تشويه الوعي العربي بمفعول العصا ومعسول الجزرة !!

كثيراً ما تشي الرائحة بمبعثها عن بُعد، وتدل على مصدرها قبل رؤيته، وتتيح لحاسة الشم ان تقوم بدور المرشد والموجه لحاسة البصر كي تلتفت الى مصدر الرائحة وتكتشف مبعثها.

ولان رائحة الوثائق والملفات السعودية تزكم الانوف، وعفونتها تبعث على التقزز والاشمئزاز، فقد قفزت حاسة الشم لتسبق حاسة البصر في التقاط محتويات هذه الوثائق والملفات السرية التي عصفت بها مؤخراً ”عاصفة ويكيليكس” المباركة، وهتكت اسرارها، وكشفت عوراتها وخفاياها وبلاياها الكثيرة والشريرة.

دون سابق انذار، ومن حيث لا تحتسب، مُنيت المملكة القابعة في عتمة القرون الوسطى بضربة موجعة ومباغتة افقدتها الصواب، واصابتها في مقتل، وحرمتها نعمة الراحة، وقلبت احوالها واوضاعها ومعادلاتها رأساً على عقب.. فبعد ان اعتادت، منذ زمن طويل، على سياسات الغمغمة واللفلفة والمداورة والتلفع بالعباءات المذهبة والمقصبة، جاء من يفضح هذه السياسات والممارسات على الملأ، ويعريها حتى من ورقة التوت، ويلقي بوثائقها واوراقها على قارعة الرأي العالمي العام.

منذ نيف وخمسين عاماً جهدت السعوية كل الجهد لتلميع صورتها، وتعظيم هيبتها، وترسيخ مكانتها، ودفن اسرارها واخبارها تحت السجادة، والظهور بمظهر الدولة الرزينة والتقية والابوية المعنية بعمل الخير واصلاح ذات البين واغاثة الاشقاء والاصدقاء المحتاجين، فيما يتحمل سائر خصومها واعدائها وزر خلافاتهم معها واثم تطاولهم وافتئاتهم عليها، بدءاً من جمال عبدالناصر ومروراً بصدام حسين وانتهاءً ببشار الاسد.

ولغرض بناء هذه الهالة الوهمية للدولة السعودية، وتسويقها على الناس في الداخل والخارج، فقد استخدم آل سعود ثلاثة من اسلحة الدمار الشامل، اولها المال النفطي، وثانيها الحركة الرجعية الوهابية، وثالثها التبعية المزمنة للامبريالية الامريكية، حيث امكن لهذه الاسلحة الثلاثة ان تشكل خطراً على الامة العربية والعالم الاسلامي لا يقل عن اخطار مثلث برمودا.

ولعل قراءة سريعة للوثائق التي نشرت حتى الآن، سوف تكشف ان ابرز دعائم ومقومات الاستراتيجية السعودية تنحصر في مقومين مركزيين، هما صناعة المؤامرة وثقافة الرشوة، وليس هناك شيء آخر يستحق الذكر او الاهتمام، بل هناك كومة من التفاهة في الاسلوب، والضحالة في المضمون، والسطحية في المعلومة، والسذاجة في تقدير الموقف ومزاولة الحساب السياسي والاجتهاد الدبلوماسي.

مؤسف وبالغ الاذى والضرر، ان تقع الثروة العربية لدى الجانب الخطأ.. الجانب الموبوء بالجهالة والقبلية الرعوية والتزمت الوهابي والتبعية المطلقة للمراكز الاستعمارية القديمة والمعاصرة، وهو ما حوّل النعمة الى نقمة، والثروة الى لعنة ونكبة وجائحة كارثية اسهمت في تخريب الحس الوطني والوعي القومي والضمير الاخلاقي على امتداد الوطن العربي، وذلك جراء ”تسليع” المبادئ والمواقف، واعتماد سياسة التنفيع والاعطيات وشراء الذمم والاقلام والمنابر والاحزاب وفصائل المقاومة والجماعات التكفيرية، وتسخيرها بالكامل لمحاربة الطروحات والمشاريع والاهداف العربية الوحدوية والنهضوية.

كل الامم والشعوب الحية تكرس ثرواتها لخدمة عزتها وتنميتها وتقدمها وسيادتها والوقوف على قدم المساواة مع الدول الاخرى، اما ممالك ومشيخات النفط الخليجي فتعمد الى عكس ذلك تماماً، حيث تنفق بغير حساب لشراء التبعية، واستقدام القواعد الاجنبية، ونشر الافكار السلفية الرجعية، واشعال الفتن الطائفية والحروب الاهلية داخل البيت العربي، وقتل الروح العروبية والتطلعات الوحدوية والمعتقدات التحررية والتقدمية التي من شأنها وضع العرب على خارطة المستقبل، ومحاورة العصر بلغة حداثية وحضارية.

من يستطيع ان ينكر دور الثروة السعودية في اجهاض المشروع القومي الناصري، وتشجيع الردة الساداتية الملعونة التي انتهت بابرام معاهدة كامب ديفيد المشؤومة ؟؟ من يستطيع ان يتجاهل اقتداء قطر ودولة الامارات بهذا النهج السعودي الهدام، وتورطهما بالتالي في تمويل العصابات الارهابية والاخوانية التي تعيث دماراً وخراباً وفساداً في كل من سوريا وليبيا وسيناء والعراق ؟؟ من يستطيع ان ينسى المؤامرات الخليجية لاغراق الثورة الفلسطينية بالثروة النفطية، وافساد المقاومين بدل اسناد المقاومة وتحويل الكثير من القيادات والكوادر الفتحاوية من مقاتلين الى سماسرة ومقاولين ومساومين على التراب الوطني ؟؟

وعليه، وبقدر ما فضحت وثائق ويكيليكس من خطايا وآثام ورشاوى ومقايضات سعودية بازارية، فقد فضحت ايضاً تهافت الطبقة المثقفة والمسيسة العربية، وضعف مناعتها الاخلاقية والمبدئية، وضخامة قابليتها للارتزاق والارتشاء والتكسب وبيع المبادئ والمواقف والقناعات بثمن بخس في اسواق النخاسة والمضاربة والتلاعب بالالفاظ والافكار والولاءات، ومقايضة الحبر بالنفط والحرف بالريال، ونقل البندقية بسرعة فائقة ودون خجل او وجل من كتف الى آخر مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه.

كثيرة هي الاسباب التي تقف حالياً خلف تلاشي دور المثقفين العرب الذي كانوا ينهضون به في الزمن السابق، وغياب الاهمية والفاعلية والمكانة الريادية والقيادية التي كانوا يتمتعون بها في القرن الماضي.. غير ان اهم وابرز هذه الاسباب – في رأيي – خيانة هؤلاء الكتاب والمثقفين لذواتهم وقناعاتهم، وانسياقهم وراء الشهوات الامتلاكية والاستهلاكية والحياة الرغيدة، واستعدادهم لتأجير اقلامهم ومعارفهم ومواهبهم لمن يدفع وينفع ويرفع بهم الى المراتب والمناصب العليا، وايثارهم لمبدأ ”الخلاص الفردي” والوسواس الاناني على حساب الخلاص الوطني العام وتلبية احتياجات كافة المكونات الشعبية والمجتمعية.

ثابت وواضح وضوح الشمس ان دخول المال على خط الثقافة والكتابة والاعلام والعمل العام قد افسدها جميعاً، وقضى على الجوانب المضيئة والبريئة والموضوعية والابداعية فيها، وتفنن في تسخيرها لخدمة الاغراض والاهواء والاجندات الخاصة بالممولين، سواء أكانوا حكام دول او رجال اعمال او رؤساء مؤسسات اجنبية.. ذلك لان من يدفع للزمار يمتلك مزماره ويتخير انغامه ويتحكم حتى في انفاسه، ومن المؤسف ان الكثير من الصحفيين والمثقفين والمفكرين والمفتين العرب قد تحولوا، تحت سطوة المال، الى زمارين بائسين وباهتين.

ولعل من اغرب الغرائب واعجب العجائب، نجاح ”سلاح الدفع” فيما فشل فيه ”سلاح القمع”، وخضوع الكثير من المناضلين والمعارضين والعقائديين الاشداء لسلطان المال وتنازلهم عن مبادئهم ومواقفهم طوعاً، بعد ان كانوا قد صمدوا صمود الابطال لمختلف صنوف التعذيب والتجويع والاعتقال، ورفضوا ادنى تفريط بتلك المبادئ والمواقف كرهاً.. فهل سحر الاغراء افعل، لدى العربي، من سيف الاملاء ؟؟ وهل حلاوة الجزرة اقوى من سطوة العصا ؟؟ وهل جاذبية الغنيمة لا تزال تتقدم لدينا- منذ قديم الزمان- على لزوميات العقيدة ؟؟

وبعد.. حين ثارت فضيحة الوثائق والملفات السرية السعودية قبل بضعة اسابيع، لم اكن في وارد الكتابة عنها والتعليق عليها، نظراً لان كتاباً آخرين قد كتبوا في هذا الشأن وعقبوا.. غير ان ما لفت نظري واثار انتباهي ودفعني لوضع هذا المقال، سرعة لفلفة هذه الفضيحة والتعتيم عليها، والتحايل لصرف الاهتمام العام عنها، ووضعها – من ثم – في دهاليز الاهمال والنسيان.. ليس فقط لانها لطخت صورة المملكة المقدسة التي لا يجوز انتقادها، بل لانها ايضاً عرّت وعهرت بعض الرموز السياسية والدينية والاعلامية والثقافية واظهرتهم على حقيقتهم البازارية والتربحية !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى