اسكندر.. طفل متسول قرب اربد تناوبت على ازهاق روحه سيارتان  

 

سيدمغُ المشهدُ المأساويُ لمقتلِ الطِّفل اسكندر، ذي الثماني سنواتٍ، ختْمَهُ على ذاكرةِ إخوانِه، حينَ طارَ جسدُه في الهواءِ بصدمةِ سيارةٍ على إشارةٍ في محافظةِ إربد؛ لتقذفَه على المسربِ الآخرِ فتدهسُه سيارةٌ أخرى مفتتةً جسدَه الغض. بخاتمةٍ مرعبةٍ، انضمَ اسكندر الى ضحايا حوادثِ المرورِ بعدَ ستِ سنواتٍ من مقتلِ أبيه وأمه في حادثٍ مشابهٍ، بيدَ أنَّ مأساويةَ مشهدِ مقتلِ الطِّفلِ الذي كانَ يتسولُ على إشارةِ الصَّريحِ في إربد الشهرَ الماضي، تدفعُ إلى الواجهةِ قصةَ الآلاف من “أطفالِ التسوّلِ” الذينَ ينتهي عددٌ كبيرٌ منهم نهاياتٌ مشابهة. مشوارُ حياةِ “اسكندر” كُتِبتْ معالمُهُ التراجيديةِ مبكرًا، وهو فردٌ في أسرةٍ تضمُ 16 يتيمًا، جُلُّهم حُرموا من التَّعليمِ وأرغموا مع بَدءِ حياتِهم على استجداءِ النَّاس ساعاتٍ طويلة، متنقلينَ بينَ نوافذِ السياراتِ، في ظاهرةٍ تتسعُ صفوفُ المنخرطينَ فيها يوميًا.
يقولُ ذوو “اسكندر” إنَّه غادرَ مسكنَهم قاصدًا إشارةَ الصَّريح، حيثُ بقيَ هناكَ أكثرَ من سبعِ ساعاتٍ، انتهتْ بدهسِه تحتَ عجلاتِ سيارتين، تناوبتا على جسدِه حتى لفظَ أنفَاسَه الأخيرة.
وكالةُ الأنباءُ الأردنيةُ (بترا)، تتبعتْ مأساةَ الطِّفلِ الضَّحية على امتدادِ شهرٍ، منْ مسقطِ رأسِه في منطقةِ جابرَ السَّرحان في محافظةِ المفرق مرورًا بمنزلِ قريبِه حيثُ كانَ يقيمُ بمنطقةِ حوارة بإربد، وانتهاءً بجرش حيثُ يسكنُ أحدُ المتسببينَ بالحادث.
يروي صالحُ شقيقُ الضحيةِ “اسكندر” وهو في عقدِه الثاني، لـ(بترا)، أنه كانَ وإخوة آخرونَ برفقةِ اسكندر على الإشارة، لحظة وقوعه: “كنتُ على الجهةِ المقابلةِ، ومع انطلاقِ سيلِ السياراتِ لحظةَ بروزِ الإشارةِ الخضراء، شاهدنا اسكندر يطيرُ في الهواءِ بعدَ أنْ صدمتْهُ سيارةٌ سوداء، وألقتْ به على الشَّارعِ المقابِل، لتدهسُه سيارةٌ أخرى”.
يكملُ روايتَهُ مرتبِكًا “الصُراخُ عمَّ المكان، واقتربَ من اسكندر بعضُ الأشخاصِ وكانوا يقولونَ إنَّه “ميت”، بقيتُ أنا وإخوتي ننظر إلى أخينا وهو ينزفُ دونَ حراكٍ وأختُنا الصغيرةُ تبكي”.
إحدى أخواتُ اسكندر، تقولُ إنه كانَ جائعًا جدًا ومنهكًا، بعدَ أنْ أمضى أكثرَ منْ 7 ساعاتٍ على الإشارة، جمعَ خلالَها 25 قرشًا، موضحةً أنها كانتْ ترافقُهُ يوميًا إلى الإشارةِ والعودة بحصيلةٍ قد تقي أسرةً منكوبةً من الجوع. يقولُ شقيقٌ آخر لـ”اسكندر”، إنهم يسكنونَ شقةً في الطابقِ الثالثِ بالقربِ من بلديةِ حوارة وسطَ حيٍ شعبي، وفيها فراشٌ بسيطٌ، وخدمةُ انترنت وشاشةٌ كبيرة: نحن 16 أخًا لأبٍ وزوجتين”. أمَّا والدُ صاحبِ المنزلِ الذي تربطُهُ بأسرةِ اسكندر صلةُ قرابةٍ فقال “إنَّ الظروفَ المعيشيةَ الصَّعبةَ دفعتْ الأسرةَ للتسوّل، اذْ لحِقَ اسكندر بإخوتِه إلى الإشارة”. اسكندر لم يحصلْ على التعليم مثلَ كثيرينَ من أبناءِ جيله، وهو حق لا يحصلُ عليه كثيرٌ من الأطفال الأردنيين، حسبما يضيفُ قريبُ لإسكندر، موضحًا أنَّ نافذةَ التعليمِ الوحيدةِ المتاحةِ لهذه الفئة قد تكونُ عبرَ الانترنت اذا توفرتْ الخدمة.
يخلُصُ هذا القريب إلى “أنَّ في ممارسةِ التسولِ خطرًا كبيرًا، يجبُ أنْ يُمنعَ الأطفالُ خصوصًا منْ الانزلاقِ إليه، وها هو اسكندر يدفعُ ضريبةً قاسيةً بفقدانِه الحياة، بدلَ انْ يعيشَ حياةً سويةً ويلتحقُ بمدرسةٍ يخرجُ منها إلى المجتمعِ إنسانًا مهيئًا للانخراطِ في العملِ المنتج.
بينَ أخذٍ وردٍ، تتنازلُ عائلةُ الضَّحيةِ اسكندر عن حقِّها ضدَّ المتسببَ الأول بالحادث الذي أعطى العائلةَ مبلغًا ماليًا صنعوا به طعامًا عن روح الضَّحية، فيُطوى المِلفُ كما جرتْ العادة.
على الإشارة ذاتِها، امتنعَ رفاقُ اسكندر عن الحديث، وبعدَ محاولاتٍ وترددٍ وخوفٍ من مجهولٍ يراقبُهم، أوضحوا بلسانٍ واحد:” نترافقُ يوميًا، ونتوزعُ بينَ الإشاراتِ، حاملينَ ما تيسرَ لبيعِه على السائقينَ؛ ليبدو الأمرُ ممارسةً للبيع اذا ما داهمتهم فرقُ التفتيشِ الرَّسميةِ التي تتابعُ المتسولينَ في حملاتٍ يومية”.
“لا ندرسْ” “نعملُ هنا كلَّ يوم”، أكثرُ جملتينِ ردَّدَهُما رفاقُ اسكندر، الذي التحقَ بإخوتِه حتى لاقى مصيرَهُ المؤلم.
“كانَ اسكندر ممدًا على الشارع ورأسُه مسنودًا إلى الجزيرةِ الوسطية، كأنَّه نائمٌ أو جثةٌ هامدةٌ ولا حركة”، يصفُ أحمدُ الكيلاني شقيقُ أحدُ المتسببين بالحادث، وقال ” كانَ شقيقي الذي يعملُ في إحدى الدولِ العربية، قادمًا من عمَّان فتفاجَأ بالطفلِ، وعلى الرُّغم من محاولةِ تجنبِ دهسِه، إلا أنَّ السيارةَ دهستْ الطفل.
ويضيفُ، أنَّ شقيقَه سلّمَ نفسَهُ للشرطة، وبدأ الإجراءاتِ المتعارفِ عليها في مثلِ هذه الحالات، لافتا إلى أنَّ المؤلمَ “أنَّ الطفلَ الضحية دهستُه سيارتانِ أو ثلاث، إذْ إنْ شهودًا عديدين أفادوا بأنَّ هناكَ سيارةً ثانية دهستْ الطفلَ ولم يتوقفْ سائقُها، ولمْ يتمَّ القبضُ عليه حتى اللحظة وتطابقت الروايةُ مع رواية ذوي الضحية.
قريبا من الإشارة، تروي مواطنةٌ تعرفُ الضحيةَ اسكندر جيدًا، أنّها كانت تلتقيه يوميًا، ويطلبُ منها الطعام، فيرافقُها واختُه الصغيرة إلى المنزل لتعطيهما ما تيسَّر، وتقول: “كلَّ يومٍ أملأُ له حافظةَ الطعام، فينامُ بعدَ أنْ يشكو التَّعب من الوقوفِ طويلًا على الإشاراتِ والتنقل والعمل”. وأضافت أن اسكندر وأختِه كانا يلبسانِ ملابسَ صيفية في الشتاء، وتتساءل: متى تنتهي معاناةُ أطفالِ التسولِ بحلٍ جذريٍ؟! مستعيدةً شريطًا طويلًا لإسكندر وضحكاتِه وهو يُقبلُ عليها باكيًا ليطلبَ قليلًا من الأكل. مواطنونَ كُثر يجاورونَ إشارةَ الصَّريح، وسائقونَ يتوقعونَ أنْ يموتَ كثيرونَ على هذه الإشارةِ وبالطريقةِ ذاتها، “فهم يُلقونَ أنفسَهُم على السَّياراتِ وإنْ رفضَ البعضُ منحَهُم المالَ يقومونَ بسلوكٍ عدواني ضدَّهم. ورصدت “بترا” بعدَ أيامٍ من فاجعةِ اسكندر، عودةُ كثيرٍ من الأطفالِ إلى التسول على الإشارةِ ذاتِها، وهم يفرونَ فجأةً داخلَ الأحياء، عندَ قدومِ فرقِ مكافحةِ التسولِ التابعةِ لوزارةِ التنميةِ الاجتماعية. بانتهاء حياة اسكندر، وحسب الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادق عليها الأردن عام 1990، فإن الانتهاكات التي وقعت عليه تمثلت بعدم حمايته ولم يتوفر له النمو السليم، ولم يتعلم وتم استغلال طفولته بالتسول والعمل، والإساءة له ولم يتمتع بالحياة الفضلى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى