فايز شخاترة يناقش مفهوم الوحدة العربية في فكر عبد الله الريماوي
بمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين لقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسورية عام 1958، القى المحامي فايز شخاترة، رئيس المنتدى العربي محاضرة بعنوان ”الوحدة العربية في فكر المناضل القومي الكبير عبد الله الريماوي”.
ونظراً لاهمية هذا العرض النقدي المتميز الذي قدمه المحامي شخاترة، ارتأت ”المجد” نشر ابرز المفاصل الواردة في هذا العرض..
في هذه الذكرى العزيزة على قلب كل مناضل عربي، والتي جسدت أول لقاءٍ بين القوى القومية العربية الثورية لإقامة ”الدولة النواة” لـ ”الدولة العربية الواحدة المنشودة”، التي تتطابق حدودها مع حدود الأمة، نتحدث اليوم عن مفكر عربي كبير ومناضل قومي شديد المراس ، عايش ظروف هذه الوحدة ، وأسهم ، قدر طاقته ، في قيامها وفي محاولة الحفاظ عليا والتنبيه إلى مخاطر إفشالها، واستنتاج العبر والدروس من انهيارها فيما بعد ، مما دفعه إلى كتابة مؤلفاته البالغة أحد عشر مؤلفاً ، فيما يقرب من ثلاثة آلاف صفحة ، بعنوان ”موسوعة الوعي العقائدي العربي”.
وكما ظُلمت وحدة عام 1958 ، حتى ممن شاركوا في إقامتها من القوى القومية العربية، فقد ظُلمت هذه الموسوعة وصاحبها ، حتى من رفاق النضال، الذين ضيقوا الخناق عليها في البلدان التي يحكمونها، فلم يُتح لكثيرٍ من معاصريه أو من الأجيال العربية اللاحقة، أن تطلع على أفكار هذا المفكر الموسوعي، الملتزم أشد الالتزام بأهداف أمته في الوحدة و الحرية والاشتراكية واسترداد أجزاء الوطن السليبة .
فالوحدة العربية عند الأستاذ الريماوي هي ”أملٌ” داعب ويداعب خيال الأجيال العربية المتعاقبة، وهي ”شعار” استشهدت تحت لوائه مواكب متلاحقة من الشهداء العرب ، وهي ”حلٌ حتمي وضروري” لأعمق التناقضات في الحياة العربية ، وهي ”هدفٌ” سيبقى يتحرك نحو تحقيقه المد القومي الثوري للقوى العربية العاملة . إنها تعني قيام ”الدولة العربية الكبرى المنشودة”، في أمةٍ مزّقها أعداؤها خلافاً لإرادتها وضد مصالحها ، والتي بقيامها تزول جميع الكيانات السياسية القائمة في الوطن العربي من دولٍ ودويلاتٍ وإمارات، أقامتها وحافظت على بقائها الدول الغربية الاستعمارية.
إنها الدولة التي يتحقق بقيامها الوضع اللازم لإمكان بناء المجتمع القومي العربي الاشتراكي الديمقراطي ، وحمايته وتطوره كمجتمع كفاية وعدل وحرية وكرامة ، متحررٍ من الاستعمار والاستغلال والنفوذ الأجنبي، يتمكن المواطن العربي فيه من تحقيق ذاته ، وتتمكن الأمة من تأدية رسالتها الإنسانية على أكمل وجه .
فالوحدة ”هدفٌ وغاية” في ذاتها ، كتجسيد للرابطة القومية التي تجمع أبناء الأمة العربية، وهي ”ظرفٌ وشرط” لإقامة المجتمع الاشتراكي الديمقراطي ، والقدرة على تطويره وحمايته من أن يُستوعب في القوى الدولية الكبرى أو أن يسقط أمام ضغوطه . لأنه بغير النضال القومي الوحدوي، لايستقيم النضال الاشتراكي الديمقراطي العربي ، ولا تتوفر له عوامل النصر وتجنب إمكانية النكسة أو الانحراف. ويؤكد الأستاذ الريماوي أن أي بحثٍ جادٍ أو مخلصٍ في موضوع ”الوحدة العربية” لا بد وأن يتناول المحاور التالية : الأساس القومي للوحدة ، المحتوى الاشتراكي الديمقراطي لها، قوى الوحدة ، الطريق الثوري للوحدة.
الإساس القومي للوحدة
ينطلق هذا الأساس من ضرورة إقامة ”دولة الوحدة النواة ” التي تجسد بميلادها وتطورها انتصار الإرادة العربية الثورية للبدء بإقامة ”دولة الوحدة الشاملة” ، وتكون بذلك الدولة العربية الوحيدة التي تستحق ”ولاء” القوى العربية الثورية ، التي ترفض منح هذا ”الولاء” لأي من دول التجزئة القائمة . ويُعني هذا التصور أن ”دولة الوحدة الشاملة” تتميز في الشكل والمحتوى وطرق تحقيقها عن توحيد ”أممٍ متعددة ” في حلف أو اتحاد أو دولة واحدة ، ولذا فلا مجال لمقارنتها بالوحدة الأوروبية أو الإفريقية أو تجمع دول الكومنولث أو حتى الاتحاد اليوغسلافي أو الاتحاد السوفيتي .
المحتوى الاشتراكي للوحدة
يرى الأستاذ الريماوي أن النضال الإنساني ضد التخلف ومن أجل الكفاية في الإنتاج ، وأن الصراع الطبقي ضد الاستغلال ومن أجل العدل في توزيع الإنتاج، وأن الكفاح الإنساني من أجل الديمقراطية وسيادة المنهج العقلاني العلمي، في التصدي للتحديات التي تواجه أي مجتمع ، هي سنن إنسانية، تماماً كسنة النزوع القومي نحو التوحد في أي مجتمع قومي، وذلك لأن التقدم لايمكن أن يُبنى على أساس التجزئة .
ويرى الأستاذ الريماوي أن الدعوات الوحدوية التي تتنكر لمحتوى الوحدة الاشتراكي الديمقراطي، إما أنها دعوات مشبوهة تحركها القوى الرجعية العربية أو الاستعمارية ، أو أنها دعوات مراهقة تعجز عن إدراك مطالب الجماهير الوحدوية في الاشتراكية والديمقراطية، كما يرى أن الأساس القومي للوحدة ومحتواها الاشتراكي الديمقراطي ، هما اللذان يحددان صيغتها الدستورية وبنيانها السياسي .
قوى الوحدة
يرى الأستاذ الريماوي أن الفئات الحاكمة والمستغلة في الوطن العربي، والمرتبطة مصلحةً ومصيراً ، في استمرار أوضاع التجزئة والاستغلال والتبعية والتخلف ، لا يمكن أن تكون في إطار القوى العاملة للوحدة ، وتشترك معها في هذا الحكم القوى الإقليمية والطائفية والعنصرية والشعوبية والرجعية ، لأن مصلحتها تكمن في استمرار أوضاع التجزئة والتخلف والاستغلال ، وعليه فإنه يصل إلى نتيجة مؤداها أن القوى صاحبة المصلحة ، والقوى المؤهلة لإقامة ”دولة الوحدة” بمحتوى ”اشتراكي ديمقراطي ”، إنما هي قوى الشعب العربي العاملة من فلاحين وعمال وجنود ومثقفين ثوريين، كما تضم بالإمكان القطاعات غير الواعية لمصلحتها أو المضللة عنها .
قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958
يرى الأستاذ عبد الله الريماوي أن وحدة عام 1958 قد ظُلمت منذ أن اغتيلت بأيدي الرجعية العربية والقوى الاستعمارية ، وطعنتها في الظلام خناجر العملاء والمأجورين ، بعد أن أربكت بناءها الداخلي وامتدادها الوحدوي ، عقليات البيروقراطية وأساليبها ، وطموحات الانتهازية والانحراف المقنعة بالعقائدية الكاذبة، لقد ظُلمت هذه الوحدة حين اعتبر البعض أن قيامها كان سابقاً لأوانه، كما ظُلمت عندما ووجهت ، ممن ساهموا في قيامها ، في رفع شعارات ”الوحدة المدروسة” أو ”الوحدة الاتحادية” .
ويرى الأستاذ الريماوي أن عجز القوى الشعبية الوحدوية عن حماية هذه الوحدة ، وعجزها حتى اليوم عن إقامة ”دولة الوحدة النواة” من جديد، يعود لعدة أسباب كضخامة القوى المعادية الداخلية والخارجية ، أو النقص في الطاقات النضالية لدى القوى الشعبية الوحدوية ، غير أن أهم هذه الأسباب برأيه هو افتقار القوى العربية العاملة للآداة الثورية الطليعية الواحدة التي تقود نضالها بمنطق ”ثورة عربية واحدة بحركة عربية واحدة” .
الطريق إلى الوحدة
يرفض الأستاذ الريماوي التسليم بأية شرعية شعبية أو قانونية للكيانات السياسية العربية القائمة حالياً، لأنها قائمة في الأساس والمنشأ ، وتستمر برعاية وحماية تحالف يجمع بين القوى الاستعمارية المهيمنة على الوطن العربي ، وبين جماعات حاكمة وفئات رأسمالية ورجعية، يرتبط بقاؤها ارتباطاً وثيقاً باستمرار سيطرة هذه القوى الاستعمارية على المقدرات العربية .
ولذا فإن الأستاذ الريماوي يستبعد أن تؤدي أية خطوات في إطار الجامعة العربية إلى إقامة ”دولة الوحدة النواة ” ، لأن هذه الجامعة تقوم بالأساس على الاعتراف بكيانات التجزئة ، وتكريس هذه الكيانات ، التي يتناقض وجودها جوهرياً مع وحدة الأمة العربية ، وعليه فلا سبيل لإقامة ”دولة الوحدة النواة” إلا بإسقاط هذا التحالف الحاكم في أي قطر عربي . وبالمقابل يرى الأستاذ الريماوي أن الجماهير العربية العاملة ، وبعد أن رأت أن النظام الذي نشأ في مصر بعد نجاح ثورة 23 يوليو – تموز 1952 يجسد آمالها ويعبر عن إرادتها ، وخاصة بعد ميلاد الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 ، فقد توجهت إلى هذا النظام وإلى ذلك العهد بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، ومحضته كل الولاء لشرعية تمثيله للأهداف العربية الكبرى في الوحدة والتحرير والتقدم ، وعبرت عن استعدادها للتضحية تحت قيادته لتحقيق هذه الأهداف.
آداة الثورة العربية
يرى الأستاذ الريماوي أن هذه الآداة يجب أن تتجسد في ميلاد ”حركة عربية واحدة ” تجسد وحدة الثورة والهدف ، بأساسٍ قومي ومحتوى اشتراكي ديمقراطي ، حركة تولد وتنمو ، بانتماء فردي ، وليس من خلال التقاءٍ جبهوي لأحزاب أو كتل أو منظماتٍ قائمة ، حركة يجب أن تكون في أولى حلقاتها وخطواتها موحدة العقيدة والميثاق ، قومية التكوين والقيادة والتخطيط والمسؤولية ، وتعتبر الوطن العربي كله مسرحاً واحداً لها بلا حدود، تنتهج مبدأ علنية الوجود مع سرية التنظيم، إذا اقتضى الأمر ذلك، وتعبر في تركيبتها عن المقياس القومي والطبقي في وقتٍ واحد.
الشكل الدستوري للوحدة
يرى الأستاذ الريماوي أن هذا الشكل قابل للبحث والاجتهاد، على أن يتم الانطلاق في هذا البحث من عدم الاعتراف بشرعية الكيانات السياسية القائمة أو استهداف المحافظة عليها، بدعوى وجود مصالح أو هويات أو شخصية إقليمية خاصة لهذا الكيان أو ذاك، وأنه تجب مراعاتها أو إخضاع الشكل الدستوري للوحدة لها. ويؤكد أن الباحث في هذا الشأن لابد وأن يأخذ بعين الاعتبار: مقتضيات حماية دولة الوحدة وضمان امتدادها الوحدوي،التخطيط المركزي وسرعة التنفيذ، ديمقراطية العمل لإقامة مجتمع اشتراكي ديمقراطي بتخطيط مركزي، والأهم هو إقامة نظام حكم محلي يرتكز إلى تقسيم الدولة إلى وحدات ”إدارية ، غير سياسية”، لا تتطابق في حدودها مع حدود الكيانات السياسية القائمة بالتجزئة .
ويؤكد الأستاذ الريماوي أن التجربة أثبتت أن طرح شعارات ”الوحدة الاتحادية” أو ”المتكافئة” أو ”المدروسة” ، إنما أتى ويأتي التفافاً على هدف الوحدة وتآمراً على قواها ، سواء أتى هذا الطرح من القوى الإقليمية أو الرجعية ، أو التي ترفع شعار القومية وتتصرف بانفصالية مقنعة بأقنعة عقائدية .
مسألة الأقليات
يرى الأستاذ الريماوي أن المقصود بها، الأقليات التي تعبر عن ”أمم” أو ”أجزاء من أمم” مستقرة في أوطانها الأصلية ، تضمها في هذه الأوطان دولة أو دول أخرى، فيحركها نزوعها القومي للانفصال عن هذه الدولة أو الدول لتكوين دولتها القومية .
ويجزم الأستاذ الريماوي بأنه لايقع في نطاق هذه الأقليات ”مللٌ” أو ”طوائف” من أبناء الأمة الواحدة تدين بدين غير دين الأكثرية في الدولة ، أو تنتمي لطائفة غير الطائفة التي تنتمي لها الأكثرية ، وذلك لأن الدولة القومية لاتقوم على أساس الطائفية أو العنصرية ، وإنما تقوم على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ، وعلى أساس ”حرية الاعتقاد” لجميع المواطنين.
ومن وجهة نظره أنه لايقع في عداد الأقليات جماعات لاتشارك الأمة في مقوماتها كأمة ، إذا كانت هذه الجماعات غازية وافدة ” كالصهاينة ”، أو إذا كانت مقيمة مستوطنة غير غازية أو وافدة ، لكنها ليست أمماً أو أجزاء من أممٍ متكونةٍ أو في طريق التكوين.
وفي ضوء هذا التحديد يرى أن مسألة الأقليات في الوطن العربي لاتقوم إلابصدد مشكلتي الأكراد وجنوب السودان. أما الذين يتحدثون عن البربر كأقلية قومية ، فإنهم يغالطون التاريخ والواقع، لأن البربر من صميم المركب البشري الذي تتكون منه الأمة العربية (يمكن الرجوع إلى ماكتبه المفكر العربي الجزائري عثمان سعدي، وهو من أصل بربري، في هذا الشأن).
وبالرغم من اعترافه بوجود أساس موضوعي لمشكلتي الأكراد وجنوب السودان، إلا أنه يلاحظ مدى تدخل القوى الأجنبية الاستعمارية في تحريكهما ، باتجاه كل مايناقض المصالح القومية العربية ومصالح هاتين الأقليتين ، كما يلاحظ أن القيادات التي تنطق بإسميهما، تنكر حق الأمة العربية في الوحدة ، وتتجاهل الصلة الجدلية بين تحقيق الحل القومي التقدمي لمشكلتيهما ، وبين قيام الدولة العربية الاشتراكية الديمقراطية ، كما أن هذه القيادات تتجاهل مابين أبناء الأمة العربية وبين أبناء هاتين الأقليتين، من روابط تراثية ومصلحية قائمة بحكم التاريخ والجوار لايمكن إنكارها ، وأن الاتفاق الحر معها يمكن أن يكون مصدراً لصيغ دستورية مرنة وممكنة .
علاقة الوحدة بالتحرير
يعتقد الأستاذ الريماوي أن أهم دعامات الاستراتيجية الصهيونية لبقاء الكيان الصهيوني وتوسعه ، هو استمرار أوضاع التجزئة والتبعية في الوطن العربي ، وفي نقاشه لشعاري ”الوحدة طريق التحرير” أو ”التحرير طريق الوحدة”، يرى أن التحرير لايمكن أن يتم إلا بالاعتماد على قوة عربية ذاتية تملك قرارها، وتتجسد في ”دولة طوق عربية”، تشمل الدول المحيطة بفلسطين المحتلة ، وعلى كفاح فدائي مسلح يكون للشعب العربي في فلسطين فيه دوراً طليعياً ، وتحت علم فلسطين ، اذا اقتضت الظروف الدولية رفع هذا العلم.
ذلك إن قيام هذه الدولة الطوق يُرهب الحكومات الرجعية خارجها ، ويمنعها من التآمر مع الأعداء لإلحاق الهزيمة بالقوى المنخرطة في معركة الإنقاذ المصيرية ، ويضع هذه الدولة الطوق في مركز التحكم في أسلحة النصر العربية ، وفي مقدمتها البترول ، كما أن قيامها سيساعد في تدهور معنويات الصهاينة وتفجير الصراعات الداخلية بينهم ، مما يضعف قدرتهم على الصمود في معركة طويلة للتحرير ، ويؤكد للأعداء في المجال العالمي ، أن الإرادة العربية للتحرير منتصرة حتماً ، ولا جدوى من إعاقتها بالمحافظة على بقاء الكيان الصهيوني ، في مواجهة دولة تنطق باسم العرب جميعاً.