لماذا لا يستعيد التيار القومي حضوره الشعبي والانتخابي ؟
طال غياب التيار القومي عن دوره التاريخي، واحتجابه عن شارعه الاردني، وانسحابه من واجبه النضالي، وانزوائه داخل المكاتب وخلف الابواب المغلقة، واكتفائه بتدبيج المقالات واصدار البيانات، واهتمامه بمجرد اثبات الوجود واستمرار البقاء، وانقسامه الى شيع واحزاب وكسور عشرية ما زالت متخاصمة ومتدابرة، رغم تغير احوال الزمان، وزوال كل اسباب الخصام القديم والانقسام.
لا لزوم لتعداد اسباب غياب هذا التيار، فهي معروفة للكافة، ومدونة في صفحات التاريخ القريب، وكامنة – على الاغلب- في اذهان ”عشائر القوميين” حتى الآن، وموزعة ما بين القصور الذاتي لهذا التيار وارتكاباته ونقاط ضعفه الفكرية والفعلية، وبين التسلط الحكومي والقمع الامني اللذين انهمرا عليه بضراوة لما يقارب نصف قرن.
في غياب هذا التيار الطاعن في عروبته، والعريق في تراثه، والمتفاني في نضاله، والصارم في مواقفه، والمعادي اشد العداء للصهيونية والاستعمار والرجعية، والامين على اشواق امته في الوحدة والحرية والاشتراكية.. غشيت الشارع الشعبي حالة من الفراغ السياسي، ودوامة من اختلال الموازين واضطراب الاعصاب وتنافر الحواس وعمى الالوان، فانتعشت حركات الاسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الاخوان المسلمين، كما ارتفعت بالمقابل اصوات مضادة تتبنى النزعة الكيانية والانكفاء القطري، تحت شعار”الاردن اولا”.
مياه كثيرة وغزيرة سالت في اودية الدهر وانهار الزمان، وعقود عديدة ومديدة مرت وتصرمت على غياب هذا التيار الاصيل الذي تفاقمت محنته على الساحة الاردنية، ليس بفعل الضغوط الحكومية والملاحقات الامنية فقط، ولكن ايضاً جراء الضربات المتوالية التي تعرضت لها مراجعه ومنابعه وقواعد ارتكازه في مصر التي شهدت انقلاب انور السادات على الخط الناصري، وفي العراق الذي اجتاحه العدوان الامريكي الغاشم ومزقه ارباً، وفي سوريا التي تداعى عليها الاعراب والاتراك والارهابيون، واثخنوها بالمآسي والجراح.
غير ان غيبة هذا التيار وغفوته وكبوته لا يجوز ان تستمر تحت اي مبرر، ولا يصح ان تبقى عقارب ساعاته متوقفة عن الدوران بعد اليوم، وان يطول ليله الراهن في انتظار طلة الصباح.. فمن قلب الشدائد، وجحيم العذاب، وقسوة المعاناة، وعلقم النكسات والانكسارات، تستخرج القوى الحية والكفاحية اكسير اليقظة، وتتلمس دروب الخلاص، وتتبين طاقات الفرج، وتستنبط حلول المعضلات، وتكتشف قوة الارادة الكامنة في اعماقها والمؤهلة لتحويل العناء الى عطاء، والغصة الى فرصة، والرهبة الى غضبة، والهوان الى عنفوان، والتراجع الى تقدم وتدافع.
وعليه، فربما آن لفصائل التيار القومي ان تغادر عزلتها، وتباشر انطلاقتها، وتعاود العمل الميداني في الهواء الطلق، وتسترد ثقة ومودة الشارع الاردني بعدما زالت عن عينيه غشاوة الاخوان المسلمين، وانفضح امرهم وانكشف تآمرهم، واشتدت صراعاتهم ومهاتراتهم، حتى باتوا مشكلة بلا حل، ومسألة بلا جواب، وقافلة بلا بوصلة، وجعجعة بلا طحن وعقبة كأداء في دروب الحداثة والعصرنة والابداع.
من قبيل الضرورة الوطنية واللزوم الديموقراطي، يتعين على التيار القومي في بلادنا ان يرتقي اليوم الى مستوى تاريخه، ويغتنم بذكاء هذه اللحظة المواتية له، ويشكل رافعة للنهوض بوطنه ومواطنه، ويتنادى لتجميع – ولا نقول توحيد- صفوفه، وتحشيد قواه، وتناسي خلافاته، وفتح صفحة جديدة من التفاهم والتوافق والتآلف بين سائر احزابه وتنظيماته وشخصياته المستقلة، استعداداً لخوض معركة الانتخابات النيابية المقبلة، ضمن قوائم ائتلافية موحدة.
انها فرصة ثمينة لا يصح لهذا التيار المخضرم تفويتها، او الاستهانة بها والتقليل من شأنها، او الانخراط فيها من مواقع فردية وفئوية وعصبوية ضيقة.. ذلك لان الهدف الاول من خوض هذه الانتخابات، هو عودة الطلائع القومية الى شارعها المعهود، واستئناف حضورها وسط جمهورها بعد طول انقطاع، واطلاق خطابها السياسي وبرنامجها الانتخابي بلسان واحد يعبر عن كتلة تشاركية عريضة يمكن ان تضم، الى جانب القوميين، بعضاً من حلفائهم في ائتلاف احزاب المعارضة.
من حق شبان هذا الوطن وكهوله الذين نشأوا تحت طائلة التنويم المغناطيسي، وعاشوا حقبة استلاب الوعي القومي، واستفحال الخطاب الكياني الضيق والاخواني المتخلف، ان يطالعوا طرحاً آخر وفكراً مختلفاً، وجملة عروبية مفيدة تجمع بين العقلانية والوجدانية، وتتوخى اعادة ربط الاجيال الجديدة بجذورها وارومة امتها، وتعزيز ثقافتها القومية وقناعاتها الوحدوية والتكاملية.. خصوصاً وان الوقائع والفظائع الراهنة قد برهنت ان التجزئة العربية هي المقتل، وان الوحدة هي المنقذ من التيه والضلال والانحلال.
مؤكد ان فوز هذا التيار باي عدد من المقاعد النيابية في المجلس المقبل، يمثل مكسباً وطنياً كبيراً، ويشكل منبراً سياسياً مسموعاً، ويسهم في ترقية الاداء البرلماني الى مستويات رفيعة تليق بخبرات وكفاءات رموز هذا التيار الاثيل.. غير ان الاهم من كل ذلك، هو عودة الدورة الدموية القومية الى شرايين القاعدة الشعبية، ورجوع شبكة التواصل والتفاعل بين هذه وتلك الى سابق عهدها التليد، وتنشيط الماكينات الانتخابية لجهة توعية الناخبين، ووضعهم امام مسؤوليتهم الوطنية والاخلاقية، وتنظيم اوسع ورشة جدل بينهم وبين المرشحين القوميين في طول البلاد وعرضها.
ليست اولوية الخط القومي من خوض الانتخابات، هي حصد الاصوات وحشد المقاعد النيابية، بل المساهمة الجدية في تعبئة الشارع الشعبي وتنويره وتبصيره واستنهاض لياقاته الاجتماعية وروح المواطنة لديه، عبر تزويده بباقة مشرقة من الادبيات والمفاهيم التضامنية والتوافقية والتصالحية والتسامحية، التي من شأنها تعظيم قيم البذل والتضحية والعطاء المشترك، وتوطيد دعائم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، وكنس ترسانة البدع والتخرصات والنعرات المذهبية والوهابية والارهابية.
لم تعد المخاطر المحدقة بالاردن سياسية في المقام الاول، فليس هناك في الافق المنظور ما يشكل تهديداً سياسياً له على صعيد الداخل او الخارج.. وانما التهديد الفادح- دعك من التحدي الاقتصادي- الذي يتعين على التيار القومي التنبه له، والعمل الجماعي مع باقي القوى الوطنية والتقدمية على استباقه ومقاومته وملاحقته ليلاً ونهاراً، هو طاعون السلفية الداعشية الفتاك الذي يطمس على قلوب العوام قبل عقولهم، ويلوث نفوسهم وارواحهم قبل سواعدهم واسلحتهم، ويثير غرائزهم وشهواتهم واحقادهم قبل خواطرهم ودروشاتهم ومعتقداتهم، ويحولهم، من ثم، الى قنابل موقوتة وذئاب منفردة وكائنات عمياء هوجاء بلهاء، لا هدف لها سوى ذبح العباد ونشر السواد وتخريب البلاد.
نعرف ان البأساء العربية الراهنة قد ارهقت لغة الضاد، وخلخلت القناعات وزلزلت الثوابت والمسلمات، وحطمت اجنحة الآمال والمطامح والتطلعات، وصرفت الانتباه العربي العام عن المشاريع والاهداف القومية الكبرى، وقصرته على مجرد العيش الآمن والخبز الحاف والبقاء على قيد الحياة.. غير ان هذا البؤس المرير ادعى للعمل وليس القعود، واوجب للنضال وليس الاستسلام، وليس يجوز لهذا البؤس ان يمنع تيارنا القومي من قطع خطوات ولو محدودة في رحلة الالف ميل، واشعال شموع ولو قليلة وسط هذا الليل البهيم، وضخ ما تيسر من جرعات الامل والتفاؤل لرفع منسوب المعنويات المتدنية، وترطيب عطش النفوس الظامئة.. والله ولي التوفيق.