وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ
بقلم : ياسر برهامي/القاهرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
هذه الآية الكريمة التي تنظم أخطر شيئ في حياة الإنسان؛ “الحياة”، والتي لو فهمناها وتعلمناها والتزمنا بها جميعا حُلَّت مَشاكِلُنا، ومُنِعت الفتن التي تحدث بيننا أفرادًا وجماعات، ومجتمعات ودولًا، وحُكّامًا ومحكومين، وقُضاةً ومُتَّهَمين، وأمراء ومأمورين، وقادةً ومُتَّبِعين.
ولقد تكررت الآية الكريمة في مواضع من القرآن:
– ففي سورة الأنعام، في الوصايا العَشْر، قال الله تعالى: “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”.
وفي الآيات المُحْكَمات من سورة الإسراء، التي قال الله تعالى عنها -مُبَيِّنًا عظيمَ فضلِها-: “ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ”، قال تعالى: “وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا”.
– وقال سبحانه في سورة الفرقان في صفة عباد الرحمن: “وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا”.
ولقد وردت السُنَّة كذلك بتغليظ تحريم قتل النفس التي حَرَّم اللهُ إلا بالحق، سواء كانت نفسًا مُسْلِمة أو نفسًا كافرة؛ فإنه لا تَلازُم بين وصف الكفر وبين جواز القتل، فقد يكون الإنسان كافرًا ومع ذلك يكون معصوم الدم والمال، وهي المسألة التي اختلطت على الكثيرين.
– فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في الدِّمَاءِ” رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
– وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسِّحْر، وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَوَلِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات” رواه البخاري ومسلم.
– وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا يزال المرء في فُسحة من دينه مالم يُصِب دمًا حرامًا”، قال ابن عمر: “من وَرطَات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها؛ سفك الدم الحرام بغير حِلِّه” رواه البخاري.
ويلاحظ أن هذه الأحاديث ورد فيها التحذير من قتل النفس -كما وردت في القرآن- لم يَخُصّها بالمؤمن؛ لأنه -كما ذكرنا- هناك أنواع من الكفار قد ثبتت لهم عصمة الدماء بأنواع من العهود.
وقد ورد التغليظ في قتل المؤمن:
– عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لَزَوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمنٍ بغير حق” رواه ابن ماجة بإسناد حسن. رُوِيَ مرفوعًا وموقوفًا.
– وعن جندب بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من استطاع منكم أن لا يَحُول بينه وبين الجنة مِلءُ كَفٍّ من دم امرئ مُسْلِم أن يهريقه كما يذبح به دجاجة؛ كُلَّما تَعَرَّض لِبَابٍ من أبواب الجنة حال الله بينه وبينها، ومن استطاع منكم أن لا يجعل في بطنه إلا طَيِّبًا فليفعل؛ فإن أول ما يُنْتِنُ من الإنسان بطنه” رواه الطبراني وصححه الألباني. رُوِيَ مرفوعًا وموقوفًا.
– وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “كُلُّ ذنبٍ عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت مُشرِكًا، أو يقتل مؤمنًا مُتَعَمِّدًا” رواه أبوداوود وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني.
– وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “يجيئ المقتولُ آخذًا قاتِلَه، وأوداجُه تَشْخُبُ دَمًا، عند ذي العزة، فيقول: يارب، سَلْ هذا؛ فيمَ قتلني؟ فيقول الله -عَزّ وجَلَّ-: فيمَ قتلته؟ قال: قتلته لتكون العِزَّةُ لِفُلان. قيل: هي لله” وفي رواية: “فيقول الله للقاتِل: تَعِسْت. ويُذْهَبُ به إلى النار” رواه الطبراني ورواه الترمذي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
– وعن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا أصبح إبليسُ بَثَّ جُنودَه؛ فيقول: من أَخْذَلَ اليومَ مُسْلِمًا ألبستُه التاج. قال: فيجيء هذا فيقول: لَم أَزَل به حتى طَلَّقَ امرأته، فيقول: يُوشِكُ أن يتزوج. فيجيء هذا فيقول: لَم أَزَل به حتى عَقَّ والديه، فيقول: يُوشِكُ أن يَبرَّهُما. ويجيء هذا فيقول: لَم أَزَل به حتى أَشْرَكَ، فيقول: أنت أنت. ويجيء هذا فيقول: لَم أَزَل به حتى قَتَل، فيقول: أنت أنت. ويُلْبِسه التاج” رواه ابن ماجة في صحيحه.
– وعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَن قَتَل مُعَاهدًا لم يَرِح رائحةَ الجَنَّة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا” رواه البخاري واللفظ له.
وقد أخرج العلماء هذه الأحاديث في النهي عن قتل المُعَاهدين، وفي بعضها بلفظ العهد مطلقًا، وهو الذي في البخاري في أبواب الترهيب من قتل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، كما رتبها المنذري في الترغيب والترهيب.
وهو يدل على فهم أهل العلم للآية الكريمة وللأحاديث بأنها شاملة لنفس المؤمن ونفس الكافر المُعَاهد بأي نوع من أنواع العهود كما سيأتي إن شاء الله.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الأنعام هذا الحديث أيضًا -حديث “مَن قَتَل مُعَاهدًا لم يَرِح رائحةَ الجَنَّة” في تفسير قوله تعالى: “وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ”، فدَلَّ ذلك على ما ذَكَرْنا من فهم العلماء أن الآية تضمنت الوعيد الشديد والنهي عن قتل جميع الأنفس التي حَرَّمَ اللهُ، سواء كانت بأصل الإسلام أو كانت بالعهد، أو بنوع آخر من النهي.
نحتاج في تَعَلُّم هذه الأدلة من الكتاب والسُنَّة إلى معرفة أنواع النفس التي حَرَّم الله قتلَها، ثم معرفة الحق الذي أَذِنَ اللهُ في قَتْلِها فيه. وأي خلل في فهم هذين الأصلين يترتب عليه سفك الدماء الذي حَذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه.