عاشت السخرية لانها تعين الانسان على تحمل الالم

انتشر مؤخرا على الصعيد العالمي أسلوب علاجي يعرف بالعلاج بالفكاهة أو “الفكاهة العلاجية”، من خلال الكتب أو السينما أو الحكايات وغيرها، من أجل تحفيز المناقشة العفوية للمرضى، وتشجعيهم على تفريغ شحناتهم وانفعالاتهم السلبية.

هذا الاهتمام بالمرح تحول مؤخرا إلى أيقونة ووصفة جاهزة من كلمتين “عش ضاحكا” لتمكين إنسان العصر الحديث من محو آلامه، وعدم الاكتفاء بتخديرها.

وقد ظهرت مؤلفات عديدة في هذا المضمار، وتناول باحثون وكتّاب مصريون منهم الدكتور شاكر عبدالحميد والكاتب عادل حمودة والدكتورة عزة عزت وغيرهم؛ انعكاسات الفكاهة على الفرد والمجتمع على حد السواء.

من الوظائف الاجتماعية للفكاهة، على سبيل المثال، التي يرصدها الدكتور شاكر عبدالحميد في كتابه “الفكاهة والضحك”، الصادر عن سلسلة “عالم المعرفة”، تحقيق التفاعل والتواصل وتنمية التشجيع بين الأفراد والجماعات، وطرد الخوف والإحباط، وتعزيز التماسك، وإزالة الانفعالات السلبية والضغوط العصبية، وتحفيز العقل والخيال والجهاز المناعي ورفع مستوى مقاومة الأمراض.

ويذهب الكاتب عادل حمودة إلى أن المرح له دور إيجابي في تنشيط حركة المجتمع إلى الأمام، خصوصا ما يتعلق بالكوميديا السياسية و”النكات” التي يعبر بها المصريون عن أحوالهم وينتقدون حكامهم. وترى الدكتورة عزة عزت في كتابها “التحولات في الشخصية المصرية”، الصادر عن “دار الهلال” أن سخرية المصريين الدائمة هي تنفيس عن المرارة والقهر، فالشخصية المصرية معروفة بخفة الظل على طول الخط.

من المؤمنين الجدد أيضا بفلسفة الضحك، والدارسين لها، الدكتور شريف عرفة، الكاتب والباحث المختص في مجال علم النفس الإيجابي، إذ يفرد للمرح والسخرية مبحثا واسعا ضمن مؤلفه “إنسان بعد التحديث.. دليلك العلمي للارتقاء النفسي”، الصادر حديثا عن “الدار المصرية اللبنانية” بالقاهرة في أكثر من أربعمئة صفحة.

“السخرية تعين الإنسان على تحمل الألم”، هكذا يوضح عرفة في كتابه “إنسان بعد التحديث”، مشيرا إلى أن الباحثين وجدوا أن المرضى الذين شاهدوا أفلاما كوميدية أثناء تعافيهم من عمليات جراحية، كانوا أقل تعاطيا لمسكنات الألم، خصوصا لو اختاروا بأنفسهم الفيلم الكوميدي الذي يناسبهم.

كتاب عرفة، الذي يقع ما بين كتب التنمية الذاتية وكتب علم النفس التخصصية، يستهدف القراء العاديين بأسلوب مبسط ونماذج حياتية، فضلا عن استهدافه الباحثين بدراسات علمية أكاديمية. ;يشير إلى فائدة صحية أخرى للكوميديا، قائلا “مشاهدة فيديو ضاحك مدته عشر دقائق من شأنها تقوية إرادة الإنسان، ومساعدته في مقاومة رغباته، كالرغبة في التدخين مثلا”.

المتعافيات من سرطان الثدي، اللاتي يسخرن من المرض، كن أفضل حالا من غيرهن، وفق رؤية شريف عرفة لمنافع السخرية، كما كن أقل شعورا بالكرب بعد العملية بثلاثة شهور، ثم بعد ستة شهور، ثم بعد سنة كاملة، قبل أن يتوقف العلماء عن المتابعة.

السخرية تؤدي إلى التفاؤل، والتفاؤل يقود إلى تحسين المناعة، وقوة التحمل، لذلك اقترح عرفة في محاضرة ألقاها بمؤتمر الجمعية المصرية لجراحي الأسنان عرض مواد كوميدية في غرفة الانتظار بعيادات الأسنان، لأن هذا مفيد لتهيئة المرضى نفسيا وفسيولوجيا قبل الإجراء الطبي.

ووجد العلماء أن الأشخاص الذين يستخدمون “كوميديا الموقف” في حياتهم اليومية، كالسخرية من مفارقات الحياة والضحك الاجتماعي، يكونون أكثر اتزانا وتصالحا مع أنفسهم من الذين يستخدمون الكوميديا العنيفة القاسية، كالاستهزاء بالآخرين وإهانة النفس. وينفي عرفة أن السخرية وسيلة للهروب من المشاكل، قائلا “درس العلماء علاقة السخرية بمشاكل وضغوط الحياة، فوجدوا أن الناس الأكثر سخرية من أحوالهم هم الأكثر إدراكا لمشاكلهم والأكثر قابلية لمواجهتها والتعامل معها”.

حين يسخر الإنسان من مشكلة، فإنها لا تعود شيئا مخيفا مرعبا، فيسهل عليه مواجهتها والتعامل معها بأقل ضرر عاطفي ممكن. السخرية، كما يرى شريف عرفة “واحدة من أرقى الدفاعات النفسية وأكثرها نضجا وفائدة للإنسان عند مواجهة الصعاب”. السخرية، بهذا المنطق، ليست هروبا، فالهروب هو تجنب التفكير في الموضوع أصلا. بينما تحتاج السخرية إلى إدراك للمشكلة، والنظر إليها بطريقة تخفف من وطأتها، ليستطيع الإنسان مواجهتها بعد ذلك

الناس في المراحل الأقل من التطور، يميلون للدعابة العنيفة، كالسخرية من أشكال الناس ونقائصهم. أما الذين وصلوا إلى مراحل عالية في تطورهم النفسي، فيلاحظ عرفة أنهم يتميزون بنوع مختلف من الدعابة، هو “الدعابة الوجودية”.

هذه الدعابة الوجودية تعني السخرية من الأوضاع والأحوال ومفارقات الحياة ذاتها، والقدرة على تجاوز النظرة التقليدية إلى الأمور، ورؤيتها من زاوية مختلفة تثير السخرية والتهكم من أنفسهم، ومن الحياة. سخرية المنظور، أو السخرية الوجودية، كما يرى عرفة، هي “قدرتنا على الانفصال ذهنيا عن أنفسنا، والنظر إلى الأمور بشكل كلي، كالمراقب من بعيد، كي نستطيع ملاحظة المفارقات العديدة في أنفسنا وفي مجتمعنا، بل وفي الحياة ذاتها”.

كثيرون يزعجهم هذا النوع من السخرية، فلا يستطيعون الضحك على حياتهم، لأنهم عاجزون عن رؤيتها بعين أخرى. الشخص ذو العقلية القبلية، يرى الدنيا من منظور واحد، وينزعج من رؤية الحياة من منظور آخر. الإنسان المستقل، القادر على السخرية، يستطيع رؤية الدنيا من أكثر من منظور.

كلما ارتقى الإنسان نفسيا أصبح موضوع السخرية لديه أكثر عمقا وأقل عدوانية تجاه الآخرين. “لنفعل هذا، علينا اعتماده بالممارسة، بالضحك على حياتنا نفسها”، كما ينصح عرفة أحباء المرح وأصدقاء الضحك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى