المهم ان تحافظ الدولة الاردنية على الهوية الوطنية
مؤكد ان الدولة العربية ”القطرية” الحالية لا تستحق صفة الدولة الحقيقية، ولا تمتلك معظم شروط وخصائص ومقومات الدولة الكاملة الاوصاف.. فمن يزعم ان الكويت او البحرين او تونس او السودان او حتى مصر، دولة مكتملة الاركان، وناجزة السيادة والاستقلال السياسي والاقتصادي والامني، هو واهم يسبح في بحر الخيال، او مخادع يستهدف ذر الرماد في العيون، او مكابر يتجاهل عمداً وقصداً ما كشفت عنه رياح ”الربيع العربي” من هزال الدولة القطرية وهشاشتها وسرعة انهيارها، كما لو انها محض هياكل كرتونية منخورة ومجاميع بشرية متنافرة.
فمن المؤسف ان الدولة القطرية قد فشلت، منذ زوال الاستعمار التركي ثم الاوروبي، في تحقيق ذاتها القومية، واستكمال شروط اندماجها العضوي في بنيان امتها .. ذلك لانها قامت على اساس التجزئة التي فرضتها اتفاقية سايكس – بيكو المشؤومة، ولم تقم بالتالي على اسس وحدوية وتكاملية عربية تتطابق فيها حدود الدولة مع حدود الامة، وتنهض بموجبها دولة العرب الموحدة او الاتحادية العملاقة، والمؤهلة للوقوف على قدم المساواة مع سائر دول العالم القوية والغنية والمسموعة الكلمة.
لم تكن – ولن تكون- علة الدولة العربية الراهنة، او مشكلتها الجوهرية، كامنة في هويتها السياسية، ومتعلقة بما اذا كانت هوية دينية او مدنية.. اشتراكية او رأسمالية.. ملكية او جمهورية، وانما العلة او المشكلة كامنة في وجودها القطري، وواقعها الانفصالي القائم على الفرقة والانقسام والتشطير، والمنافي لابسط حقائق الجغرافيا والتاريخ والصالح العروبي العام.
اذن، فالمشكلة متمثلة بالدرجة الاساس في طمس عروبة الدولة القطرية، وتكريس كينونتها العصبوية المنغلقة والمتعاكسة مع اللزوميات القومية والضرورات الوحدوية، وايثار التبعية للاجنبي والتحطيب في حباله على الالتقاء مع الكل العربي لاجتراح القواسم المشتركة، وصياغة المشاريع التضامنية والتكاملية الكفيلة بايقاظ هذه الامة من غيبوبتها، وانقاذها من اطماع اعدائها، ومعاملتها بما يليق بامجاد تاريخها.
كل الهزائم العسكرية التي تكررت على امتداد تاريخ الصراع العربي- الاسرائيلي، وكل البلايا والرزايا والفتن الطائفية والحروب الاهلية التي تفتك بالعرب هذا الاوان، تولدت من ثنايا ”القصور الذاتي” او ”العيب المصنعي” لدى الدولة- او بالادق شبه الدولة- القطرية، بوصفها كياناً منقوصاً ومقتطعاً من جسد الامة، ومفتقراً بالضرورة الى الطاقات والامكانات اللازمة لمواجهة المخاطر والتحديات.. ولسوف تبقى هذه الدولة القطرية في حالة فشل مزمن ما دامت متمسكة بواقع التجزئة، وعاجزة او متعاجزة عن الذهاب الى خيار الوحدة، والانضواء تحت راية العروبة.. هذه حقيقة تاريخية وحتمية مستقبلية، وبغيرها سوف يظل الوجود العربي بكليته معرضاً للدمار والاندثار.
لم تعد المهزومية العربية الراهنة تغري اسرائيل وحدها باحتقار العرب، واسقاطهم من حساباتها، واذلالهم على مدار الساعة.. فحتى الحبشة التي تتسمى الآن ”اثيوبيا” باتت تتمرجل على مصر، وتتنمر على السودان، وتتمرد على المواثيق الدولية والتاريخية الخاصة بتقاسم مياه النيل، فيما لا تخفى على احد اطماع كل من تركيا وايران والاكراد في الجغرافيا والديموغرافيا العراقية والسورية.
ربما يسارع فرسان ”الواقعية السياسية”، وحراس حدود سايكس- بيكو الى وصف هذا الطرح بالطوباوية واللغة الخشبية والسلفية القومية، التي لا محل لها من الاعراب في الوقت الحاضر، ولا مجال لتحقيقها او حتى الاخذ ببعض جوانبها وسط هذه الحرائق التي تجتاح الوطن العربي باسره، وتتطلب سرعة التطويق والاطفاء قبل اي شيء آخر.. وربما يسألون او يتساءلون : لمَ توسيع فتحة البيكار لتشمل العموم العربي، ما دام الحوار الدائر هذا الاوان في بلادنا منصباً بشكل محدد على هوية الدولة الاردنية وحدها دون غيرها ؟؟
وعليه، يمكننا القول بهذا الخصوص، ان الامارة – المملكة فيما بعد- الاردنية قد اكتسبت، منذ بداية اصطناعها عام 1921، صفة ”الامارة الوظيفية” المكلفة اولاً واساساً برعاية وحماية المصالح الانجليزية في المنطقة واليهودية في فلسطين، ولم تكن هويتها السياسية انذاك، شأن باقي دويلات سايكس- بيكو، محل جدل او تعريف وتوصيف، بل كان المهم لدى صانعيها هو دورها الوظيفي وقدرتها على النهوض به بجدارة.
طوال عهد الامارة ثم المملكة، وخلال حقبة الانتداب البريطاني ثم الاستقلال، ظلت الدولة الاردنية ملتزمة، بدرجة او اخرى، بهذا الدور الوظيفي وخاضعة للاحكام العرفية، وحين اشتدت النزعة الوطنية والقومية لدى الاردنيين بتأثير دعوات عبد الناصر في منتصف عقد الخمسينات، وجرت في بلادنا انتخابات برلمانية حرة تشكلت على اثرها حكومة النابلسي الوطنية المناهضة لاسرائيل والمؤيدة لعبد الناصر، تم قمعها واسقاطها بشدة وسرعة عام 1957، وجرى تعليق الحياة البرلمانية واعادة الاحكام العرفية والعسكرية لما يناهز ثلث قرن.
هذه اللعبة المأساوية تكررت اوائل عقد التسعينات، فبعد ان كانت انتفاضة نيسان المجيدة عام 1989 قد نسفت الحالة العرفية والاستبدادية السائدة آنذاك، واسست لحياة ديموقراطية واعدة ابتدأت بانتخابات نيابية نزيهة انتجت برلماناً شعبياً محترماً، وانتهت بسلسلة توافقات بين القمة والقاعدة صدرت على هيئة ”ميثاق وطني” رفيع المستوى، تم الانقلاب على كل ذلك بجرة قلم، اكراماً لعيون اسرائيل، واستعداداً لابرام معاهدة وادي عربة البغيضة عام 1994، وثبت مجدداً ان لا مكان للتطلعات الوطنية والديموقراطية اذا تعارضت مع متطلبات الهيمنة الاسرائيلية.
اما منجزات الحراك الشعبي الذي اكتسح عمان وباقي المحافظات، في خضم ”الربيع العربي” منذ خمس سنوات، فلا لزوم للحديث عن مآلاتها وطرق احتوائها والالتفاف عليها، فهي ما زالت ماثلة للعيان وحاضرة في الاذهان وشاهدة على ان ما فات مات، وكأنك يا ”بو زيد” ما غزيت.
ومن هنا يمكن القول ان التحدي المطروح على الدولة الاردنية، ليس المفاضلة بين الهوية المدنية والدينية وحتى العلمانية، وانما بين خيار الوطنية وخطيئة التبعية، وتحديداً التبعية للعدو الاسرائيلي الذي يبدو انه قد تغلغل عميقاً في بعض شرائحنا واوساطنا السياسية والاقتصادية والتعليمية والاعلامية التي نقلت البندقية مؤخراً من الكتف الامريكي والاوروبي الى الكتف الصهيوني، وباتت تشكل حزباً قوياً ومحفلاً سرياً متعاطفاً مع تل ابيب، ومنخرطاً في اوسع عمليات التنسيق والتطبيع معها.
يوماً بعد يوم، تتورط الدولة الاردنية في مشاريع استراتيجية مشتركة مع اسرائيل، وتعقد معها جملة صفقات واتفاقات من شأنها ربط المستقبل الاردني بالقاطرة الصهيونية.. وليس ”تأجير” منطقتي الباقورة والغمر لاسرائيل، ومشاركتها في مشروع قناة البحرين الاحمر والميت، والاعتماد عليها في التزود بالغاز الطبيعي لامد طويل، سوى غيض من فيض التبعية لهذا العدو الغادر، والتي سيكون لها ما بعدها.. والعياذ بالله.
المؤلم ايضاً ان وضعية الالتحاق بالكيان الصهيوني والتذيل له والتعويل عليه، تنطبق كذلك، وبشكل اوضح وافدح، على سلطة محمود عباس الاوسلوية، التي فوضت امرها لحكام الليكود، ووقفت نفسها على خدمة الاحتلال الاستيطاني، وحولت اجهزتها البوليسية الى ”طابور خامس” مكرس للتجسس على شعبها الفلسطيني لحساب الموساد والشاباك وباقي فروعهما الاستخبارية !!
سلام علی الاستاذ/ مقال فی قمة الجمال . شکراً