هيكل.. جورنالجي امتلك فصاحة الشعراء وبصيرة الحكماء وكاريزما الزعماء
كم عالمٍ متفضلٍ قد سبّه من لا يُساوي غرزةً في نعلهِ
(الامام الشافعي)
رحل ”هيكل” مايسترو الحروف الابجدية، وكاشف غطاء الملفات السرية، وضابط ايقاع الحواس الخمس، ووارث منظار ”زرقاء اليمامة”، وخاتم الآباء المؤسسين للصحافة العربية الحديثة.
رحل صائغ الجملة الادبية الانيقة، وصاحب الفكرة السياسية العميقة، وحامل اوسمة الشهرة الناصعة، وقائد كتائب ”القوة الناعمة” التي من شأنها ان تهز الجبال، وتهزم اعتى القوى الغاشمة.
حمّ القضاء ووقع الفراق.. جزعت لغة الضاد من هول المصاب، وناحت الكلمة بين يدي فجيعتها، وانتحبت قلائد البلاغة والمصطلحات المنحوتة، ورفعت دولة الصحافة العربية رايات الحداد والسواد، وذرفت الاقلام على وجنات الورق دموع الوداع الاخير.
من اعالي عمر ناهز الثالثة والتسعين عاماً، ومن رحاب مجد صحفي وسياسي شمل العالم شرقاً وغرباً، انتقل هذا الاستاذ العريق، قبل بضعة ايام، الى جوار ربه، والتحق بصديقه ورئيسه وشريكه في الحلم والحكم جمال عبدالناصر، حيث التقيا هذه المرة في دار الخلود، بعد لقائهما السابق في ديار الحياة.. وقد هبت، خلال مراسم وداع هذا الفقيد الكبير، نسائم معطرة ومعتقة من روابي الزمن الناصري الجميل، وانتعشت الذاكرة العربية بمشاهد وتسجيلات ارشيفية تصور عدداً من الاحداث والوقائع المجيدة التي حفل بها ذلك التاريخ القريب.
”انتهت الرحلة، فلا تعاندوا القدر”.. قالها الاستاذ لاهله المحيطين به.. انتزعها من بين حشرجات الموت الذي كان في انتظاره.. فلقد اعتاد هذا ”الطود العالي” طوال حياته على الاعتماد على النفس والاتكال على الذات، ولم يكن في طاقته الاستسلام للاجهزة والمعدات الطبية القادرة على اطالة امد الحياة.
”علوٌ في الحياةِ وفي الممات”.. قالها الشاعر العربي القديم، ولكننا شهدنا صورة جديدة لها، لدى رحيل ”ابي علي” الذي ما ان اذيع خبر وفاته الاليم حتى ترددت اصداؤه في اربعة اقطاب الارض، وهطلت التعقيبات وردود الافعال والاقوال عليه من كل حدب وصوب، وتوافدت على القاهرة اسراب المعزين المكلومين من داخل مصر وباقي اقطار الوطن العربي.
هذا الدوي الاعلامي الهائل وغير المسبوق الذي احدثه رحيل هذا الاستاذ القدير، على الصعيدين العربي والعالمي، يتناسب طردياً مع رحيل رئيس دولة وازنة او زعيم ثورة منتصرة، وليس وفاة كاتب ومؤرخ عجوز ينتمي لاحدى دول العالم الثالث، ويترفع عن التماس الشهرة المفتعلة والمكانة المصطنعة والبريق الزائف عبر وسائل ملتوية وملوثة.
كيف ولماذا حصل كل ذلك ؟؟ كيف ولماذا استقطب ”هيكل” كل هذا المدى من الاهتمام الواسع والمتابعة الحثيثة، حتى لدى خصومه ومناوئيه ؟؟
الجواب سهل وبسيط وماثل للعيان، ومتاح لكل من يتحلى بالعقلانية والموضوعية وروح العدل والانصاف.. فهذا القطب الصحفي ليس لغزاً او طلسماً يصعب فهمه وتفسيره والاحاطة به، بل هو كتاب مفتوح تسهل – بل تحلو- قراءة صفحاته، وهو منارة مشعة يمكن رؤيتها من جميع الجهات، وهو جدول عذب تترقرق مياهه بكل شفافية وسط حقول الشعر والفكر والابداع.
هذا الرجل المتميز كدّ وكدح.. جدّ واجتهد واعتمد على نفسه في الكسب المعرفي والتحصيل الثقافي، وفي اكتناز الخبرات واغتنام الفرص المتاحة لتحقيق اعلى النجاحات الصحفية والسياسية التي لفتت اليه الانظار، واختصرت امامه مسافة الوصول الى ارقى المراتب والمناصب المهنية، وهو لا يزال في بواكير الشباب.
هذا الاسم العلم امتلك من الخصائص والمزايا والمقومات الشخصية، ما يؤهله ليكون ”قوة مثال” لسائر الاجيال الصحفية العربية.. فقد اجتمعت في شخصه موهبة خصبة، وثقافة رحبة، ومثابرة دائبة، وتجربة حافلة، وبوصلة سديدة ورشيدة ومصوبة، في الغالب، نحو وجهة الصواب.
بالالمعية والعصامية والنبوغ وقوة الذكاء المرفقة بالترفع والكبرياء، استطاع هذا الاستاذ ان يمتلك ”هالة كاريزمية” تعتبر فريدة من نوعها على صعيد الصحافة العربية المعاصرة.. بل استطاع ان يرفع من قدر قلمه وحبره وفكره وسطره حتى باتت زاداً مفضلاً، وحاجة ضرورية، ودائرة مغناطيسية تجتذب الحاكم قبل المحكوم، والخصم قبل النصير، وصانع القرار قبل رجل الشارع.
