بدأ كلاوزفيتز حياته العسكريّة (وهو في الثانية عشرة من عمره) ضمن «النّظام القديم» في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، حين كانت الجيوش صغيرة ومحترفة، يموّلها التّاج وتتبع مباشرة للأمير. كان أكثر الضّبّاط في هذه الجيوش من أبناء الأرستقراطية، بقايا مرحلة الاقطاع وتقاليد الفروسية، يتسلمون مناصبهم العسكرية ويتوارثونها ضمن العائلة. والحرب، أساساً، هي مشكلة بين الأمراء، لا تعني الشعب إلّا بمقدار تأثيرها المباشر عليه – والحال لا تختلف في الشرق حيث ظلّت الحرب، لقرونٍ طويلة، ميداناً حصرياً لفئاتٍ متخصّصة كالمماليك، وطبقات محترفة من المقاتلين تشبه عسكر النبلاء في أوروبا، وغالبية «الشعب» خارج الموضوع تماماً.
هذا هو الجيش البروسي «القديم» الذي قاتل في حرب السنوات السبع (وقد أصبح والد كلاوزفتز، يومها، ضابطاً فيه، حين اضطرّ الملك إلى «توسيع» قاعدة الضباط عبر دمج نبلاءٍ من الدرجة الثانية، ثم تمّ تسريحهم بعد نهاية الحرب)، وهو الجيش الذي انخرط فيه كلاوزفيتز الابن. ولكن، خلال سنواتٍ قليلة، كان كلاوزفيتز يراقب نمطاً جديداً من «الجيوش الثوريّة»، تجتاح المسرح الأوروبي؛ ونابليون يقود جحافل المواطنين المجنّدين، ويحطّم بها عروش القارّة.
في كتابٍ قصير (أقلّ من مئة صفحة) ولكنّه مفيدٌ لمايكل هوارد عن فكر كلاوزفيتز، يشرح هوارد أنّ رسائل الجنرال البروسي لزوجته تكشف جانباً من شخصيّته لا يظهر في سطور كتابه الشهير «عن الحرب»، على ما يبدو، بحسب هوارد، فقد عاش كلاوزفيتز في حالةٍ من الإحباط المستمرّ. هو قضى أكثر حياته في الكلية العسكرية ومناصب إداريّة أخرى، ولكنّ حلمه كان في أن يدير معركةً فعليّة، لا أن يخطّط لها، وأن تكون له قيادة مستقلّة، ويصبح هو «الجنرال» الذي وصّفه في كتابه: يقف في عين المعركة ويقرأ ملامح الميدان ويضرب وفق خطّةٍ لا يراها غيره. ظلّ كلاوزفيتز يتحرّق لهذه الفرصة ولم يحصل عليها أبداً. بل، لسخرية القدر، حين خاض الضابط الشاب مواجهته الكبرى الأولى، بصفة مساعدٍ لأمير بروسي يقود كتيبة في الجيش الملكي، كان ذلك في معركة «ينّا» أمام نابليون: الهزيمة العسكرية الأكثر جسامةً وإذلالاً في التاريخ البروسي، حين سار نابليون في طول البلد وعرضه وهو يحطّم الجيوش البروسية ويلاحق فلولها، ويأخذ الأسرى بعشرات الآلاف. وقع كلاوزفيتز وقائده في الأسر وأُرسل إلى السجن في فرنسا ليعاني من صدمةٍ مزدوجة لم يتعافَ منها طوال حياته: النمط الجديد من الجيوش «الوطنية» التي سحقت العسكر القديم، وتجاهل أهل بلاده للهزيمة والإذلال الذين مرّ بهما جيشهم، كأنّ الحرب هي حرب الأمير ولا تعنيهم في شيء (لاحقاً، شهد كلاوزفيتز، وهو ملحقٌ كمستشار في الجيش الروسي، معركة بورودينو وانسحاب نابليون من شرق أوروبا، وسلسلة المعارك التي أنهت مغامرته العسكرية).
مايكل هوارد، على الهامش، مؤرّخٌ عسكريٌّ مهمّ، ولديه كتابات مشهودٌ لها عن التاريخ الأوروبي وهو أيضاً ساهم في ترجمةٍ لعمل كلاوزفيتز. في مقدّمته عن فكر كلاوزفيتز (منشورات أوكسفورد)، يقتبس هوارد كلام المنظّر الألماني عن أنّ الحرب الحديثة قد تصعّد عنفها واشتدّ أوارها و«خرجت عن كلّ قيودها التقليدية»، تحديداً، بسبب نمط السياسات الجماعية و«المساهمة الجديدة للشعب في القضايا الكبرى للدولة (كالحرب)»، ومن أراد الصمود فإنّ عليه التأقلم مع هذه الظروف التاريخية الجديدة. من الأساسي هنا، أن لا نخلط بين مفكّر مثل كلاوزفيتز وبين شخصيات من زمنٍ آخر كصن تزو مثلاً. صن تزو لديه تشكيلة من الأقوال الجميلة، بعضها كونيٌّ يتجاوز الزمن، وهي تصلح كاقتباساتٍ في خطابٍ أو على بطاقات المعايدة (على طريقة كتابات جبران خليل جبران)، فيما كلاوزفيتز فيلسوفٌ حقيقيّ.
يشرح هوارد كيف أنّ كلاوزفيتز كان يحاجج أساساً ضدّ تيّارٍ «علمويّ»، كان يصعد في الثقافة الأوروبية إجمالاً ويترك بصمته على علوم الحرب. الفكرة كانت أنّ الحرب فيها «قوانين» يمكن اكتشافها عبر الدراسة والملاحظة، وأنّها من الممكن أن تتحوّل إلى «علمٍ»، كباقي العلوم، تُخاض وفق حساباتٍ مسبقة، تلغي العامل البشري والمخاطرة واللايقين. بل إنّ بعض المنظرين الذين كان كلاوزفيتز يكتب ضدّهم، مثل فون بُلّو، حاججوا بأنّه في الإمكان «عقلنة» الحرب و«تعقيمها»، وتخيّلوا مستقبلاً تجري فيه الحرب كلعبة الشطرنج: يقوم الخصم بحركة، فتردّ أنت بمناورة، فيناور هو من جديد ويضعك في موقع ضعفٍ، فتفهم أنّك خسرت الحرب وتستسلم، وكلّ هذا من دون أن تُضرب طلقة مدفع واحدة.
جاء كلاوزفيتز ليخبرنا بأنّ الحرب لا تجري على الورق ولن تصبح يوماً «علماً» ولن يكون لها «كتيّب إرشاد». كلّ ما يمكن أن تتعلّمه عن الحرب عبر القراءة والدراسة هو أن تعرف ما حصل في الماضي، يقول كلاوزفيتز، وهذا لن يساعدك إلّا بقدرٍ محدود في ميدان معركةٍ لم يتكوّن بعد.
الفكرة هي أنّه توجد علاقة جدليّة، في الحرب كما في كلّ شيء، بين النظريّة والواقع. كلّ الخطط والحسابات والتدريبات العسكرية التي تجريها في رأسك لن تتحقّق على الأرض كما تتخيّلها. يصف كلاوزفيتز إدارة المعركة بالحركة ضمن سائلٍ أو في ماءٍ يحيط بك: كلّ حركةٍ تتبعها مقاومة، وكلّ خطوةٍ أو التفافةٍ لن تكون بالسهولة والسلاسة التي تصوّرتها. لأنّ الجيش مكوّنٌ من عددٍ هائل من الأجزاء المتحرّكة، فإنّ الخلل والمشاكل والعوامل التي لا يمكن توقّعها هي من صلب المعركة وجوهرها. العامل البشري، أي القائد، هو ليس من يحفظ الحسابات وزوايا القصف، بل من يعرف كيف يوجّه المعركة وهو في هذا السياق الصّعب، ويفهم وجهة المعركة فيما الآخرون لا يرون غير الفوضى، ويلمح «نقطة الارتكاز» عند العدوّ ويضرب بكلّ قوّته في اللحظة المناسبة (حتّى حين تكون المعلومات متضاربة، ولديه العديد من الأسباب حتى لا يثق بقراره).
هذه أمورٌ لا يمكن تعليمها وهي، يضيف كلاوزفيتز، ما يجعل الحرب أقرب إلى الفنّ منها إلى العلم، فأنت، على المستوى الأعلى للقيادة، عليك أن «تبدع» وترتجل، ولا معنى لأن يكون لديك جيشٌ مدرّب ومجهّز إن لم يتمّ توجيهه واستخدامه كما يجب. كلّ القدرات، يحاجج كلاوزفيتز، وكلّ التجهيز والمناورات والسياسة لن تنتج شيئاً من غير أن تتوّجها لحظة الامتحان: المعركة (يستخدم كلاوزفيتز بالألمانية تعبير «شلاخت» ـــــ Schlacht ـــــ وهو يعني أيضاً «المقتلة»، يكتب هوارد). تماماً كما تجري المقاصّة في نهاية الصفقة التجارية، ويتم تبادل المال، ونعرف حينها من ربح ومن خسر (ولا يهمّ ما حصل قبل ذلك من مفاوضات وكلام ومناورات)، فإنّ المعركة هي الاختبار الحقيقي للتاريخ، وعليك أن تدفع ثمنها دماً، على الحديد، في المحصلة، أن يحتكّ بالحديد، وهنا لا شيء يعلو على الإرادة البشريّة. من يحشد الإرادة والتصميم والقدرة على التضحية، ويستثمرها كما يجب في لحظة «المقتلة»، هو من ينتصر في نهاية الأمر.