «باب الرحمة»  في ساحات المسجد الأقصى بأمر قضائي إسرائيلي، وآخر عن تصدّيق مجلس الوزراء المصغر (الكابينيت) على خطة لإعادة احتلال غزة في أية حرب مقبلة.

لكن خبرًا صغيرًا تسرب في العاشرة إلا ربع صبيحة هذا اليوم يتحدث عن عملية مقاومة وقعت بقرب مدينة سلفيت في الضفة الغربية٬ ليبهج قلوب الفلسطينيين، إذ تسربت أخبار عاجلة تفيد بأن شابًا فلسطينيًا خرج من مكان قرب دوار مدخل بلدة كفل حارس الذي أصبح بفعل وجود مستوطنة إسرائيلية يحمل اسم «دوار أريئيل»٬ وانقض نحو جندي إسرائيلي يحرس موقفًا لحافلات السيارات الإسرائيلية.

طعن الشاب الجندي غال كيدان (19 عامًا) ثم استولى على بندقيته من طراز (M16)، فقتله برصاصها، وأخذ يتجول في المفترق، ويطلق النار، حتى وقعت عينه على الحاخام أحيعاد إتيغنر٬ فأطلق النار عليه، ثم قاد سيارة هذا الحاخام الذي توفي لاحقًا، وبعد نحو 10 دقائق من بدء هذه العملية المزدوجة؛ كان الشاب المقاوم قد وصل إلى مفترق مستوطنة «غيتي أفيخاي»٬ وهو يقود السيارة بشكل جنوني، ثم قام بإطلاق النار من النافذة ليصيب جنديًا إسرائيليًا آخر، وحين حلت الساعة العاشرة بالتمام كان الشاب الفلسطيني قد تخلى عن السيارة مدججًا بالسلاح الذي سيطر عليه واتجه نحو بلدة بروقين التابعة لسلفيت حيث اختفى فيها.

وباختفائه بدأ الرعب الإسرائيلي يتسلل من هول صدمة هذه العملية التي ليس لها مثيل٬ وأهداف المنفذ اللاحقة التي قد تنفذ بسلاح الجندي القتيل أيضًا، ذاك السلاح المتطور من نوع طابور.

وتفاقمت هذه المخاوف في ظل الفشل في معرفة هوية الشاب الفلسطيني بسرعة كما هو المعتاد، وفيما أيقن الإسرائيليون أن وضع المزيد من المكعبات الإسمنتية لحماية جنودهم من منفذ العملية لن يفيدهم كثيرًا٬ انطلقوا في حملة واسعة للبحث عن هذا الشاب في مدن الضفة الغربية كلها.

عمر أبو ليلى.. وحده مع النصر المؤزَّر

مرت الكثير من الساعات في ذلك اليوم دون أن يُعرف من هو بطل العملية التي سماها الإسرائيليون «عملية أرائيل المزدوجة»٬ فيما سماها الفلسطينيون «عملية سلفيت»، فأخذ الجميع في سلفيت ومحيطها يتلمس حال البيوت التي خرج أحد رجالها ولم يعد.

كان هناك بيت هادئ يقبع في قرية الزاوية قضاء سلفيت، سكانه لا يبدون كحال جل الثائرين، يرفعون الرايات على أسقف المنازل أو يضعون صور منفذي العمليات في غرفة استقبال الضيوف، في هذا البيت كان سرير عمر أمين أبو ليلى فارغًا دافئًا، فظنت أمه أنه قد ذهب لشأن اعتيادي، فربما خرج ليواصل تعليمه كطالب جامعي في سنته الدراسية الأولى٬ أو يساعد والده في عمله بالقرميد (طوب الأسقف)؛ إذ تقتات العائلة من تلك المهنة.

لكن سرعان ما أصبح الخبر كالنار في الهشيم، فمنفذ عملية سلفيت هو عمر أبو ليلى، أعلنها الاحتلال بعد أن فاق من صدمته من نجاعة العملية، فأعلن أن «منفذ العملية هو الشاب عمر أبو ليلى (19 عامًا) من قرية الزاوية القريبة من سلفيت، وهو ليس معروفًا لأجهزة الأمن الإسرائيلية، كمن لديه ماضٍ في العمل المسلح أو النشاط السياسي».

وأسوة بما يحدث عقب اكتشاف منفذي عمليات المقاومة في الضفة الغربية، اقتحمت قوات الاحتلال منزل عمر لاعتقال والده وشقيقه، ولأخذ قياساته الهندسية تمهيدًا لهدمه، وذلك بعد قيامها بعملية تفتيش وفحص لكل زوايا المنزل علها تجد ضالتها للوصول لعمر، أخبرت تلك القوات أيضًا عائلة عمر أن ابنها مطاردٌ على خلفية تنفيذه العملية المزدوجة، ثم مضت تجند كل طاقات الوحدات الخاصة فيها٬ والشرطة الحدودية، و«جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك)٬» من أجل النيل من عمر في أقرب وقت؛ إذ كثفت هذه القوات من قدراتها التشغيلية والاستخباراتية لتحديد مكان الفدائي.

وعلم الفلسطينيون في القرى والمدن القريبة من مكان العملية مصيرهم من الاعتداءات الإسرائيلية جراء البحث عن عمر٬ الذي اختفى بينهم، فعلى الأرض تواصلت عمليات تفتيش المنازل والمحال التجارية، وفي السماء حلت طائرات الاستطلاع تراقب كل شيء، وقد كان نصيب بلدة بروقين الأكبر من هذه الاعتداءات؛ فعلى مدخلها عُثر على السيارة التي استقلها عمر.

«رامبو فلسطين».. يقاتل بسلاح عدوه حتى الرمق الأخير

وقع الحدث الأهم في رحلة البحث عن «رامبو فلسطين» كما لقبه المحتفون ببطولاته مساء أمس الاول الثلاثاء، عندما علم الجميع أن قوة خاصة تنكرت في زي بائعي الخضار، دخلت قرية عبوين، شمال غربي رام الله التي تبعد نحو 40 كم عن سلفيت حتى وصلت إلى مبنى مكون من طابقين.

حاصرت هذه القوات المنزل، ثم دعمتها أكثر من 40 آلية عسكرية إسرائيلية، وذلك بالتزامن مع اجتهاد شباب القرية بتشتيت هذه القوات عند هدفها بالاشتباك معها في مواجهات استخدم فيها جيش الاحتلال الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الصوت.

وبينما واصل سكان مدن الضفة الغربية ومدن غزة المثقلة بالهموم مراقبة مصير الشاب عبر البث المباشر من النشطاء، كان عمر ـ الذي اختار أن يبدأ معركته مع الاحتلال في وضح النهارـ يشتبك بالسلاح الذي استولى عليه من الجندي القتيل في عتمة الليل مع كل من جهاز  الأمن الإسرائيلي المعروف باسم (الشاباك) وجيش الاحتلال الإسرائيلي٬ ووحدة شرطة اليمام الخاصة؛ أولئك الذين استخدموا تقنية خاصة لتحديد مكان عمر.

وبرغم أن عمر حوصر بإرادة الاحتلال، إلا أنه هو من اختار بدء الهجوم بعد أن رفض الاستسلام، فأطلق على هذه القوات النار من البندقية الإسرائيلية، فيما لم تكتف تلك القوات بإطلاق الرصاص الحي على المقاوم الشاب؛ فأطلقت في اتجاه المنزل الذي يتحصن به أكثر من صاروخ «لاو» فهدمت أجزاءً كبيرة من المنزل، وحين توقف عمر عن إطلاق الرصاص بعد ساعتين من الاشتباك، لم يخاطر جنود وحدة اليمام بالوصول إليه بعدما فارق الحياة؛ فأرسلوا نحو المبنى كلبًا عسكريًا يحمل كاميرا على رأسه من أجل التعرف على ما حدث داخل المبني، فنقلت الكاميرا صورًا لجسد ممتشق سلاحه مُضرَّج بدمائه الحارة.

وفيما اعتبر الإسرائيليون أن قوة وحدة يمام الإسرائيلية الخاصة التي اغتالت عمر قد «أغلقت الحساب» مع منفذ عملية «أرائيل» المزدوجة، وبارك رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو  الاغتيال، قائلًا: إن العملية «جاءت سريعة، وإن يد إسرائيل الطويلة تصل إلى كل مكان» بارك والد عمر مقتل ابنه بيد أعدائه، وكتب على صفحته: «مبروك الشهادة يا ابني يا عمر».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى