جهات متعددة تصنع السياسة الخارجية لادارة ترامب.. باستثناء ترامب نفسه
بين التقليل من دور الرئيس الأمريكي في صنع السياسات مقارنة بالمؤسسات المختلفة، سواء رجال حكومته ومؤسساتها المختلفة أو أعضاء الكونجرس أو جماعات الضغط ومراكز التفكير، وبين العكس، أي إعطاء الرئيس مكانة أكبر في هذا الشأن، يظل الجدل قائمًا حول من يصنع القرار في واشنطن؟ وتكتسب عملية البحث عمن سيلعب الدور الأكبر في وضع تصورات السياسة الخارجية في عهد الرئيس ترامب أهمية أكبر مقارنة بما كان عليه الأمر في الماضي لسببين: أولهما، تدهور سمعة مراكز الأبحاث و”مركز التفكير” بسبب إخفاق التصورات التي وضعتها هذه المراكز على مدى ربع قرن للحفاظ على مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في النظام الدولي الذي اتسم بالسيولة وعدم اليقين منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق عام 1992. وثانيهما، وصول شخصية مثل ترامب إلى مقعد الرئاسة، والذي لا يخفي نقده للمؤسسات كافة، سواء مؤسسات الدولة، أو مؤسسات المجتمع المدني من إعلام ومراكز أبحاث وأحزاب، بما يعطي الفرصة (نظريًّا) لتغليب دور الفرد على دور المؤسسات في صناعة القرار الأمريكي داخليًّا وخارجيًّا.
تراجع دور المؤسسات التقليدية في صنع القرار
من المعروف تقليديًّا أن هناك ثلاث جهات مناط بها وضع الرؤى والتصورات الخاصة بالسياسة الخارجية الأمريكية، هي: البيت الأبيض بشكل رئيسي (الرئيس، ونائب الرئيس، ومستشار الأمن القومي)، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي حيث يقتصر دور المؤسستين الأخيرتين على تنفيذ هذه السياسات.
وتوضح عدة مؤشرات تناولتها الصحف الأمريكية أن حجم دور هذه المؤسسات سيتوقف على قوة من سيرأسها، وهو أمر له سوابقه في التاريخ الأمريكي الحديث. فعلى سبيل المثال، كان وجود هنري كسينجر في منصب مستشار الأمن القومي في الولاية الأولى للرئيس ريتشارد نيكسون (1968- 1972) سببًا في تهميش دور وزارة الخارجية في رسم السياسات الخارجية، وعندما انتقل في الولاية الثانية – والتي استمرت حتى عام 1974- إلى وزارة الخارجية زاد نفوذ الوزارة على حساب شاغل منصب مستشار الأمن القومي. أيضًا، يمكن أن ينتقل ثقل صناعة القرار الخارجي إلى نائب الرئيس كما حدث في ولاية الرئيس جورج بوش الابن الأولى والثانية، فقد وصف أحد العاملين في ال CIA في ذلك الوقت كوندليزا رايس (تولت المنصبين مثل كسينجر) بأنها: كانت أضعف مستشار للأمن القومي خلال عقود طويلة، وأن المستشار الفعلي كان نائب الرئيس ديك تشيني، فقد كان يمتلك أكبر فريق أمن قومي اجتمع لنائب رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، حتى إن عدده فاق عدد أعضاء مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس جون كيندي.
فيما يتعلق بإدارة ترامب أشارت الصحف الأمريكية إلى شخصيات بعينها رشحتها بأن تكون صاحبة التأثير الأكبر على صنع السياسات الخارجية، وأنها قد لا تستغل فقط قربها من الرئيس لتهميش المؤسسات التقليدية المتصلة بعملية صناعة القرار الخارجي، بل يمكن أن تبادر لخلق مؤسسات جديدة تتولى هذه المهمة.
فقد كتبت الواشنطن بوست في 2 شباط الماضي مقالًا لجوش روجن. اشار فيه إلى الأهمية التي يتمتع بها رئيس الفريق الاستراتيجي لترامب، ستيفن بانون ، ويصفه بأن دهاءه تفوق على أعضاء الحكومة وحتى قيادات الجمهوريين في الكونجرس. كما وضعته جريدة TheDaily Beastفي مقال نشره كيمبرلي دوزيير في مطلع شباط الماضي- مع زوج ابنة ترامب “جاريد كوشنير” الذي عينه ترامب مستشارًا ومساعدًا له- كأهم مساعدي الرئيس ترامب. ويقف بانون وكوشنير وراء تأسيس مركز جديد داخل البيت الأبيض لتقديم الاستشارات للرئيس تحت مسمى “مجموعة المبادرات الاستراتيجية” SIG ليتحول إلى منافس لمجلس الأمن القومي NSC. ويذهب بعض القريبين من الرئيس ترامب إلى أن “مجموعة المبادرات الاستراتيجية” ستستعين بقرابة عشرين خبيرًا في تخصصات مختلفة لمد البيت الأبيض بتقديرات للموقف وتصورات عن السياسات الداخلية والخارجية المطلوب تطبيقها، وأن الأسماء المرشحة سيتم اختيار معظمها ممن يهتمون بالسياسات الداخلية مثل تحديث البنية الأساسية وشئون الصناعة والتكنولوجيا الحديثة. ويتولى مساعد الرئيس كريستوفر ليديل وعضوية مساعد آخر وهو سيبستيان جوركا إدارة هذه المجموعة، وكلاهما عمل مع بانون أثناء إدارته للموقع الإخباري المعروف Breitbart الذي كان يدير حملة ترامب الانتخابية. ويعلي هذا الفريق من أهمية مواجهة حركة “الجهاد” العالمي وكل المنظمات الكبرى العاملة في إطاره، مثل القاعدة وداعش، مما يعني أن تركيز ترامب على مواجهة الاٍرهاب أو ما يسميه حركة “الجهاد” العالمي يتوافق مع اختياره لشخصيات من هذا النوع لشغل مناصب كبرى في البيت الأبيض.
أفراد سيلعبون أدوارًا أكبر من المؤسسات
قد لا يقتصر الأمر على استبدال مجلس الأمن القومي بـ”مجموعة المبادرات الاستراتيجية” كجهة أساسية في صنع القرار الأمريكي في عهد ترامب، بل يمكن أن تأتي شخصيات أكاديمية في مرحلة لاحقة لتعمل مع ترامب، سواء رسميًّا أو كمستشارين غير معينين لتقديم النصائح للرئيس.
في شهر آب الماضي نشرت الدورية الشهيرة Foreign Affaires دراسة بعنوان: (“حالة التوازن خارج المجال”)، كتبها اثنان من أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين المعروفين، هما جون مارشيمر، وستيفن والت. دعت الدراسة إلى استبدال استراتيجية التدخل الأمريكي الخارجي واسع النطاق لتعديل سلوك دول لا تتماشى سياساتها مع القيم والمصالح الأمريكية، باستراتيجية مغايرة تقوم على التركيز على حفاظ واشنطن على نفوذها في أوروبا، ومواجهة مهيمنين محتملين في أوروبا وشرق آسيا والخليج. ويقترح المؤلفان أنه بدلا من سياسة السيطرة على العالم وحراسته التي طبقها الجمهوريون والديمقراطيون طيلة ربع القرن الأخير، هنـاك طريقـة أفضـل مـن ذلـك، وهي متابعـة استراتيجية “التـوازن خـارج المجـال” التي تقوم على تشجيع بلدان معينه على تولي عملية مراقبة وعرقلة القوى الصاعدة التي تتعارض طموحاتها مع سياسة واشنطن الداعية لإعادة الاستقرار في العلاقات الدولية بأقل قدر من التدخل الأمريكي المباشر عسكريًّا أو سياسيًّا إلا في الحالات الاستثنائية التي تحتاج لمثل هذا التدخل.
تتوافق أفكار مارشيمر وولت في هذه الدراسة مع الخطوط الرئيسية التي كان ترامب قد أعلن عنها أثناء حملته الانتخابية؛ فقد رفض سياسة التدخل الأمريكي في مناطق عديدة من العالم ويرى أنها أضرت بالاقتصاد الأمريكي دون أن تحقق عائدًا أمنيًّا يذكر لصالح بلاده. كما طالب بأن يكون لدى حلفاء الولايات المتحدة أو من يرغبون في تقديم أنفسهم كحلفاء أن يتولوا هم التكلفة العسكرية والاقتصادية لعمليات التدخل من أجل حماية التوازنات الإقليمية والدولية، وبالتالي لا يستبعد أن يقوم ترامب بالاستعانة بمارشيمر وولت، ولو بشكل غير رسمي، في إطار ترويجه لسياسات التدخل المشروط والمحدود في العالم الخارجي. ولكن يبقى أن بعض التعيينات في مناصب كبرى داخل إدارة ترامب ربما تثير توجهات عكسية مثل قيام الجنرال ماكماستر، مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي خلف مايكل فلاين (استقال في شباط الماضي على خلفية اتهامه بإقامة علاقات سرية مع موسكو)، بتعيين السيدة دينا حبيب (باول) نائبة له، وهي أمريكية من أصل مصري شغلت منصب مساعدة وزيرة الخارجية كونداليزا رايس في عهد الرئيس جورج بوش – الابن. ويكتسب المنصب أهميته بأن شاغله يكون مسئولًا عن تنسيق الاتصالات بين الأجهزة الأمنية والعسكرية والدبلوماسية لرفع تقديرات الموقف في القضايا المختلفة للرئيس. ولا يُعرف تمامًا هل السيدة باول مازالت متأثرة بأفكار كوندليزا رايس التي أطلقت مسلسل الفوضى الخلاقة في العالم أثناء توليها منصب وزيرة الخارجية والذي تسبب في زرع الإضرابات في عدة مناطق وعلى رأسها الشرق الأوسط، أم أنها تخلت عن هذه الأفكار وأنها قادرة على العمل في إطار استراتيجية مغايرة كالتي أطلقها مارشيمر ووالت؟
في كل الأحوال يبدو أن دور الأفراد في صنع السياسة الخارجية الأمريكية سيتخذ حجمًا أكبر مقارنة بالمؤسسات التقليدية في إدارة ترامب سواء لجهة تأكيد سياسة ترامب الداعية للدخل المحدود في شئون الدول الأخرى والتعاون مع حلفاء قادرين على خدمة التصورات الأمريكية، أو لجهة تعديل هذه السياسات وجعلها أكثر توازنًا بين التدخل المحدود والتدخل الواسع في شئون العالم.