كيف انتقلت “داعش” من العقيدة الى الجريمة
من الحقائق التي لا يمثل الحديث عنها صدمة للكثيرين، حيث تشيع معرفتها في عالمنا الراهن اليوم نتيجةً لتداولها منذ سنوات طويلة على نطاق واسع كأمر تقليدي لا يثير أي إشكال، هو انخراط حركات اليسار المسلحة في أمريكا اللاتينية كحركة «فارك» في كولومبيا على سبيل المثال في تجارة المخدرات، حيث شهدت تلك الأخيرة هي وغيرها من الحركات المشار إليها سيرورة طويلة وغير خافية من التحولات منذ طلائعها الأولى التي قادها زعماء ثوريين أيقونيين كتشي جيفارا أفضت بها إلى التخلي تدريجياً عن نقائها الأيديولوجي، وصولاً إلى المستوى الذي بلغته الآن.
ولكن الحقيقة التي قد تشكل صدمة حقيقية للكثيرين اليوم في هذا السياق هو الحديث عن انخراط بعض حركات السلفية الجهادية في العالم العربي والإسلامي في عالم الجريمة المنظمة، مع كل ما يحمله هذا من مفارقات مع طابعها الديني ومرجعيتها الشرعية المفترضة، وهو حديث لا يقوم على التحامل أو الاتهامات بل على واقع حقيقي تقوم عليه العديد من القرائن والشواهد المتواترة.
وفي هذا التقرير سنعرض مقارنة بين كل من حركات اليسار في أمريكا اللاتينية وحركات السلفية الجهادية الراهنة، سنستعرض خلالها جانبا من تحولات حركات كلا الطرفين في اتجاه أعمال الجريمة المنظمة، كما سنسلط الضوء على أبرز الأنشطة الجنائية التي تمارسها حالياً بعض الحركات الجهادية كتنظيم داعش كوسيلة لتحقيق مكاسب مالية تدر عليها أرباحا تمول بها أعمالها التنظيمية.
تنظيم داعش وحركة فارك
عندما نعقد مقارنة بين الحركات اليسارية المسلحة والحركات السلفية الجهادية يمكننا أن نجد العديد من قسمات التشابه بين تنظيم داعش والقوات الثورية الكولومبية المسلحة المعروفة اختصارا بـ«فارك»، والأخيرة كما هو معروف هي حركة يسارية عسكرية، تسيطر تقريباً على حوالي عشرين بالمائة من أراضي كولومبيا، وتعتمد في تكتيكاتها القتالية على حرب العصابات، كانت قد تأسست في ستينيات القرن الماضي كجناح مسلح للحزب الشيوعي الكولومبي قبل أن تنفصل عنه لاحقا بعد تورط الحركة في أنشطة المخدرات في ثمانينيات القرن الماضي.
وتعد حركة فارك واحدة من أكثر التنظيمات المسلحة سيئة السمعة في العالم، لما يعرف عنها من قسوة وأعمال دموية من قتل وعمليات إبادة جماعية وخطف وابتزاز واغتصاب واعتداءات جنسية وتعذيب بحق عشرات الآلاف من الكولومبيين.
وعندما نقارن بين أنشطة تلك الحركة وأنشطة تنظيم داعش الذي مارس بدوره العديد من الانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين في مناطق سيطرته من قتل وإبادات جماعية واستعباد جنسي وتعذيب واعتقالات وحرق وتمثيل بالجثث، وتحديدا فيما يتعلق بالنشاط الأشهر الذي اشتهرت به تلك الحركة والمتمثل في تجارة المخدرات، فإن ما قد يكون مفاجأة بالنسبة للبعض في هذا السياق هو اعتراف مدير المحكمة الشرعية للتنظيم في مدينة درنة بأن تنظيم داعش متورط هو الآخر في أنشطة تجارة المخدرات.
حيث ذكر الأخير في مقطع فيديو منشور على شبكة الإنترنت بعنوان «معذرة إلى الله»، قال خلاله إن نصيحتي هي عبارة عن قصتي مع الدولة، التي بينت الأحداث أن ما تروجه أمر، وما تعيشه بالفعل أمر آخر تماما، وقد ذكر الرجل خلال سياق حديثه مؤاخذات شرعية أخرى غير تجارة المخدرات، منها قيام عناصر التنظيم بسرقة البنوك.
وحديث هذا الأخير فيما يتصل بموضوع بتجارة المخدرات تحديدا، يعزز نسبيا من صحة اتهامات أخرى تم تداولها في فترات سابقة تشير إلى صلة التنظيم بزراعة الحشيش والأفيون في أراضٍ شاسعة في منطقتي حمام العليل والمحلبية جنوب الموصل.
والذي يتأمل في طبيعة الفصائل المسلحة التى قَبِل التنظيم ببيعتها وولائها في ريفي حلب ودير الزور وسواهما بسوريا، التي بايعت التنظيم كما يقول الأخير لدوافع مادية، أو للاحتماء به، من العقاب الذي فرضته عليها الهيئات الشرعية للفصائل الإسلامية الأخرى، يستطيع أن يدرك بالنهاية السياق المتصل الذي يجمع كل تلك الجماعات مع داعش، التي استطاعت أن تستوعبها بداخلها بلا غضاضة، وهذا يمنحنا في الأخير بعض القدرة على تمييز طبيعة تنظيم داعش الخاصة والمتباينة مع الطابع العقائدي الأكثر وضوحاً لفصيل آخر كتنظيم القاعدة على سبيل المثال.
أنشطة تمويل إجرامية أخرى
ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار أن إحدى مصادر التمويل المهمة التي تمنح تنظيم داعش رافدا ماليا مستمرا يجعلها في غنى نسبيا عن أموال وتبرعات الأنصار والمؤيدين كجبهة النصرة على سبيل المثال، ومنها ما تمارسه من نشاط قوي ومستمر في تجارة الآثار السورية والعراقية، رغم صور تحطيم التماثيل التي تظهر في وسائل الإعلام، في مفارقة ربما تحدث لأول مرة من تنظيم جهادي تقريبا، أن ينشط في التعامل بتجارة ما يعتبره هو نفسه أصناما يجب تدميرها.
وهناك علامات استفهام عديدة أيضا في هذا الإطار، حول ما ذكرته مصادر عراقية وبريطانية وألمانية حول قيام التنظيم بتمويل أنشطته عن طريق استخدام مجموعة من الأطباء الأجانب لإدارة شبكة واسعة متصلة بالسوق السوداء الدولية للأعضاء البشرية التي تنتزع من الأسرى وجثث القتلى حديثي الوفاة، لتتم تهريبها عبر تركيا ومنها تباع إلى جهات مشبوهة في مختلف أنحاء العالم.
ويعزز من صحة تلك الاتهامات صدور ترجمة أمريكية رسمية لوثيقة فتوى تحمل تاريخ 31 كانون الثاني 2015، تحمل شعارتنظيم داعش – نائب رئيس ديوان البحوث والإفتاء. جاء في تلك الوثيقة – حسب وكالة رويترز نقلاً عن نسخة الترجمة الأمريكية الرسمية – أن حياة «الكافر» وأعضاءه ليست محل احترام ومن ثم يمكن سلبها منه.
وتقول الفتوى الـ«68» بتلك الوثيقة إنه ما من مانع أيضاً في استئصال أعضاء يمكن أن تنهي حياة الأسير إن هي استؤصلت من جسده. وتجيز الفتوى أخذ أعضاء من أسير حي لإنقاذ حياة مسلم حتى وإن كان ذلك معناه موت الأسير.
وقد طالب مندوب العراق في مجلس الأمن الدولي في سياق هذه القضية خلال شباط الماضي بالتحقيق في موت 12 طبيباً بمدينة الموصل التي تسيطر عليها «داعش». قال إنهم تعرضوا للقتل بعد رفضهم استئصال أعضاء بشرية ضمن تلك الشبكة التجارية للتنظيم.
ويلاحظ هنا بالتباين مع تجربة طالبان التي قضت على معظم ظاهرة زراعة المخدرات في أفغانستان أثناء حكمها، أو تجربة اتحاد المحاكم الإسلامية التي كانت قد بدأت بمحاربة ظاهرة القرصنة البحرية على الشواطئ الصومالية قبل سقوط حكمها، ببدء التحول المعاكس في المقابل نحو أنشطة العصابات الإجرامية مع نمو ظاهرة تنظيم داعش في السنوات الماضية وهيمنتها على الحالة الجهادية اليوم.
حيث يُلاحظ أن هناك تساوقا متبادلا بينها وبين تلك التنظيمات التي بايعتها في مسألة التورط في أنشطة الجريمة المنظمة، كحركة شباب المجاهدين التي بايعت تنظيم داعش، التي تقوم في هذا السياق وفق ما تذكر المصادر بتمويل نشاطاتها عبر القرصنة البحرية على سبيل المثال، هذا بجانب سعي فرع تنظيم داعش في أفغانستان من جهة أخرى للدخول بقوة في تجارة المخدرات بآسيا الوسطى، كما ذكر مؤخرا مستشار الأمن القومي الأفغاني حنيف أتمار.
وتشبه التحولات التي مرت بها التجربة الجهادية بدرجة ما التحولات التي مر بها بعض الحركات اليسارية المسلحة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بدءا بجماعة بادر مينهوف الألمانية ومرورا بمنظمة الألوية الحمراء الإيطالية، وانتهاء بالتحول للنشاط الجنائي كعصابات الكونترا في نيكارجوا وحركة فارك الكولومبية، حيث تتشابه في التجربتين البدايات الطهورية والنهايات اللاأخلاقية على حد سواء.