نصف قرن على الخيارات الصعبة لإزالة آثار العدوان!

 

لم يكن أمام العرب والفلسطينيين مفر من اختيار أهون الشرين، ومن تأجيل إزالة ما تبقى من آثار العدوان، إلى حين إنفاد البشرية من وباء الإرهاب

كان عبد الناصر هو الذي صكّ شعار “إزالة آثار العدوان” حدث ذلك في الرسالة التي وجهها إلى مجلس الأمة المصري يوم 10 حزيران 1967، يبلغه فيها أنه استجابة لإرادة الشعب المصري، والشعوب العربية، التي خرجت جماهيرها في اليوم السابق، ترفض قراره بالتنحي عن رئاسة الجمهورية، قرر أن يبقى في مكانه، إلى أن تتم إزالة آثار العدوان.. فيعود أمر رئاسة الجمهورية إلى الشعب.

وخلال الفترة القصيرة، التي عاشها بعد إطلاق هذا الشعار، ولم تتجاوز ثلاث سنوات، أضاف عبد الناصر إليه شعارين آخرين هما لا صوت يعلو فوق صوت المعركة وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة لتصوغ هذه الشعارات الثلاثة أحلام الأمة العربية خلال السنوات الست التى فصلت بين هزيمة يونيو 1967، ونصر أكتوبر 1973.

ومنذ ذلك الحين، خاصة بعد زيارة الرئيس السادات للقدس المحتلة في خريف 1977، خفت صوت الشعارات الثلاثة تدريجياً حتى تلاشى، فلم يعد أحد يذكرها، أو يذكّر بها غيره، إلى أن أتمت هزيمة يونيو 1967، فى هذا الأسبوع عامها الخمسين، لنكتشف أن معظم آثار العدوان لا تزال قائمة، فالجولان السورية لا تزال محتلة، والضفة الغربية لنهر الأردن تحولت إلى مستوطنات للإسرائيلين، بينما أعلنت إمارة غزة الإسلامية استقلالها تحت الحصار الإسرائيلي، وتحولت سيناء إلى ساحة للحرب بين ما يسمى بـالدولة الإسلامية فى العراق والشام/ داعش وبين قوات إنفاذ القانون في الجيش المصري، ولا تزال المحادثات تجري – فى كواليس السياسة الدولية – حول إتمام صفقة القرن، التى سوف تزيل ما تبقى من آثار العدوان.. وتسفر عن إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، على حدود 4 يونيو 1967.

خلال نصف القرن الذي انقضى، اختفت – فضلاً عن هذه الشعارات الثلاثة – أسماء وتحالفات ودول وكيانات: على الصعيد القومي اختفى من الرؤساء عبد الناصر والسادات ومبارك وياسر عرفات والحبيب بورقيبة ونور الدين الأتاسي وحافظ الأسد وهواري بومدين وجعفر نميري والقذافي ومن الملوك والأمراء فيصل وحسين والحسن الثاني وعبد الله الصباح.. إلخ، كما اختفت على الساحة الدولية أسماء كوسيجين وبريجفيف وجونسون ونيكسون وكارتر وريغان وديغول وتاتشر ويارنج.. إلخ، واختفت جبهة دول الطوق التى كانت تتشكل من الدول العربية المحيطة بإسرائيل، وجبهة الصمود والتصدي التى تشكلت مما كان يوصف آنذاك بالدول العربية الثورية التي قررت أن تواصل العمل لإزالة آثار العدوان، بعد زيارة السادات للقدس المحتلة.

وكان جرح الهزيمة لا يزال طرياً، حيث علق المثقفون العرب فأسها في عنق نظم الحكم اللاديمقراطية التي كانت تحكم الوطن العربي، وقيل أيامها إن إزالة آثار العدوان لن تتم إلا إذا استردت الشعوب العربية حرياتها المهدرة، وشاركت في الحكم.. وحين نوقش الأمر في سلسلة من الاجتماعات عقدها مجلس الوزراء المصري لدراسة أسباب الهزيمة، اقترح عبد الناصر – استرشاداً بتجربة كمال أتاتورك في تركيا- أن ينقسم الاتحاد الاشتراكي العربي – وهو التنظيم السياسي الوحيد في مصر أيامها – إلى حزبين أحدهما يحكم، والآخر يعارضه، وأن يستدعي لقيادة حزب المعارضة اثنين من قادة ثورة يوليو 1952، كانا قد تركا السلطة، بسبب اعتراضهما على ما اعتبراه أيامها جنوح عبد الناصر المفرط إلى اليسار، هما عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، لكن الفكرة وجدت من يعترض عليها بقوة استناداً إلى أن الحرب ضد عدو يحتل الأرض، تتطلب الوحدة الوطنية، وليس تفتيت الجبهة الداخلية بالصراعات الحزبية، وبالتالي فإن التوقيت الملائم لتنفيذها، يكون بعد إزالة آثار العدوان وليس قبل ذلك!

