ظاهرة الحنين السياسي لناصر بين محبيه وكارهيه !

بقلم : نبيل عبدالفتاح/القاهرة

السجال حول شخصية جمال عبدالناصر، ومحاولات تقييم دوره التاريخى، وتجربته فى التنمية والتغير الاجتماعى، قديم منذ بداية الحدث السياسى الكبير فى 23 يوليو 1952، ولا يزال مستمراً، إلا أن العودة مجدداً تنطوى على ما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة الحنين التاريخى للزعامة، والكاريزما وسحرها السياسى الجماهيرى، فى سياقات تجاوزتها كونيا، وإقليميا. من ثم يبدو مشروعاً التساؤل، الذى يكمن وراء هذا الحنين، ولماذا يستدعى فى بعض مستويات الوعى الاجتماعى والسياسى؟ ولماذا يستعر السجال الضارى بين المولعين باستدعاء الكاريزما، والدور والمكانة، وبين هؤلاء الذين يطرحون خطاب القدح والذم القاسى حول الرجل والتجربة؟

يمكن لنا أولا: توصيف الاتجاه المناهض للتجربة الناصرية، من ناحية الانتماء الاجتماعى – السياسى فى القوى التالية:

1-     بقايا الشرائح الاجتماعية العليا من الفئات شبه الرأسمالية وشبه الاقطاعية أو ما كان يطلق عليهم مجتمع النصف فى المائة، ومن ثم تأثروا سلبيا بالسياسات الاجتماعية والتأميمات للشركات والمصارف، وقوانين الإصلاح الزراعى المتعاقبة كجزء من مطالب الإصلاح الاجتماعى، الذى كانت تطرحه عناصر مثقفة فى المرحلة شبه الليبرالية، لاسيما مشروعات جماعة الغد – مريت غالى، ومحمد زكى عبد القادر… الخ – وإبراهيم شكرى، وذلك لمعالجة مشكلات الفقر والوقاية من اضطرابات مستقبلية محدقة على النظام والمجتمع.

2-      بعض الفئات الوسطى – الوسطى من كان لديها بعض من الملكيات، وتأثرت سلباً بالإصلاح الزراعى.

3- القوى شبه الليبرالية من قادة وأعضاء الأحزاب السياسية وعلى رأسها حزب الوفد والأحرار الدستوريين وحزب الشعب.. الخ. وبعض الجماعات الماركسية.

4-     بعض الأقباط من الفئات الوسطى العليا والوسطى – الوسطى المضارين من التأميمات والإصلاح الزراعى، ومن نهاية المرحلة شبه الليبرالية، ومن ثم تراجع دورهم السياسى البارز فيها، وعدم مشاركة الأقباط فى هيكل تنظيم الضباط الأحرار باستثناء ضابط برتبة ملازم من الصف الثالث، فضلا عن علاقة بعض قادة التنظيم بالإخوان المسلمين كأعضاء، أو ذوى صلة بالجماعة.

5-      بعض المجموعات الرأسمالية الجديدة، التى راكمت بعض ثرواتها من خلال شبكات فساد فى جهاز الدولة، منذ نهاية الستينيات، وبعد الانفتاح الاقتصادى، وفى عهدى السادات ومبارك، والفوضى والفساد، وبيع المشروعات العامة بأبخس الأثمان، وهؤلاء وآخرون يرمون إلى غسيل أصولهم الاجتماعية المتواضعة.

6-      جماعة الإخوان المسلمين، ومعهم الجماعات الإسلامية السياسية وبعض الأزهريين، والسلفيين، ومعهم بعض من راكموا ثروات من العمل فى إقليم النفط.

الغالبية العظمى من هذه التكوينات خطابها شعارى ويحملُ أحكاما قيمة، ولم يقدموا رؤية أو خطابات تأسيسية تقوم على درس تاريخى للتجربة والرجل فى مسارها التاريخى كجزء من تطور الحركة القومية المصرية مع بُعد عروبى، كمجال لتحرك السياسة والدور الإقليمى والعالم ثالثى المصرى فى إطار حركة التحرر الوطنى فى القارات الثلاث. قلة قليلة هى التى قدمت دراسات فى العمق لاختلالات المشروع والتجربة والزعامة السياسية.

الاتجاه الثانى: الخطاب الرسمى حول ثورة يوليو 1952، وهو النمط التاريخى المستمر لبعض مؤرخى السلطة الذين يتبنون مقولاتها وانحيازاتها فى تشكيل السردية التاريخية للنظام ومديح قادته، أو نقد بعضهم فى عهد الآخرين، على نحو ما حدث أيام السادات ومبارك. هذه السرديات التاريخية الرسمية معطوبة، وهى جزء من سياسة تشويه الوعى التاريخى والاجتماعى والسياسى للمصريين.

الاتجاه الثالث: مديح ناصر والثورة، ويتشكل من بعض الناصريين، والماركسيين الذين شاركوا فى تجربة ناصر التنموية، ومؤسسات النظام، بعضهم تصل مغالاته إلى تحويل ناصر إلى أسطورة سياسية تتجاوز حدوده الإنسانية والسياسية والسياقات التاريخية لمشروعه ونجاحاته وإخفاقاته وهزائمه.

الاتجاه الرابع: يشمل فئات اجتماعية واسعة ممن عاشوا التجربة الناصرية واستفادوا من السياسات الاجتماعية العدالية، لاسيما اتساع قاعدة التعليم للفئات الوسطى الصغيرة وأبناء المعسورين من العمال والفلاحين، واستفادوا من الحق فى الصحة والعمل والتعليم، وأيقظت الكاريزما الناصرية الكبرياء القومية المصرية، واستقلالية القرار السياسى وقيادة حركات التحرر الوطنى فى إطار عالم عدم الانحياز. لايزال ناصر ساكنا فى ذاكرة هذه الأجيال والقوى الاجتماعية. السؤال المطروح لماذا الحنين الجارف إلى ناصر الزعامة السياسية الكاريزمية ورجل الدولة رفيع المقام؟. الحنين – النوستالجيا التاريخية والسياسية – هى علامة على البحث عن التماسك والتوازن السوسيو – نفسى فى لحظات الإحباط الجماعى، إزاء الآخرين فى الإقليم لاسيما فى ظل الغموض، والاضطراب وعدم الاستقرار والمستقبل الغائم، والحياة المعسورة وانسداد الآفاق فى الحاضر المأزوم. يستدعى ناصر فى الوعى شبه الجمعى بعيداً عن تجربته وسياقاتها وعالمها وضغوطها ونجاحاتها، وغالباً ما تتراجع سلبياتها إلى الوراء فى الوعى الجماهيرى، وتبقى شخصية القائد الوطنى البارز وإنجازاته الاجتماعية، ودوره فى إقليمه وعالمه، كتعبير عن اكتمال القومية المصرية والدولة الحديثة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى