”المـجـد” في أفـق الـغـيـاب !!
بقلم : اسماعيل ابو البندورة
بصوت مختلف ونبرة حزينة نقل إلي الاستاذ فهد الريماوي مجيء اللحظة الصعبة والخبر المؤسي عن توقف جريدة المجد وإغلاق صفحتها، والسبب هو إضافة إلى شح المال وضيق ذات اليد ، أن لا مكان لمثل هذه الصحافة في مرحلة التشظي الراهنة والآفاق المسدودة ، وتلك من العاديات الماحقة التي أصبحت تحيق بنا من كل جانب، وتقف في طريق الصوت العربي المختلف والصادق، وتحول دون وصول الرأي المنادي بوحدة الأمة وحريتها ونهضتها في هذا الزمن الهابط القاحل .
لم تكن المجد بالنسبة لمن كتب فيها وارتبط برسالتها وغاياتها النبيلة المتعالية مجرد صحيفة أو مشروعاً ربحياً ، وإنما كانت أو أريد لها أن تكون منبراً سياسياً قومياً نوعياً مخصباً يتناوب على مدارجه كل من بقي يؤمن بوحدة الأمة ويذود عن حماها، ويتصدى للدعوات الانقسامية والمشبوهة، ويعادي الصهيونية قولا وفعلا، ويناهض الفساد والاستبداد والعصبيات التحتية والفرعية وكل ألوان التأخراكيات .
كنا نكتب فيها متطوعين ومتجمهرين حول هذه الأفكار الكبرى، ولم يكن في بالنا الانتفاع أو الوجاهة الكتابية والإعلان عن الذات ، وكنا نتواصل مع رئيس التحرير لبلورة هذه الأفكار وتنسيقها في أضمومة واحدة مع ضمان حقنا في الاختلاف وشرعية هذا الاختلاف، ونجحنا في اشتقاق صيغة الائتلاف رغماً عما يمكن أن يوصف به هذا الائتلاف ، وكان هو بحد ذاته كلمة السر التي جمعت هذا الفريق من الكتاب على اختلاف مشاربهم واجتهاداتهم، وجعلتهم يقدمون هذه الصحيفة بشكلها ومضمونها الاستثنائي والمميز .
وحتى تفهم رسالة المجد القومية التنويرية وانجازها الكبير لابد من إعادة تصفحها وقراءة كافة سطورها منذ صدورها الأول وإلى آخر أعدادها حتى نجد الدليل عما نقول، فقد كُتب فيها بعقل وحس استلهامي احيائي عن ناصر والناصرية، وكُتب فيها عن البعث والحركات القومية الأخرى، وكُتب فيها عن المقاومة العراقية حين انطلاقها بعد أن جفت الصحف والأقلام وسكت الناس عن إظهار إنجاز هذه المقاومة ، وكان كل ذلك بوازع من موقف قومي موضوعي عريض يظهر الحق على الباطل، ويريد للأمة أن ترى بعيونها ما يجري بعيدا عن التدليس والتلبيس والعصبوية والتعصب، وضدا على التحريف والتعمية والتلاعب بالعقول .
وكان ذلك نهجاً ومنهجاً في المجد توافق عليه الكتاب ورئيس التحرير ضمناً وانطلاقاً من موقف، لأن للمجد رسالة ورؤية تريد أن ترسلها إلى العقول والضمائر العربية ولكل القوى النهضوية في الوطن العربي، ولم تكن مواقفها معروضة للاتجار والبيع، وكان ذلك من مميزاتها وسماتها الصحفية التي غيرت السمت الصحفي السائد وأجبرت جهات كثيرة على التوقف أمام تجربتها الفريدة وهي تراها تواصل مشوارها ولا تبدل تبديلا وتستمر في مشوارها رغماً عن توقيف رئيس تحريرها مرات عديدة ومحاصرتها بكل أنواع الشائعات والمضايقات .
وكان الأصعب في الضيق والمضايقة عندما كنا نسمع الأفكار الطائشة والساخرة عن أفكار أهل الكهف القومية العتيقة التي تأتي بها المجد وكتابها في لحظة التفكيك المتواصلة والعولمة المتفاقمة، وتستحضرها إلى ديوان الحداثة المفرغة من المعنى والتابعة لفكر الهيمنة الجديد الذي يرى الانتماء والمعنى القومي للشعوب والأمم شططأ ووعياً مفوتاً ”وعلاك” بلا معنى .
وإذ نُحاصر وتُحاصر المجد الآن بضرورة توقفها لأسباب مادية إرغامية فوق طاقتها ورغماً عنها، إلا أننا سنبقى نتحدث افتخارياً وموضوعياً عن أخبارها وعن رسالتها، وسنبقى نكتب من وحي المجد وفكرها ومدرستها وتحت عنوانها الكثير مما يجب أن يقال وعلى الرغم مما يقال ، ولن ننعى رسالتها إذ انها باقية مثالاً ونموذجا ملهماً وإيحائياً .
نعرف تماما ما يسببه ذلك من ألم لرئيس تحريرها وصانع موقفها ورسالتها ومجدها، ولكننا وبكل معاني الاحترام والمودّة نقدمه للناس منفردا ومجتمعاً مع الجريدة نموذجاً لصاحب الموقف القومي الجبهوي الذي لا يلين، ولصانع المفردات المعبأة بالمثل والقيم القومية والأفكار المتجددة والاستبصارات والادراكات الفريدة ، وكنا ولا نزال نراه مدرسة خلاقة وعربياً تنويرياً يجادل بالتي هي أحسن وأقوم، ويثابر على أن تبقى المجد حوزة للقابضين على الجمر، ومنتدىً للفكر القومي الاجتهادي الجديد، وتواصلا إنسانياً مع من يكتبون ويفكرون داخل وخارج النص .
عندما أخبرني أخي فهد عن توقف المجد طلبت منه أن نبقى على اتصال وتواصل، فالمجد هي أيضاً هذه العلاقة الانسانية – الفكرية التي كانت وستبقى ولن تغيب .