هكذا عرفت “هيكل” الأقرب الى عبد الناصر

بقلم : زياد شليوط

لا أذكر بالضبط في أي سن من عمري كنت، لكن بالتأكيد في بداية العقد الثاني عندما بدأ اسم محمد حسنين هيكل يصل لأذني، ولم أكن أفقه من هو هذا الشخص المهم أو الصحفي الخاص الذي تقوم اذاعة ” صوت العرب” / القاهرة بقراءة مقاله الأسبوعي الذي يظهر في صحيفة “الأهرام” كل يوم جمعة تحت لافتة “بصراحة”، حيث كنت أرى الرجال من أصدقاء أبي يتحلقون حول المذياع لمتابعة مقال هيكل. وليس ذكائي الخارق هو الذي أتاح لي معرفة كل تلك الأمور في سن مبكرة، انما الفضل يعود للظروف المعيشية التي سادت في ذلك الوقت، حيث لم نكن نعرف التلفاز بعد، ولذا كنا نشارك الكبار في جلوسهم حول المذياع أو نحاكي سلوكهم، ولهذا فهمنا ونحن في سن مبكر أن محمد حسنين هيكل، كاتب وصحافي كبير (رغم صغر سنه في حينه)، والأهم أنه من رجالات الزعيم العربي المحبوب جمال عبد الناصر، ومن ثم سمعنا أن عبد الناصر أوكل اليه مهمة وزارة الارشاد القومي، بعد نكسة حزيران، أي وزارة الاعلام بمفهومنا اليوم. ومنذ تلك الفترة وعلى قدر وعينا أيضا سمعنا البعض يتهم هيكل أنه “امريكي”، أي ذو ميول غربية أمريكية مناوئة للسوفييت والشيوعية، حيث كانت تلك أيام ما عرف “بالحرب الباردة” بين الاتحاد السوفييتي الشيوعي، والولايات المتحدة الرأسمالية الاستعمارية.

** هيكل سجل متحرك لثورة 23 يوليو **

تلك كانت بداية تعرفي الى محمد حسنين هيكل، وما هي الا سنوات قليلة حتى عرفناه أكثر. وكان ذلك يوم الوفاة المفاجئة للزعيم، وبعدها عرفنا مدى التصاق هيكل بناصر، وقد شاهدنا اسمه على صدر الصحف نقلا عن “الأهرام” يصف لنا الساعات الأخيرة في حياة الزعيم، وهو الذي كان الى جانبه في تلك الساعات الحرجة، كما كان معه على مدى سنوات حكمه التي امتدت على 18 عاما..

ولما كان تعلقي بشخصية عبد الناصر بعد مماته مباشرة، وخاصة بعدما شاهدته من حب جارف خارق لا حدود له من قبل أبناء شعبي والشعوب العربية، كان من الطبيعي أن أبدأ بالبحث عن أي كتاب يتناول سيرة ومسيرة عبد الناصر، وفي العام 1975 وقع بين يدي كتاب “بصراحة عن عبد الناصر” وهو عبارة عن حوار مطول أجراه الصحفي اللبناني مع الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، والصادر عن وكالة أبو عرفة للصحافة في القدس. وهنا عرفت أكثر محمد حسنين هيكل ومدى قربه من عبد الناصر واطلاعه على أدق الأمور وأكثرها حساسية، وكما قال عنه المؤلف ” ان محمد حسنين هيكل هو “صحافي العصر” وهو أحد أبرز الظواهر في التجربة الناصرية” ص13

وكذلك عرفت هيكل في نفس العام من خلال كتابه ” الطريق الى حرب رمضان” الذي قدم لنا فيه حكاية نصر أكتوبر، وبعده من خلال عدة كتب تناولت الناصرية فكرا وطريقا ومواقف، أو ناقشت فترة حكم عبد الناصر والثورة التي قادها عام 1952، وتأكد لي أكثر وأكثر أن هيكل لم يكن مجرد صحفي أو كاتب، بل هو كان بمثابة سجل متحرك لثورة 23 يوليو ولفكر عبد الناصر.

** وعرفت مدى حبه لناصر بعدما أودعه السادات السجن **

ولما استلم السادات الحكم بصفته نائبا للرئيس بعد عبد الناصر، ظهرت بعد فترة خلافات بينه وبين مجموعة من أقطاب الحكم، وكلهم عاشوا وعملوا مع عبد الناصر، وفي ليلة ليلاء انقض السادات على خصومه في الحكم وأصدر أوامره باعتقالهم، وكانت ما أطلق عليه “حركة التصحيح” وبعدها أخذ السادات يبتعد شيئا فشيئا عن طريق عبد الناصر، وما أثار استغرابنا أن هيكل دعم السادات في حركته هذه إلى أن اختلف معه بعدما أعلن السادات أن 99,9% من أوراق الحل بيد أمريكا وأعرب عن استعداده للذهاب الى اسرائيل، وحصلت القطيعة بين الرجلين بعدما استقال هيكل من منصبه الوزاري، وألحقه السادات بزملائه السابقين في السجن.

وبعدما أطلق سراح هيكل بعد اغتيال السادات واستلام حسني مبارك الحكم، لجأ الى الكتابة للصحف الخارجية سواء العربية منها أو الغربية، ولم يعد الى تحرير “الأهرام”، وبات كاتبا مطلوبا ومقروءا، ينشر المقالات ويصدر الكتب السياسية والتي كتبها بصفته شاهدا ومراقبا ومتابعا، وقربه لسنوات طويلة من جمال عبد الناصر ومن مركز القرار، ومرافقته له في العديد من الجولات والزيارات أو حضوره المقابلات مع زعماء العرب والعالم، كونت لديه مخزونا معلوماتيا كبيرا وهاما، وأرشيفا غنيا من الذكريات ومعرفة كواليس القرارات والأحداث، وأضاف اليه متابعته واستعانته بفريق عمل وكون أشبه بمركز دراسات خاص به، فكانت مؤلفاته غذاء معلوماتيا هاما في عالم السياسة، جعله قريبا منا أسلوبه الصحفي السلس في تناول المواضيع بعيدا عن التنظير أو البحث الأكاديمي الصرف.

ومن أهم الكتب وأكثرها اثارة وأشدها تشويقا كتاب “خريف الغضب” والذي عرفه على أنه “قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات” والذي صدر عام 1986 كان عبارة عن عملية تشريح لشخصية أنور السادات المحيرة وهو يعتبر من أهم المصادر والمراجع لفترة تاريخية هامة من تاريخ مصر، والذي يستعرض فيه بأسلوب مشوق تلك الفترة بل ما سبقها وأعقبها وكل عمليات المخاض التي تخللتها، دلت على سعة اطلاع هذا الانسان وثقافته الواسعة وغنى خزانته المعرفية.

وتوالت كتبه الموسوعية التي أكدت ان محمد حسنين هيكل ليس مدرسة بل جامعة صحافية وسياسية، وأنه كان حزبا سياسيا ناصريا ومركز أبحاث لثورة 23 يوليو في وقت غابت تلك المراكز والأحزاب، فسد الفراغ لوحده من خلال عميق معرفته واتساع أفكاره، ولهذا تعتبر وفاة هيكل خسارة كبيرة، رغم أنه عمّر في الحياة وقدم لنا معظم ما يملكه من معرفة وأسرار ومعلومات، الا أنه يبقى قيمة فكرية وتاريخية لا تعوض.

(شفاعمرو/ الجليل)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى