الثورية الأصيلة لا تتلاءم مع عقلية الدفاع
بقلم : د. خضير المرشدي
فكرة البعث من أساسها فكرة متوترة ، فكرة تتطلب مستوى متوتراً من الثورية كما يقول الرفيق القائد المؤسس ، أي إنها فكرة تحتاج الى مستوى عال من التحدي والاستعداد للتحدي ، والتعرض المستمر لمواجهة واقع عربي فاسد مجزأ ومتخلف يعاني من الاحتلال والهيمنة الأجنبية ، ومن الاستبداد والجهل والمرض والاستلاب ، والى مستوى عال من القسوة والصعوبة .
هذا الوضع كان سائداً في البلاد العربية والعراق مثلاً عند انطلاقة البعث لأول مرة نهاية أربعينيات القرن الماضي ، خصوصا وان ظروف العراق الشديدة القسوة رشحته لان يكون موطن الانطلاقة الأصيلة والجدية لفكرة البعث, ويحقق التحدي الذي واجه الامة بأجمعها وليس قطر العراق فحسب، من هنا كان حجم الحركة ونوعية التنظيم منسجماً مع ضرورة أن تكون الفكرة مهاجمة وليست مستكينة مدافعة متراجعة منزوية وخائفة.
وقد تحقق للبعث من خلال هذه التجربة شيء واحد ( مستحيل ) هو انه لا يمكن لأية قوة في هذا العالم خارجية أم داخلية أن تدفع الحزب وقيادته للتراجع ، ولن تستطيع هذه القوى مجتمعة ومهما كان حجمها أن تزيح الحزب عن ميدانه الطبيعي في ارض العروبة ، وأن تحد من دوره في تحديد صورة المستقبل ، هذا ما أكدته الاحداث بعد إحتلال العراق وما نتج عنه وعن شبكة حلفائه من دول الإقليم والعالم .
إن الثورية لدى البعث هي مبادرة وإبداع وتحد ورفض لمبدأ الدفاع المستكين، أو التشبث بروتين المعالجات، وترقيع الاحداث ، وبطء الإصلاحات.
إنها تعبير حي صادق عن معنى الانقلاب الشامل في هوى النفوس الخاوية المترددة المريضة بداء النرجسية والحقد والهذيان ، وتغيير شبكة القوى الساحبة للمجتمع الى قاع التردي والتخلف والنكوص.
انها انبعاث من نوع جديد تتفوق فيه الفكرة المتوترة – المهاجمة التي تستلهم من ثورة الاسلام الخالدة قيما أصيلة ، وتستوعب من روح العصر مفاهيم خيرة في البناء ، وتلبي متطلبات التقدم الحديث بمدياته الانسانية ،،، على حالة التراجع والتخاذل والسكون والانعزال ليؤدي الانقلاب وظيفته النفسية والاجتماعية ، قبل التغيير المادي المجرد لنظام أو مؤسسة أو هيكل أو قانون أو منظومة . وبذلك نجد أنفسنا نتحدث عن ثورة بكل ما تعني الكلمة من معنى على صعيد الفكر والثقافة والقيم والمفاهيم والعلوم والبناء المعنوي والمادي, وعلى واقع التردي والتخلف والانحطاط ، وعلى منظومة علاقات متجذرة رسختها قوى الاحتلال والرِّدة . كما وإن الثورية الحقيقية لدى البعث لاتعني التهور والارتجال والتعصب والحقد والكره والغضب ، بل إنها خليط من قيم المحبة والاصالة ، البطولة والاخلاق ، الحكمة والشجاعة ، العلمية والتخطيط ، التي لا يحقق الهجوم اهدافه بدونها ، ولن يتحقق الانبعاث المنشود دون التمسك بها .
بهذا المعنى من الثورية فإن البعث مكتوب له ان يستمر ، وبهذا المستوى من النضج الفكري والاخلاقي استطاع أن يخلق وعياً عاماً لانبعاث عربي منشود سيتحقق وإن طال الزمن.
ولعل السر في استمرار البعث في الحياة وفي ثوريته التي حققت ديمومته ، هو نشأته العفوية البسيطة ، بمعنى البراءة والوضوح في أفكاره واهدافه المعبرة عن حاجات أصيلة واقعية لشعب عربي مهشّم ومهمّش ومستلب في معظم أقطار الامة ، وتبشيره بأفكار كبيرة لم يكن يملك البعث عصى أو سلاح لتطبيقها ، ولم يكن لديه إلاّ قوة الروح والإيمان التي بنى بهما تراث ورصيد وأساس عميق من العلاقة مع الشعب كانت ولا زالت مصدر قدرته المادية والبشرية . وبذلك فإن القيم الروحية والأخلاقية التي يملكها البعث هي التي خلقت المادة وليس العكس ، وما أحوج الامة اليوم الى مثل هذا المستوى من قوة الروح وقوة الاخلاق وقوة الايمان وقوة التصميم كطريق لإنبعاث معنوي ومادي وانساني عظيم .
حتماً هناك من يقول بأن الظروف العربية والدولية وطبيعة الصراع في الثمانينات والسبعينات والستينات وما قبلها تختلف عن ماهي عليه اليوم ، وقد يكون هذا جزء من الجواب ، لكن الجواب الاهم والأشمل هو أن نتساءل ، هل أن الحزب أو الشعب لم تعد لديه مثل تلك الروح ، ولم يعد يمتلك قوة الإيمان والتصميم ، وارادة الاندفاع الثوري التعرضي ، وتلك الجاذبية المثيرة وما يتصل بها من الفعل والتأثير الوطني والقومي والانساني ؟؟؟
من المؤكد أن الظروف قد اختلفت, وقوى الصراع تعددت والمصالح تنوعت وترافق ذلك مع تراجع الايديولوجيات والاخلاق أمام لغة المصالح في السياسة والحكم ، وحتى على مستوى العمل الحزبي التقليدي .. وبرزت فئات وقوى ضالة تدعو للفتنة والاٍرهاب والخطيئة والتجزئة على أسس طائفية ومذهبية وعنصرية.. لكن ظروف الاحتلال ومقاومته ، وثبات الشعب ورفضه وتحديه لقوة السلطان الظالم الفاسد المستبد الذي تسيّد الحكم بإرادة الاجنبي وقدرته ،،، عبرت عن قوة روحية خارقة لدى الانسان العربي ، وقوة إيمانية عميقة ، وقوة جبارة في التصميم والإرادة حققت الانقلاب داخل الأنفس قبل الانظمة .. هذه القيم آمن وجاء بها البعث منذ التأسيس ليحقق الانبعاث الشامل الذي آن أوانه ، خاصة وان جيلاً عربياً من الشباب يتقدم بوعي صوب اهداف أمته في الوحدة والتحرير والتقدم والعدالة الاجتماعية ، رغم التضليل والتشويه والتزوير والاستسلام والموت والتهجير والعوز والحرمان .