وكان ذلك ما اقتنع به عبد الناصر خاصة بعد مظاهرات الطلاب والعمال، التي اندلعت احتجاجاً على الأحكام المخففة التي صدرت بحق المسئولين عن الجانب العسكري من الهزيمة، وأسفرت عن إصدار بيان 30 مارس 1968، الذي أمسك العصا من المنتصف، فوعد المصريين بإعادة حرياتهم السياسية إليهم، وبإقامة نظام ديمقراطي أقرب إلى الجمهورية البرلمانية، منه إلى الجمهورية الرئاسية التسلطية التي كانت قائمة، لكن بعد إزالة آثار العدوان.. وليس قبله.

وهكذا وجد المثقفون المصريون، الذين طالبوا بإطلاق الحريات السياسية كوسيلة وحيدة لإزالة آثار العدوان، أنفسهم أمام تنويعة أخرى من الخيارات الصعبة التي فرضت عليهم أن يختاروا بين الحرية السياسية والحرية الاجتماعية، فاختاروا الثانية على أمل أن يقود تحقيقها إلى تحقيق الأولى، فكانت النتيجة هي هزيمة 1967، التي خيرتهم هي الأخرى بين أمرين أحلاهما مرّ: أن يحرروا الأرض أو أن يحرروا إرادتهم السياسية المقيدة!

وكان غريباً أن أنور السادات – الذي اختاره «عبد الناصر» ليخلفه – لم يجد صعوبة في الموازنة بين المعادلتين ولكن على طريقته، فما كاد ينتصر فى 15 مايو 1971 على منافسيه من «ورثة عبد الناصر» فى معركة الصراع على السلطة، حتى أصدر دستور 1971، الذي كان مؤجلاً – في بيان 30 مارس 1968 – إلى ما بعد إزالة آثار العدوان، وما كاد ينتصر على العدو في حرب 1973، حتى اندفع يعلن أن هذه الحرب، هي آخر الحروب، ويلهث وراء جني ثمار هذا النصر، مبدياً استعداده لقبوله أقل سعر يعرض عليه ثمناً له.. ويلوح للذين يحلمون بالديمقراطية بأنه سيتبع سياسة تقوم على الانفتاح الاقتصادي والسياسي.

لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفينة السادات، الذي أراد أن يلوح بخيار الديمقراطية للغرب، لكي يساعده على إزالة ما لم تزله حرب أكتوبر 1973، من آثار عدوان يونيو/حزيران 1967، فإذا بثمار الانفراجة الديمقراطية المحدودة التى تحققت في عهده، تنقسم بين الذين حاولوا استغلالها لكي يفرضوا عليه أن يعيد إلى الحياة شعار ما أخذ بالقوة.. لا يسترد بغير القوة، والذين رفعوا السلاح ضده، وليس ضد العدو الذي احتل الأرض، لكى يقيموا دولة الخلافة باعتبارها الطريق الوحيد لإزالة آثار العدوان.

وكانت النتجية أن اغتالوه في يوم الاحتفال بالعيد الثامن لنصر أكتوبر، ليجد العرب والفلسطينيون أنفسهم بعد 30 عاماً من رحيله وفي أعقاب ما سمي بـثورات الربيع العربي أمام طبعة جديدة من خيارات يونيو الصعبة، تفرض عليهم أن يختاروا بين العمل على إزالة آثار العدوان الإسرائيلي، وبين مواجهة عدوان الإرهابيين العرب، الذين يصرون على أن الطريق الوحيد للنصر، هو إبادة دولة الطاغوت، التى لا تقتصر على النظم الحاكمة في العالم العربى والإسلامي، بل وتشمل كذلك كل النظم الكافرة التي تحكم المعمورة. ولم يكن أمام العرب والفلسطينيين مفر من اختيار أهون الشرين، ومن تأجيل إزالة ما تبقى من آثار العدوان، إلى حين إنفاد البشرية من وباء الإرهاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى