فدائيا يطا وحقائق الجرح الفلسطيني

بقلم : عبد اللطيف مهنا

فدائيو وفدائيات الانتفاضة الفلسطينية الراهنة…في مدها وجزرها مقترناَ بتواصلها وتطوُّرها، لجهة موائمة وتكيُّف اشكالها وادواتها ومبتكراتها الكفاحية مع متطلبات مواجهة واقع احتلالي قهري ومرير، وتحت طائلة ظروف بالغة التعقيد والقسوة في ظل معادلات محلية وإقليمية ودولية، إن هي إن لم تك مضادة بالكامل فأغلبها واقعاً يعمل لصالح الاحتلال…هم بالضرورة نتاج  موضوعي لرد مستوجب استدعته مواجهة مثل هكذا ظروف. وبالتالي، هم خلاصة منطقية لعناد نضالي مذهل واع لذاته ولطبيعة عدوه، وفوقه، هو ليس بغيرالمدرك لجسامة مختلف المعادلات والتقاطعات والتعقيدات المعادية من حوله…إنه عناد ما كان إلا لما راكمته عقود من اتواق وانكسارات ومقارعة عذابات، وما كدسته تجارب مريرة عمدتها التضحيات الممتدة امتداد ما قارب قرن تواترت انتفاضاته وتعاقبت محطاته النضالية ولن يتوقف تواليها بدون حسم الصراع، ولن يحسم إلا بعودة الفلسطينيين لكامل فلسطينهم وعودتها كاملة اليهم باستعادتهم لها، والتي لن تكون إلا بدحر الغزاة المحتلين وتحريرها.

لا نقول أن هذا بالسهل أو المقترب، لسنا طوباويين، وانما نحن إزاء واحدة من حقائق الجرح الفلسطيني، التي لم ولن تغطي سطوعها كل غرابيل العجز والخذلان حد التفريط فالتواطوء لتصفية القضية الفلسطينية على الصعيدين الأوسلوي الفلسطيني والتسووي العربي، ودولياً، بمعنى غربياً، كل هذا الانحياز التاريخي المشهود، وكافة اشكال الدعم المستدام والتآمر التصفوي المتواصل، والبالغين حد مشاركة المحتلين عدوانيتهم وليس مجرَّد تغطيتها وحمايتها، بل والاستماتة في محاولة تثبيت وادامة ورعاية جريمتهم الاستعمارية في فلسطين.

عملية تل ابيب الفدائية النوعية الأخيرة، التي كان بطلاها شهيدا مدينة يطا الصامدة ابنا العم محمد وخالد مخامرة، هي آخر تعابير هذه الحقيقة الفلسطينية جداً، والتي هي إذ تؤكد على ما تقدَّم، تؤشر على جملة من ثوابت تزكّْيها فدائية ملتقطي الراية الفلسطينية الجدد من جيل ما بعد أوسلو، وتعمِّدها دمائهم الزكية، وأولاها:

إن الانتفاضة، كشكل من اشكال المقاومة الراهنة للاحتلال، ليست خياراً بقدر ما هى ضرورة نضالية لحماية قضية قيد التصفية، بمعنى حماية وجود وطني وتوسُّل سبل بقاء شعب، وعليه، فهى وإن عرفت من آن إلى آخر جزراً، فإن موجاتها متلاحقة ومدها آت من بعد كما هو حاله من قبل، إذ ما دام هناك احتلال فحتام تكون مقاومته، وهى لن تتوقف إلا بزواله.

والثانية، إن مستجد ابتكاراتها النضالية التي افصحت عنها عملية بطلي يطا هو تحوًّل سكين المطبخ الفلسطيني إلى رشاش محلِّي الصنع، وقد يكون قد تم صنعه في مطبخ ايضاً، الأمر الذي يقول في هذه المرحلة، التي اختلطت في انحداراتها المفاهيم وغامت في اوهامها الرؤى، إن الكفاح المسلح، أو هذه الأيقونة النضالية الأولى، التي رسمتها المنطلقات الثورية التاريخية للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي تخلى عنها الأوسلويون وغيَّبها أو كاد العجز الفصائلي، هي خيار الشعب الفلسطيني المناضل وطريقه الرئيس الموصل إلى فلسطينه وحريتها، وما خلاه من ضروب المقاومة لا تعدو روافداً ترفده أو توازي مجراه. وإن هذا الشعب الفدائي الاستشهادي  على مدار الصراع قادر دائما على إعادة الاعتبار لخياره هذا. لقد ظل الحريص على التذكير به كلما تكاثرت من حوله نواعق المبادرات التسووية، أو اطلت برأسها المكائد التصفوية…كأن يفاجىء الجميع كعادته بالمستجد من ابداعاته الكفاحية في هذا المجال، ومنها العمليات الفدائية الفردية التي ازرت بالقدرتين الاستخباراتيتين المتعاونتين، الصهيونية واداتها الأوسلوية.

والثالثة، إن انتفاضة شعب مقاوم  له كل هذا الموروث النضالي المديد، والقدرة الأسطورية على الصمود، والاستعداد غير المحدود لبذل اجلَّ معاني التضحية وأغلاها، تردفها عبقرية ابتكارية لأشكال ووسائل وأدوات النضال المتاحة والمتوائمة مع ظروفه القاهرة وجبروت جبهة اعدائه، تثبت، وفي مدها أو جزرها، أنها عصية على الوئد. وبالتالي، فهى إذ لن تنتظر، فصائلياً، غيث وهم التقاء المساوم بالمقاوم دون التحاق الأخير بالأول، أو متخيل إمكانية توافق استحال على برنامج حد  ادنى وطني بين من يتعاون مع عدوه ومن يرفع شعار مقاومته، أو حصاداً مأمولاً لمزمن التكاذب حول حكاية “المصالحة الوطنية”، قد اثبتت بهذه العملية النوعية المتحدية، توقيتاً ومكاناً وأداءً، حين طالت عمق المربع الأمني الصهيوني في القلب من تل ابيب، ومبعدة عشرات الأمتار من وزارة الحرب الصهيونية المتربع للتو على سدتها واحد من اشكال ليبرمان، محدودية قدرة البطش الصهيوني وفشل آلته القمعية الجهنمية.. تماما كما اثبتت المقاومة اللبنانية انتهاء قدرة هذا العدو على مزيد من التوسع والاحتفاظ بما يحتله، وأثبتت غزة المحاصرة والمستفرد بها فشل آلة فتكه الهوجاء المنفلتة في الانتصار عليها.

…واثبتت أن إرادة الصمود والمقاومة ورفض الاحتلال هي وحدها البلا حدود، ووحدها والتي إلى تطور وتجذُّر واستمرارية تزرى بقعقعة المحتلين المتوعِّدين بويل وثبور استنفدوا كل ما توفر في جعبتهم منه، وبادانات السلطة الأوسلوية لعملياتها، هذه السلطة التي تهوًّد الأض من تحت اقدامها وهى لاتنفك عن متابعة أمرين لا ثالث لهما عندها، التعاون الأمني مع المحتلين، واستجداء الحلول التصفوية ممن تسميها “العدالة الدولية”…هذه التي نصَّبت مؤخراً مجرماَ من أمثال الصهيوني داني دانون رئيساً للجنة القانونية لصرح عدالتها المنتظرة!!!

…كل هذا اثبتته، فماذا لو أُردفت بعصيان مدني…نعم، عصيان مدني  لعله الآن بات من مستوجبات هذه المرحلة المصيرية، وكإستحقاق مكمِّل آن آوانه واضحى مطلوباً من شعب المفاجآت النضالية المذهلة لرفد ما تفاجئ انتفاضة فدائييه المستمرة أعدائه به.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى