هيّا نشترِ شاعراً

بقلم : إنصاف قلعجي

 

عالم مادي بحت، تسيطر المادة فيه على المجتمع، ويكون للأرقام والحسابات دور في تشييء البشر، بحيث يحمل الأفراد بدل الأسماء، أرقاما، ويقاس كل شيء بالغرامات وما يتبعها من أوزان شتى، وتختفي المشاعر التي تربط العائلة، فيستعملون مصطلحات غريبة مثل: نمو وازدهار وتعني مرحبا، أو لا تكسري محفظتي، أي أن الشخص الآخر يصيبه بالملل.

” هيا نشتر شاعرا” رواية قصيرة للكاتب البرتغالي أفونسو كروش، صدرت بالعربية عن دار مسكيلياني2017  ترجمة عبد الجليل العربي، يستهزئ فيها الروائي من الحال الذي آلت إليه بعض المجتمعات الاستهلاكية، يرويها الكاتب ضمن فصول مختصرة مكثفة. هذه المجتمعات والشركات المتحكمة في السوق المالي، حوّلت الإنسان إلى مجرد مستهلك لمنتجات الشركات. ويتحدث الكاتب بأسلوب ساخر عن انعدام القيم والروابط التي تربط الأفراد، وانعدام الثقافة واللغة واللغة والشعر والفن والخيال.. ويقاس فيها الإنسان بقيمة السلعة التي يمتلكها، فكيف يمكن أن نشتري شاعرا في ظل هذا الخراب؟

بطلة الرواية، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، تتساءل كيف يمكن إقامة ألفة بين الأشخاص لتحقيق نوع من الربح وإن كان ربحا عديم القيمة لأنه ليس ماديا ولا يمكن تحويله إلى أرقام أو استغلاله في الضرائب، كذلك فليس هو بمصدر دخل.. فتطلب من والدها أن يشتري شاعرا من السوق وليس رساما لأن الرسامين، كما قالت أمها، يقومون بالكثير من الأوساخ.

كان المكان أو الدكان يعجّ بشعراء من كل الأصناف: قصار، طوال، شقر، بنظارات(وهم الأغلى)” علما بأن الجزء الأكبر منهم، اثنين وسبعين في المائة، كانوا صُلعا وثمانية وسبعين في المائة كانوا ملتحين”. وكان الشاعر الذي اشتروه من النسخة التخريبية “وهي الخاصية الأكثر شيوعا بين الشعراء وتضاهي العنف عند الكلاب”..”وإلا فإن القيمة الشعرية لديهم تنزل كثيرا ولا تحقق أرباحا، لا أحد يشتريهم، فينتهي بهم الأمر إلى راقصين أو هامسترز” (نوع من الفئران) كما قال صاحب المحل.

هل الثقافة والشعر والخيال أمور مهمة في حياتنا؟ قضايا يطرحها كروش عبر هذه الرواية القصيرة، فيقول في” ما يشبه الخاتمة” بأن غورينغ له مقولة معروفة” عندما أسمع كلمة ثقافة، أرى حافظة مسدس”. يضيف كروش بأنها “علامة مهمة لإبراز قدرتها(الثقافة) على التهديد.. فإن لم يكن للفن وللثقافة أهمية فلا أحد يقبل على حرق مكتبة الإسكندرية أكثر من مرة، أو على تدمير بوذا باميان وآثار تدمر. وإن لم تكن الثقافة مهمة حقا، فإن غورينغ ما كان ليخرجها من حافظة المسدس”.

