مأزق الحرب والسلام وخيار الاستسلام !!
بقلم: د. لبيب قمحاوي
فلسطين ليست بخير والقضية الفلسطينية ليست بخير والفلسطينيون ليسوا بخير والعرب كذلك سواء كأمة أو كشعوب أو كدول . القضية الفلسطينية والوضع العربي مرتبطان يؤثر أحدهما بالآخر ويتأثر به إن كان سلباً أو ايجاباً . والعبث بالثوابت قد أدى إلى فقدان الفلسطينيين للضمانات التي حرصوا على وجودها وحمايتها منعاً لإنزلاق قضيتهم إلى مسارات ومتاهات لن تنتهي إلا بتآكل حقوقهم ومن ثم ضياعها كاملة . القضية الفلسطينية لم تعد “تراوح مكانها” بل أصبحت في الواقع قيد التصفية بعد أن تم العبث بثوابتها وتم تعديل الميثاق القومي ومن ثم الوطني الفلسطيني إثر اتفاقات اوسلو .
ما هي المستجدات التي طرأت مؤخراً على القضية الفلسطينية بأبعادها المختلفة وجعلت منها كماًّ غامضاً بالنسبة للكثيرين بما فيهم أبناء القضية أنفسهم ؟؟
في الحقيقة لا يوجد الآن مسار فلسطيني للقضية الفلسطينية ، فالمسار النضالي الكفاحي المقاوم المرتبط بالمشروع الوطني الفلسطيني الهادف إلى التحرير والاستقـلال الناجز وحق تقرير المصير قد تم وضع حدٍ له عقب اتفاقات اوسلو ، وتم اغلاقـه بجهد مشترك اسرائيلي – فلسطينـي – عـربي – امـريكي دون التقـدم ببديـل
حقيقي فاعل يحظى بقبول فلسطيني عام . والنضال الكفاحي المُقـَاوِمُ بأشكاله المختلفة شـَكـَّلَ دائماً نقطة الاجماع الفلسطيني ، واغلاق هذا المسار قد أدى بالنتيجة إلى إغلاق الباب أمام التفاهم الوطني الفلسطيني .
لم تكتفِ كافة الأطراف بما فيها السلطة الفلسطينية واسرائيل بإغلاق المسار الكفاحي ، وإنما تم العمل على التشكيك بالمقاومة كفكرة وكنهج بإعتبارها مساراً عَدَمـِياً لن يؤدي إلى شئ ، ورافق ذلك عملية تدمير ممنهجة ومقصودة للمفاهيم النضالية أدت إلى ربط النضال ضد الاحتلال بالإرهاب دون أي محاولة عربية جادة لتعريف الارهاب واستثناء حركات التحرر الوطني من صفة الارهاب.
المسار النضالي الكفاحي هو خيار فلسطيني بحت لم يتطلب العمل به إذناً من أحد، في حين أن المسار السياسي التفاوضي والذي جاء بديلاً له هو خيار فلسطيني – اسرائيلي مشترك يتطلب موافقة الطرفين واستعدادهما للقبول به وبنتائجه .
وهكذا أصبح المسار السياسي التفاوضي الفلسطيني محكوماً لاسرائيل ومدى استعدادها للقبول به أو رفضه . وافتقر هذا المسار لأي مشروع وطني واضح ومقبول فلسطينياً مما سمح بإنزلاقه تدريجياً نحو الهاوية .
إن موافقة القيادة الفلسطينية على وقف المسار الكفاحي قبل التوصل إلى أي تسوية عادلة قد أكـَّدَ للاسرائيليين أن ذلك المسار هو بالنسبة للقيـادة الفلسطينيـة مسار تكتيكي وليس استراتيجيا، كون تلك القيادة كانت راغبة في التوصل إلى تسوية سياسية برضا وقبول الاسرائيليين وليس تسوية نضالية بالرغم عن أنف الاسرائيليين، وكأن الهدف من النضال كان الحكم وليس التحرير . وهكذا أصبح الثمن معروفاً بالنسبة للاسرائيليين وانتقل تعاملهم مع الفلسطينيين تدريجياً من الندية والاحترام إلى اعتبارهم تابعاً يقبل بالفتات الممزوج بالاحتقار .
إن ما يحدد مسار القضية الفلسطينية الآن هو السلطة الفلسطينية وهي في واقعها الحالي جزء عضوي من مؤسسات الاحتلال العاملة في الضفة الفلسطينية وغزه الفلسطينية، وهي بحكم سيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية وإبتلاعها لها قد أصبحت الناطق بإسم الشعب الفلسطيني، كون المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بحكم كونها قائدة لمسار الكفاح والمقاومة ، وهو المسار الذي استمدت منه المنظمة شرعيتها. والمؤلم هو أن القيادة الفلسطينية وليس اسرائيل هي التي قامت بإفراغ المؤسسات الفلسطينية المنبثقة عن منظمة التحرير من أي محتوى حقيقي أو فعالية, وحولتها إلى عنوان ورمز أكثر منها محتوى وواقع وفعالية.
إن فاقد الشئ لا يعطيه ، والسلطة الفلسطينية التي لا تملك من أمرها شيئاً بقيت متمسكه بالبقاء ، معتبرة ذلك انجازاً وطنياً ومكسباً للشعب الفلسطيني . وفي كل الأحوال فإن التطورات الجديدة على الساحة الفلسطينية وأهمها وأخطرها حالة الانقسام الفلسطيني الحاصل بين غزه الفلسطينية والضفة الفلسطينية, سوف تـَصْبُغُ حُكـْماً واقع تلك المناطق ومستقبلها .
الانقسام الفلسطيني الحالي ابتدأ في حزيران 2007 ، أي قبل عشر سنوات ، وبقي يتفاقم دون أية محاولة جدية لحلـِّه . وهذا الانقسام هو منتج فلسطيني أساسه التناحر على السلطة بين حماس وحركة فتح ، حيث خلق هذا الصراع ، مع مرور الوقت واقعاً جديداً وحقائق على الأرض يصعب تجاهلها ، خصوصاً أن هنالك من يـُزَكيها من بين العرب والاسرائيليين . فاسرائيل من جهتها تعمل على استغلال حالة الانقسام بكفاءة عالية لمصلحة أفكارها المتعلقة بإغلاق الملف الفلسطيني . وهذا الانقسام ينسجم تماماً مع الأفكار الاسرائيلية الهادفة إلى إعادة تفسير المطلب الفلسطيني – العربي بحل الدولتين, وكذلك الخلاص من القنبلة السكانية الزمنية لقطاع غزه في نفس الوقت، من خلال انشاء دويلة فلسطينية على ما تبقى من أراضي ذلك القطاع واعتبار ذلك نهاية المطاف بالنسبة لمطلب الدولتين ، علماً أن الموافقة على تحقيق ذلك من شأنه أن يؤدي عملياً إلى إسقاط حق الفلسطينيين في فلسطين التاريخية ويحصره في إطار الدويلة المزعومة .
الحل الحقيقي هو في التحرير والنضال المستمر من أجل ذلك الهدف . وإلى أن يصبح ذلك ممكناً، يستطيع الفلسطينيون مرحلياً رفع شعار الدولة الواحدة الديموقراطية على أرض فلسطين التاريخية عوضاً عن مطلب الدولتين كما هو عليه الحال الآن، واستبدال عنوان الاحتلال بعنوان التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال ، واعتبار كل ذلك العمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني في الحقبة المقبلة بهدف منع التنازلات الاستسلامية الفلسطينية والعربية . فالابتعاد عن الجمود ، والذكاء في طرح البدائل دون المساس بالثوابت ، هو المسار المنطقي للفلسطينيين في ظل الظروف السائدة .
المسار العربي أكثر كارثية من المسار الفلسطيني كونه قد جاء في تنازلاته طوعاً ودون أسباب ضاغطة . فقد انتقل العرب من كونهم ظهيراً لقضية فلسطين والفلسطينيين إلى موقع يمكنهم من استعمال قضية فلسطين كظهيرٍ لهم في محاولاتهم المستميتة لكسب ود أمريكا عن طريق محاباة اسرائيل . وبالرغم من كل مؤامرات ومساعي الأنظمة العربية تبقى الحقيقة الأساسية أن لا مستقبل لأي حل عربي – اسرائيلي دون أن يكون الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية محوره .
الفلسطينيون مأزومون ، والعرب كذلك ، واسرائيل مأزومة أيضاً والمشروع الصهيوني مأزوم لأن الصهيونية انتقلت من مشروع حالم مثالي يستقطب عطف وتأييد العديد من المجتمعات الغربية إلى مشروع استعماري عنصري دموي يستقطب رفض وعداء العديد من المجتمعات في الشرق والغرب .
وفي حين تم تدمير المشروع الوطني الفلسطيني عقب اتفاقات اوسلو ، فإن المشروع الصهيوني نفسه قد ابتدأ في التصدع من الداخل بعد أن نجح في ابتلاع فلسطين كاملة وحَوﱠلَ اسرائيل من دولة صغيرة ديموقراطية في نظر الغرب والعالم إلى كيان عنصري عدواني متجبر ومتوحش يبحث عن قضيته من خلال مسار متعصب عنصري دموي اقصائي يسمم ضمير كل اسرائيلي ويحول جزأ ً كبيراً من آدميته كإنسان إلى وحش لا يرضيه إلا المزيد من سفك دماء الآخرين وسلب حقوقهم.
وفي هذا السياق يدور الحديث الاستسلامي الفلسطيني والعربي حول ضرورة تحضير الجمهور لتسوية محتملة مع اسرائيل تحمل تنازلات فلسطينية وعربية . ولكن هذا المسار يفترض على اسرائيل ، إن كانت نواياها تجاه السلام صادقة ، أن تهئ مجتمعها لاستحقاقات مماثلة بعد أن قامت بشحن مواطنيها الاسرائيليين لعقود عديدة بمشاعر العداء والتعصب والدموية . ولكن هذا لم يحصل لأن مثل هذا المسار لم يكن قائماً فعلاً من وجهة النظر الاسرائيلية ، بل على العكس ، فالمزاج الاسرائيلي مرشح لمزيد من التعصب والكراهية والانجراف وراء الافكار اليمينية . والتيارات العنصرية والتوسعية داخل المجتمع الاسرائيلي لن تسمح بأي تطور جاد في اتجاه السلام وما يتطلبه ذلك من تنازلات.
لا حل إذاً للقضية الفلسطينية في الذهن الاسرائيلي . وما نحن بصدده هو مسار ومبادرات تهدف إلى إغلاق الملف الفلسطيني عوضاً عن حل القضية الفلسطينية. والحل يعني تنازلات متبادلة في حين أن الاغلاق يعني فرض ارادة القوي على الضعيف .
الموقف الاسرائيلي واضح في رفضه للانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة وفي رفضِهِ القاطع لوقف الاستيطان وازالة المستوطنات ، وكذلك في رفضه للسيادة الفلسطينية على الأرض ورفض حق العودة للفلسطينيين . هذه هي الثوابت الاسرائيلية ، والرد الاسرائيلي على المطالب الوطنية الفلسطينية هو في تكريس يهودية الدولة واقعياً وقانونياً ودستورياً والطلب من الفلسطينين إسقاط حقهم التاريخي في فلسطين . ولا يملك الفلسطينيون حالياً من ادوات الضغط سوى ارادة الرفض للاحتلال والنضال من أجل إزالته .
إن الانطباع الخاطئ الذي تـَخْلـِقـَهُ التنازلات السريعة والمجانية من السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية لاسرائيل والاسرائيليين سوف يساهم بالتأكيد في تعقيد الأمور بشكل متزايد وليس في حلها كما يعتقد أولئك المسؤولين الفلسطينيين والعرب، كونه يتجاهل ويستثني موقف الشعب العربي الفلسطيني الرافض للاحتلال بالرغم عن أي تنازلات أو اتفاقات ، ونفس الحال ينطبق ، وإن بدرجات متفاوته ، على شعوب الأمة العربية . وهكذا فإن اعتبار اسرائيل للتنازلات القادمة من القيادات الفلسطينية والعربية حقاً مكتسباً وواقعاً حتمياً سوف يؤدي إلى نتائج خاطئة كون صراع اسرائيل هو مع الشعوب العربية ومنها الفلسطينيون وليس مع الانظمة .
الفلسطينيون والعرب غير قادرين حالياً على صنع النصر وغير قادرين على صنع السلام أيضاً، وجل ما هم قادرون عليه الآن، على ما يبدو، هو صنع الاستسلام، وفي ذلك المسعى سوف يجدون في اسرائيل شريكاً نشطاً وداعماً يرعاهم ويرعى مسيرتهم الاستسلامية إلى أن يقول الفلسطينيون والشعوب العربية كلمتهم ان عاجلاً أم آجلاً .