لم يفرض نفسه على احد، ولم يعرض قلمه للبيع او الايجار، بل كرّس كل جهده ووقته لتجويد مهنيته واثبات موجوديته وتعزيز جاهزيته للعطاء النوعي المتميز.. تاركاً للاخرين ان يسعوا اليه ويُقبلوا عليه ويختاروا صحبته والتعامل معه.
كان جمال عبدالناصر المتحفز لطرح مشروعه النهضوي الثلاثي الابعاد، الوطنية والقومية والتقدمية، في امس الحاجة الى مصابيح تنير له الدروب، وعقول تشاركه التفكير والتدبير، وقيادات تجمع بين الثقة والكفاءة، وتبذل اضعاف ما تأخذ.. وقد نثر ”ابو خالد” كنانته، وعجم عيدانها، فوجد ان الاستاذ هيكل هو الاول والافضل والفطحل القادر على اثراء الحوارات، وانضاج الافكار وصياغتها بارقى التجليات، ثم طرحها في الوقت المناسب، وشرحها بابسط الطرق لتوفير اوسع قاعدة شعبية لها، وضمان اعمق قناعة عقلية بها.
كان عبد الناصر زعيم امة، وكان ”هيكل” زعيم كلمة.. والثابت بكل المقاييس ان المسافة بين القمم هي اقصر المسافات.. هذا- باختصار- هو سر العلاقة التفاعلية الحميمة بين هذا الحاكم وذاك الحكيم، ولا داعي للكثير من فذلكة المتفذلكين، والقص في اثر البعير رغم انه ماثل امام العيون.
بين يوم رحيل ”ابي علي” وساعة كتابة هذه البكائية، فسحة من الوقت قاربت الاسبوعين، واتاحت لنا مطالعة ومتابعة ما تيسر وتنوع مما قيل وكتب حول هذا الفقيد الجليل، مدحاً وقدحاً.. رثاءً وهجاءً.. تأسياً وتشفياً.. ترحماً وتهجماً، ولم يكن غريباً او مفاجئاً اصطفاف الاغلبية الغالبة في فسطاط المشيدين بالرجل، والمثمنين لمواقفه، والمتألمين لفقده، والمترحمين عليه.. في حين اصطفت قلة قليلة ورزيلة من اشباه الكتاب وانصاف المثقفين والصحفيين في فسطاط المتحاملين عليه، والمشككين في تاريخه، والمتشفين في وفاته، والمتنكرين لابسط القواعد الاسلامية في ذكر محاسن الاموات.
بين حاسد وحاقد توزع فسطاط المرجفين والاتهاميين والمتطاولين على مقام هذا الهرم الاشم.. فالحاسدون الذين فشلوا في مط قاماتهم ورفع هاماتهم لتبلغ بعض ما بلغ هذا الاستاذ، بادروا، فور رحيله، بامتشاق معاولهم ومطارقهم للتحطيم من عبقريته، والتهديم من عملاقيته، والتشكيك في وثائقه واسراره وادواره، رغم انهم كانوا على اتم الاستعداد لتقبيل الايادي والاقدام لو اتيح لهم سدس ما اتيح له من مجد ونجومية وقوة حضور وتأثير.
اما الحاقدون النفاثون بالسم الزعاف، والمسكونون بوسخ التاريخ، والمدمنون على الكراهية والعداء والبغضاء، فهم سفهاء الوهابية السعودية، واوباش الجماعات الاخوانية فقط لا غير.. وذلك لاسباب ثأرية وانتقامية جاهلية تتصل بتنفيس الاحقاد المزمنة، وتصفية الحسابات القديمة، وليس لها ان تنتقص قيد انملة من مكانة هذا الاستاذ الصحفية والسياسية والحضارية.
لقد اختلف ”هيكل” مع حزب البعث، واشتد في الهجوم على حكامه في سوريا والعراق عند اوائل عقد الستينات.. كما اختلف مع الاحزاب الشيوعية العربية، وحمل عليها حملات ضارية طوال ثلاثة عقود.. ثم اختلف مع الناصريين اوائل عقد السبعينات، وانحاز لانور السادات على حساب الجناح الناصري في الحكم آنذاك، ولكن احداً من كل هذه القوى والاحزاب لم يودعه بكلمة نابية، او يشيعه بلفظ جارح، او يشمت في موته.. بل لعل العكس تماماً هو ما وقع، حيث نعاه الكثير من هذه الاحزاب وغفرت له وتصالحت معه وترحمت عليه.
وبعد.. اجزم ان الكتابة العادلة والمنصفة عن هذا ”الجورنالجي” الاستثنائي لن تضيف كثيراً اليه، وانما تضيف الكثير الى اصحابها وكتابها، وتزيد من احترامهم لانفسهم والتزامهم باصول وشروط ولياقات مهنتهم.. ذلك لان الكتابة عنه بمفردات الثناء والتوقير والتكريم ”فرض عين” على كل صحفي عربي يصون شرف الكلمة، ويقدّس رسالة الصحافة، ويكنّ مشاعر الوفاء والعرفان لرموزها واعلامها وروادها الكبار.
رحم الله ”ابا علي” فقد كان ”علامة فارقة” في جبين القرن العشرين، وظاهرة صحفية نادرة قد لا تتكرر في المدى العربي القريب !!
الحقیقة واضحة مواضیع المفکر القدیر و الفقید هیکل یعرفونها المفكرين الاقویاء و الامجاد مثل الاستاذ فهد الريماوي