نظرات في كتاب ”حصاد الزمن الصعب” ومنهجية مؤلفه طاهر المصري
كتب المحرر الادبي
ليس غريباً على كتاب ”حصاد الزمن الصعب” الذي اصدره الاستاذ طاهر المصري، وتولت باقة من الساسة والمثقفين اشهاره مؤخراً، ان يحظى بهذا الفيض من الحفاوة والاهتمام لدى قطاع واسع من النخب الاردنية والعربية التي وجدت فيه بيدراً فسيحاً لحصاد خصب من حقول الزمن الصعب.
هذا الكتاب ليس اجندة شخصية تضم خصوصيات صاحبها، ولا كشكول مناسبات يجمع بين دفتيه حشداً من الكتابات والادبيات الموقوتة باوقاتها، والمشدودة الى تواريخها ومناسباتها.. بل هو منظومة صور ومشاهد ولوحات ومواقف واضحة كما تعكسها مرآة ”ابي نشأت” المرهفة والمصقولة والثلاثية الابعاد.
ورغم تعدد محتويات هذا الكتاب وتنوع غلال حصاده، الا ان خيطاً سرياً وسحرياً ينظم كل هذا الخليط من المقالات والرسائل والاطروحات، ويعبر عن الاهداف المتوخاة من نشرها، كما يؤشر بدرجة كافية على شخصية صاحبها وكاتبها الذي لا يشبه الا نفسه، ولا يتمثل الا قناعته، ولا يبتغي الا مرضاة ضميره.
نقرر ابتداءً، كي لا نسقط في حومة النفاق، ان للاستاذ المصري عيوبه وذنوبه ونقاط ضعفه واجتهاداته الخاطئة، فهو بشر اولاً، وهو سياسي محترف ثانياً، وهو من اهل النظام القائم في بلادنا، وهذه ثالثة الاثافي.. غير ان هذا الرجل يتمتع بجملة من المزايا والسجايا والفضائل الاخلاقية العالية التي قلما يحظى بها او يسعى لها او يحرص عليها رجال السياسة، والتي قد يبدو مجرد سردها والتنويه بها ضرباً من المديح والرياء.
لعل اول وابرز مواصفات ”ابي نشأت”، انه استاذ في فن ”السهل الممتنع”، بل صاحب مدرسة سياسية في مضمار التساهل وليس التنازل، والتبسيط وليس التسطيح، والتوفيق وليس التلفيق، والتيسير وليس المسايرة.. ذلك لانه يعبر بدقة وصراحة عما يفكر، ويتعامل بتواضع وبساطة مع الناس بكافة مستوياتهم، ويعتصم بالقوة الناعمة والمزاج الرائق والخلق الحسن والطبع السمح، بديلاً عن المغالبة والمغاضبة والمشاحنة والقوة الخشنة التي غالباً ما يتسمك بها ويعول عليها اقطاب السياسة وارباب السلطة والحكم والنفوذ.
وفي مثال واضح وقريب على فن ”السهل الممتنع” يتعلق ”بالمجد”، كتب الاستاذ المصري على صدر نسخة كتابه المهداة لنا كلمة الاهداء التالية.. ”الى المناضل، صاحب الموقف والرأي، وقبل كل شيء، الى الصديق والاخ فهد الريماوي الذي تعلمت منه الكثير خلال سنوات طويلة من لقاءات يوم الجمعة، اهدي كتابي هذا، عنواناً للتشارك في الموقف والرأي”.
هذا الثناء العاطر على صحفي غابر ذهب زمانه ورحل خلانه، لا يصدر الا عن الكبار الراسخين في اصالتهم، والواثقين من انفسهم، والمتصالحين مع ضمائرهم، والمتحررين بالمطلق من عُقد العجرفة والغرور والاستكبار.. والا اين هو رئيس الوزراء، او الوزير، او حتى نصف الوزير الذي يحفظ للناس اقدارهم، ويتحلى بسدس هذا القدر من التواضع والاريحية وروح التجرد والانصاف ؟؟
لطاهر المصري من اسمه نصيب، فهو ”طاهر” لم يعاقر الفساد، او تمتد يده الى المال العام والكسب الحرام، رغم تقلده اعلى المراتب والمناصب في الدولة لما يقارب نصف قرن.. فالرجل ”شبعان من بيت اهله”، بالنظر الى انه سليل البرجوازية النابلسية التي طالما اعتبرت نفسها عميدة الاقتصاد الفلسطيني قبل الغزوة الصهيونية المشؤومة.. ولعل في هذه الخلفية الطبقية ”لابي نشأت” ما يفسر اسباب مقارباته الوسطية ونزعاته البراغماتية وسياساته الليبرالية المعروفة.
هذا الرجل الذي نيّف عن السبعين، ما زال مدمن سياسة ليس له مهنة الا مزاولتها او مغازلتها، ومغرم صحافة ليس كمثله احد في جرأة التصريحات وعمق التحليلات، وعصي على كل مكائد التعتيم والتهميش والنسيان.. فهو شديد المهارة والحذق في تعويم اسمه، وتعظيم صيته وذكره، والبقاء تحت الاضواء، وقيد الحضور الدائم والمتواصل على الصعيدين المحلي والعربي، سواء أكان في سدة الحكم، او في منزله العبدوني بصحبة السيدة الكركية الذكية والوفية ”ام نشأت”.
مؤكد ان ”ابا نشأت” قد اشتهر وسطع نجمه بفضل الرافعة الرسمية التي اوصلته الى اعلى المناصب والمراتب، وبوأته رئاسات مجالس الوزراء والنواب والاعيان.. غير انه لم يركن بالكامل الى هذه الرافعة الظرفية المتقلبة والمخصصة للتحميل والتنزيل على حد سواء، بل اختار ان يهيئ لنفسه حاضنتين مهمتين : قاعدة شعبية، وخيمة عربية، حيث استطاع بناء قاعدة شعبية ونخبوية.. سياسية واجتماعية عريضة، عبر تواصله المباشر مع الناس من مختلف المنابت والطبقات والمحافظات، وحرصه الدائب على تفقدهم شخصياً ومجاملتهم في الافراح والاتراح، ورعاية مصالحهم وتلبية مطالبهم قدر المستطاع، ومن حر ماله في اغلب الاحيان.. وكم داعبته اسرة ”المجد” بالقول : لعلك الشخصية الوحيدة التي نسجت عباءتها السياسية بخيوط وعرى شخصية واجتماعية وانسانية، اكثر منها سياسية وايدولوجية.
كما عمد الاستاذ المصري الى تفعيل البعد القومي في شخصيته، وتوسيع وتعزيز دائرة علاقاته وصداقاته ونشاطاته في الوطن العربي، وعلى غير صعيد سياسي وثقافي واعلامي، حتى بات اسماً معروفاً ومرموقاً من المحيط الى الخليج.. ولهذا فليس غريباً ان يتولى وزير الخارجية المغربية السابق، الاديب المعروف محمد بن عيسى كتابة مقدمة ”حصاد الزمن الصعب”، وان يشتمل كتاب الحصاد على عدة موضوعات عربية تخص الرئيس حافظ الاسد، والوزير طارق عزيز، والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.
طال المقال، وانحاز الى الكاتب قبل الكتاب، والحاصد قبل الحصاد.. غير ان ”المجد” تعتزم ارسال دورية استطلاعية- انتقادية- لتجوب ارجاء هذا الكتاب/ البيدر، وتتقصى حجم ما ينطوي عليه من القمح والزؤان.