الشاعر الذي اشترته العائلة، يحدث تغييرا كبيرا في حياتهم، رغم أنه يعيش عزلة تامة وينام في زاوية تحت الدرج، ينثر مجازاته بين الفترة والأخرى على مسمع الفتاة التي كانت باستمرار تتوق إلى تغيير نمط الحياة الرقمي، وإلى إدخال مشاعر مختلفة لبيتهم لتكسر روتين الحياة. يكتب الشاعر جملة مكونة من ثلاثة وعشرين حرفا على الجدار فوق سريره، تقول:”كيف للبحر الكبير جدا أن تحويه نافذة صغيرة جدا؟”. ويصرّ أنها نافذة تطل على البحر. فتغضب الأم وتتساءل: هل فتح نافذة دون رخصة من البلدية؟.. ثم تعترف الفتاة بعد مجموعة أحداث أن الشعر بدأ يصيب أهل البيت. إذ يحدث الشاعر تغييرا في سلوك الشخصيات، وثورة في حياتهم، فالأم التي كانت تمارس حياتها، كأي أم، مسؤولة عن الأمور المنزلية بدأت تثور وتحاول التمرد على وضعها، وتلقي بين الفينة والأخرى بعض الجمل التي تتضمن عبارات شعرية والأب كره الشاعر الذي وجده عبئا عليهم، ويردد الشاعر باستمرار كلاما شاعريا كيفما تحرك في البيت، يقرر الأب تخفيض النفقات وشد الأحزمة على البطون.

صار اهتمام الفتاة فقط بما يقوله الشاعر، فتراه يتكلم مع كتبه وكأنه يتكلم مع أصدقائه. فيسأل فلوبير ماذا يعتقد في هذا أو ذاك، فيفتح الكتاب ويجد الجواب.. فكانت تجلس معه على سريره لترى البحر من النافذة!!

يقرر الأب طرد الشاعر الذي اعتاد أن يتجول في البيت ويلقي القصائد، وهذا ما خلق نوعا من الأجواء المتوترة خاصة وأن كلام الفتاة أصبح مليئا بالتشبيهات وبالجناس والقوافي والاستعارات. والأم التي كثرت التجاعيد في وجهها تقول بأن التجاعيد هي ندوب العواطف التي تجتاحنا في الحياة. ثم تطلقت من زوجها إذ ” صارت لها أفكار أعلى من طبخ السباغيتي بالبولينيزا والبازلاء، لتجني في المقابل مليغرامين من اللعاب في شكل قبلة أو كلمات مرهقة”.

ومن أجل حل مشاكله الاقتصادية المتعثرة في المصنع، تجد الفتاة في جيب أبيها المليئة بالحسابات والأرقام، كتابة بقلم رصاص على منديل ورقي: القبلة هي الأنجع لحرارة الجسم، وكانت الفتاة متأكدة أن الشاعر استعمل هذه العبارة، وتأثر الأب فقرر إدخال نظام التدفئة في المصنع لزيادة الإنتاج.

وتبقى الفتاة على اتصال بالشاعر الذي طرد من البيت ليقيم في حديقة عامة قريبة، تزوره، “نجلس معا ونقول أشياء غير نافعة، وبعضها قد يصلح ليكوّن قصائد. وهو ينظر إليّ والدموع في عينيه.. وأنا أحتفظ باستعارة في الحلق، أعانقه فنبقى سعيدين لمدة ثوان، أو بالأحرى لمدة أبدية”. وقد قال لها: إن الشعر يغيّر العالم ويبرز الحقيقة مكتوبة بغموض الدقة المطلق.. الشعر إصبع مغروس في الواقع والشاعر كمن يخرج من الحمّام ويمرر يده على المرآة المكدرة ليكشف وجهه. وأبيات الشعر تحرر الأشياء، وإننا حين ندرك شاعرية الحجر فإننا نحرره من”تحجره”، ننقذ كل شيء بالجمال. ننقذ كل شيء بالشعر. ننظر إلى جذع ميت فنبعث فيه الحياة..

وتردد الفتاة ما قاله الشاعر”.. وقبل أن ننام يجب علينا أن نكرر الصلاة: عليّ أن أقطع أميالا قبل أن أنام”.

فأين نجد شاعرا ؟ وأين هو الشاعر الذي يغيّر وجه العالم القبيح… ويضيء الزوايا المظلمة فينا ؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى