الجيش خط احمر وعقيدته القتالية فوق كل معاهدات الصلح والتطبيع

للجيوش في سائر دول العالم قوة معنوية، وهالة وطنية، ومكانة معيارية واعتبارية تتقدم على قوتها القتالية، وحالتها التسليحية، ومكانتها العسكرية.. ذلك لان الجيوش، في عيون شعوبها، مشاعل حمية، ومعاقل فروسية، ومدارس رجولة، وعناوين عز واباء وكبرياء، قبل ان تكون قوات نظامية وتشكيلات حربية تتولى الذود عن الحمى، والمرابطة على الحدود، والحفاظ على الاستقرار والاستقلال.

ورغم ان الجيوش مخصصة بالاساس للقتال وسفك الدماء، ومكرسة لخوض المعارك الطاحنة والحروب الضارية، ومدججة بمختلف صنوف الاسلحة الفتاكة والاعتدة المدمرة.. الا انها تمتلك جاذبية سحرية ورومانسية طاغية، وتتمتع بمرتبة رمزية وفخرية واكبرية شامخة، وتحظى بقدر وافر من الاعجاب والاعتزاز والاحترام العام، وتشكل قاسماً وطنياً مشتركاً يسمو فوق كل الخلافات السياسية والصراعات بين الحاكمين والمعارضين.

منذ اقدم العصور، نهضت الجيوش بادوار حاسمة في صناعة التاريخ، وتخضيب صفحاته بدماء الشهداء، ورسم معالمه بحد السيف وشواظ النار والبارود.. وقد كان لجيوش الفتح العربي الاسلامي معاركها الخالدة، وانتصاراتها المدوية، وتاريخها المجيد الذي وجد نهايته على ايدي ”العسكريين الاغراب”، عقب ضعف الهوية العربية للدولة العباسية، وتسلم العناصر التركية والفارسية والمملوكية والكردية زمام السلطة ومفاتيح القوة ومقاليد الامور.

اسرع قراءة للتاريخ الحديث والمعاصر، تثبت ان العسكرية العربية ظلت، على مدى عقود وقرون، قيد الاستهداف ورهن الظلم والتآمر والملاحقة، سواء من قبل قادتها السياسيين الذين اضعفوا الجيوش وافسدوها لضمان ولائها لهم ولانظمتهم، او من لدن الدول والقوى الاستعمارية والصهيونية التي دفعتها اطماعها في خيرات بلادنا الى مهاجمة جيوشنا وتدميرها، بدءاً من تدمير الجيش المصري في زمن محمد علي، وانتهاء بتفكيك الجيش العراقي في عهد صدام حسين، ومروراً بمسلسل الضربات الاسرائيلية الغادرة على مختلف الجبهات بغية اظهار وتأكيد تفوقها العسكري على كامل الجيوش العربية مجتمعة.

ومثلما عانت الشعوب العربية وكابدت – ولا تزال – من ظلم حكامها وجورهم وجهلهم وفسادهم، فقد عانت الجيوش هي الاخرى وكابدت وتجشمت ابشع الهزائم وافدح الخسائر، ودفعت من سمعتها ومعنوياتها ودماء ابنائها اغلى الاثمان والتكاليف، دون ان يكون لها يد في تلك البلايا، او تتحمل ادنى مسؤولية عن تلك الرزايا والاوزار، بل مرد ذلك كله الى عمالة ورزالة وهمالة اولئك الحكام الاقزام الذين تواصوا بالجهل وتواصوا بالقهر.

لقد تجنت السياسة على السلاح في الوطن العربي، وجارت المراجع الحاكمة على القوات المسلحة والمؤسسات العسكرية، وعملت على افراغها من روحها الوطنية وعقيدتها القتالية، وصادرت شوقها وتوقها لتجاوز عتبة البيت القُطري الضيق باتجاه آفاق التكاتف والتكامل والتآلف القومي، واسهمت هذه المراجع بالتالي في خدمة اعداء امتنا والمتربصين بها والراغبين، اشد الرغبة، في تجريدها من عناصر قوتها واواصر وحدتها ودعائم نهضتها وروافع عزيمتها.

ولعل الكثير من المرحبين ”بالربيع العربي” بادئ الامر، قد غيروا اراءهم ومواقفهم حينما اتضح لهم بجلاء ان القوى الصهيونية والاستعمارية والرجعية النفطية والاخوانية قد دخلت على الخط، وعمدت الى وضع الشعوب في مواجهة الجيوش (العسكر)، والى تجنيد عصابات الارهابيين والتخريبيين لاضعاف واستنزاف القوات المسلحة في مصر وسوريا واليمن، استكمالاً لما سبق ان اقترفته امريكا بحق الجيش العراقي، وحلف الناتو بحق الجيش الليبي.. دون ان ننسى ما جرى قبل ذلك ببضع سنوات للجيش الجزائري.

واذا كان لهذا الربيع الفظيع من فائدة او فضل، فهو الكشف عن الجوهر الوطني للجيوش العربية، والتوجه السليم والقويم لبوصلتها السياسية والاستراتيجية، والتمييز الدقيق والحصيف بين الثورات الشعبية الصادقة والحقيقية، وبين المؤامرات الامريكية التي تنتحل صفة الثورة وترفع على اعمدة الكذب رايات الحرية والديموقراطية.. فقد رفض الجيشان المصري والتونسي الدفاع عن نظامي مبارك وابن علي الفاسدين والعميلين للغرب والمتهادنين مع اسرائيل، فيما وقف الجيش السوري الى جانب نظام الاسد القومي والمقاوم والمعادي بالمطلق لاسرائيل وحلفائها.

لقد احتار المحللون والمراقبون، وذهبوا كل مذهب في تفسير وتعليل اسباب التحام الجيش (العربي) السوري بقيادته السياسية، والتزامه بادبيات الولاء والطاعة لقائده الاعلى بشار الاسد، وصموده في معترك الصراع قبالة عشرات الجماعات الارهابية والعصابات المسلحة لاكثر من اربعة اعوام عجاف.. ولكنني اعتقد ان هذه الاسباب واضحة لا لبس فيها، وماثلة بجلاء امام كل من يريد ان يرى الامور على حقيقتها وليس كما يتمناها او يتصورها باوهامه، وهي تتلخص اولاً واساساً في ذلك التطابق الكلي بين العقيدة القتالية والرؤية الاستراتيجية والتربية النضالية للجيش السوري المعروف تاريخياً بحسه الوطني وانتمائه العروبي حتى اطلق عليه عبدالناصر لقب ”الجيش الاول”، وبين المواقف المبدئية والقناعات والتطلعات السياسية للرئيس الاسد حول مجمل القضايا العربية، وفي مقدمتها الصراع المصيري والتاريخي مع العدو الصهيوني، واكاد اجزم ان ”الجيش العربي الاول” ما كان ليؤازر قيادته السياسية كل هذه المؤازرة، ويمتثل لاوامرها كل هذا الامتثال، لو سبق لها التلوث باوساخ الصلح والتطبيع مع دولة الاغتصاب اليهودية.. فالجيش هو الاعلم والادرى -بحكم وظيفته- بنوايا قائده الاعلى ومخططاته وتحضيراته العسكرية.

وعليه، ولان الشيء بالشيء يُذكر، فلعل مما يُسجل بماء الذهب للرئيس اللبناني اميل لحود انه قد صوّب العقيدة العسكرية للجيش اللبناني نحو العداء لاسرائيل، بعدما كانت عقيدة مبهمة وهائمة على وجهها بغير قصد محدد او هدف معين.. كما يُسجل للمشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع ورئيس المجلس العسكري المصري عقب سقوط نظام مبارك، رفضه العنيد لاي تعاون او تطبيع بين الجيشين المصري والاسرائيلي، وتمسكه الحازم بثوابت العقيدة العسكرية المصرية المعهودة والمكتوبة بلغة العداء للكيان الصهيوني، وصموده الباسل امام مختلف الضغوط الامريكية والاوروبية والناتوية الهادفة الى زحزحته عن هذه المبادئ والمواقف المشرّفة.

واياً ما اختلف المؤرخون في تقييم عهد المرحوم الملك حسين، واياً ما اخذوا عليه من المآخذ والملاحظات والانتقادات، فليس فيهم من ينكر عليه جرأته في تعريب قيادة الجيش، واقدامه على طرد الجنرال غلوب وزمرة القادة البريطانيين، وانصرافه الى تعزيز العقيدة القتالية للجيش الاردني اثر محاولات غلوب توهينها وتسطيحها وتوجيهها خارج دائرة العداء لاسرائيل.

هذه الايام نقرأ ونسمع عن تقارب عسكري اردني – اسرائيلي، وعن مناورات مشتركة بين الجانبين برعاية امريكية، وعن هدية من الطائرات ”الخردة” مقدمة من جيش العدو الى قواتنا المسلحة، وعن تعاون وتنسيق ثنائي في ميادين ومجالات اخرى ما انفكت وسائل الاعلام الصهيونية تتحدث عنها باسهاب وتكرار خبيثين يعكسان غاية في نفس يعقوب، مقتضاها التشويه والتشكيك والافتئات على ”جيش الكرامة” الذي سبق حزب الله في كسر شوكة الجيش الصهيوني ودحر عدوانه على تراب الاغوار الاردنية عام 1968.

نأمل ان تكون هذه الاخبار ملفقة ومفبركة، او تكون الوقائع المذكورة عارضة وعابرة وسريعة الذوبان لا تكسر الحواجز النفسية السميكة، ولا تؤسس لتطبيع عسكري قادم، ولا تغير من مقومات ومرتكزات عقيدة جيشنا القتالية القائمة على اعتبار اسرائيل عدواً تاريخياً وجغرافياً لا يؤمن جانبه، وكياناً توسعياً يهدد الامن القومي العربي برمته، وغازياً شرهاً ودخيلاً يكاد لا يخفي اطماعه ومخططاته ومشروعاته العدوانية والتهويدية فيما بين النيل والفرات.

ولما كنا نرفض بالاصل والاساس معاهدة وادي عربة المشؤومة، ونشجب مختلف جوانب التطبيع السياسي والاقتصادي والامني والبيئي المنبثقة عنها والمترتبة عليها.. فنحن بالتالي اشد رفضاً لاي تطبيع عسكري، واكثر تخوفاً من عواقبه الوخيمة على سلامة الاردن وسيادته واستقلاله، ولنا وطيد الامل ان يحظى هذا الموضوع الحساس باهتمام الفريق مشعل الزبن، رئيس هيئة الاركان المشهود له بالاستقامة الاخلاقية والرزانة العسكرية، ذلك لان جيشنا خط احمر، وعقيدته القتالية فوق كل المعاهدات التطبيعية والتصالحية المسمومة والمرهونة باوقات ومعادلات عابرة وقابلة للتغيير في اية لحظة.

 

 

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. كالعادة الكتابة من فوق جبل عالي ومشهد كبانوراما البحر الميت حينما نراقب غروب الشمس فوق مرتفعات القدس وفلسطين .
    مبدع انت استاد فهد الريماوي كعادتك ولو قدر لي ان اقدم لك هدية عن مجمل نتاجك اﻻدبي العبقري الفد ﻻهديتك روحي او مسقط راسك بيت ريما التي افتديها بروحي ولك ان تختار .
    حق لفلسطين وبيت ريما ان تفخربعبقريتك الفدة التي توجتها بهدا المقال الكاشف لصورة وبوصلة الجيوش الوطنية العربية ولك مني لقب فخري هو المهيب الركن فهد الريماوي وعذرا للاخطاء اﻻملائية لصغر لوح كتابة النقال وهذا جهاد المقال يا فهد فلسطين والعرب وصاحب القلم الدبابة والمدفع العملاق

  2. خالص التحايا والتراحيب بالقامة القومية العالية , وعميد الكتاب العرب الأستاذ فهد الريماوي ..
    نقلت هذه المقالة على صدر صفحتي على الفيسبوك ..

زر الذهاب إلى الأعلى