رحيل ”ابو عمر”..الصديق النبيل

في شكل موجات بحرية يأخذ بعضها برقاب بعض، تتدافع الايام، وتتوالى الفصول والاعوام، وتتلاحق مواكب الاعمار والاقدار، ولا يبقى الا وجه ذي الجلال والاكرام.
على غير مبعدة من يوم رحيل الصديق الفقيد المحامي حسين مجلي، رحل الاسبوع الماضي صديقه وصديقي الغالي الدكتور عصام الطاهر الذي شكل على مدى عشر سنوات ”الشريك الثالث” في ندوة يوم الجمعة التي كانت تنعقد اسبوعياً في مكاتب ”المجد”.
بعد شهرين فقط من غياب ”ابو شجاع” غاب ”ابو عمر”، وفقدت ”المجد” خلال هذه البرهة الزمنية القصيرة رجلين من احب احبائهّا واخلص اصدقائها واحرص الناس على صدورها وحضورها، ايماناً منهما باهمية دورها القومي، وضرورة خطابها العروبي، ولزوم صوتها الوحدوي، وسط هذه الغابة من الاصوات والنعرات والخطابات العصبوية والمذهبية واللاعروبية الباطلة والقاتلة.
ورغم ان الدكتور عصام لم يكن بعثياً او ناصرياً او منتمياً لاي فصيل قومي، الا انه كان شديد التمسك بهويته العربية، وبالغ الانتقاد للتقسيمات القطرية وخرائط سايكس – بيكو.. فهو رافض بالمطلق للهويات والكيانات، والولاءات الاردنية والفلسطينية واللبنانية والمصرية والجزائرية التي تحول دون الالتقاء في نهر العروبة الجامع، والاندماج في دولة الوحدة الشامخة.
هذا الرجل كان بمفرده يقوم مقام حزب بكامله.. حزب يعمل بصدق وصمت دون ادعاء او مباهاة، فهو يمارس دوره في ميادين الخير والعطاء والاحسان والعمل العام بمنتهى التواضع والايثار ونكران الذات والزهد في الشهرة والاضواء، فلا يمّن على احد بشيء، ولا تعرف يساره ما قدمت يمينه، ولا تسعى قدماه نحو مغنم او منصب او سلطة او نفوذ.. ربما لانه كان يستمتع بالوهب لا بالكسب، ويكتفي بما حباه الله من خصال وقدرات وامكانات ذاتية لا تحتاج الى المزيد من المكتسبات الاضافية.
عروبة ”ابو عمر” تولدت لديه تأصيلاً وتفصيلاً منذ فتوته وشبابه حين التحق اواخر عقد الاربعينات من القرن الماضي بكلية الطب في القاهرة، وتربى في كنف عمه محمد علي الطاهر ”ابو الحسن” صاحب مجلة الشورى الاسبوعية المجاهدة، واحد اعلام الصحافة والسياسة في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان لاكثر من نصف قرن.
كان ”ابو الحسن” قد غادر يافا الى القاهرة في مثل هذا الوقت من القرن الماضي، شأنه شأن غيره من ”الشوام” الذين قصدوا ارض الكنانة، واقاموا فيها صروحاً صحفية وادبية شامخة مثل جريدة الاهرام، وروز اليوسف، ودار الهلال.. وقد اشتهر ”ابو الحسن” بندوته الاسبوعية التي كان يعقدها في مقر مجلة الشورى، ويتقاطر عليها ليس كبار الكتاب والساسة والمشاهير المصريين فقط، بل كبار الزعماء والثوار العرب والمسلمين الذين كانوا يتواجدون في القاهرة او يترددون عليها، إما طلباً للدعم والمؤازرة لتحرير بلدانهم من الاستعمار، وإما هرباً من بطش المستعمرين حال نجاحهم في قمع الثائرين.
كم حدثنا الدكتور عصام عن حضوره ”الجانبي” للقاءات عمه ”ابو الحسن” مع قامات مصر الكبيرة في الفن والادب والصحافة والسياسة، وعن مشاوراته ومحاوراته مع زعامات تونس والمغرب والسودان وباكستان واندونيسيا التي كانت تقود حركات التحرر من الاستعمار، والتي ما ان انتصرت حتى استضافت ”ابو الحسن” في بلادها المحررة، وانعمت عليه بارفع الاوسمة والنياشين.
كان ”ابو عمر” متحدثاً لبقاً ومشوقاً ومرهفاً في اختيار موضوع حديثه، وفي اسلوب سرده وتنغيمه حتى تخال انه يكتب ولا يحكي.. يرسم ولا يروي.. يأسرك بحديثه السحري ويأخذك الى حيث يريد، ولا تملك الا طلب المزيد.. لقد كان ”حكّاء” مبدعاً – شأن كبار الحكائين المصريين – ولعل ثقافته الواسعة وتجربته الحياتية الغنية واعجابه بالروحية الفنية المصرية قد اسهمت جميعها في تمكينه من فن القص وتكنيك الحكاية.
ولطالما ادهشني هذا الفقيد الغالي الذي اقعده المرض قبل ان يغيبه الردى، بقدرته الفائقة على الجمع بين الانفة والاباء وعزة النفس من جهة، وبين الطيبة والتواضع والبساطة العفوية من جهة اخرى، حتى تخال احياناً انه ليس الرجل ذاته.. فقد رأيته في مواضع ومواقف معينة عزيزاً ابياً شامخاً كقمم الجبال، ثم رأيته في مواقف ومواضع اخرى وادعاً وخجولاً وشديد الطيبة والسلاسة حد السذاجة.
رحم الله ”ابا عمر” فقد كان من خيرة اصدقاء ”المجد” وكتابها ومؤازريها والمشاركين في رسم سياستها وتوجيه بوصلتها، بحكم خبراته وعلاقاته الصحفية المتميزة.

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تعجز الكلمات عن ايصال كل الشكر وكل التقدير لما خطة قلمك من وصف رائع لوالدي رحمه الله… جزاك الله الف خير وحفظك من كل سوء…

    لينا عصام الطاهر

  2. ببالغ الحزن والأسف، قرأت خبر وفاة د. عصام الطاهر، أبو عمر، الذي تشرفت بلقائه في الأردن مرات عدة، وكان يبهرني بعمق واتساع ثقافته، وذاكرته التصويرية التي تحتفظ بتفاصيل مضى عليها زمن طويل، ولدي نسخة من كتابه بالإنجليزية عن الكويت. أتقدم من خلال صحيفة “المجد” لعائلته وأصدقائه ومحبيه بأصدق التعازي. تغمد الله الفقيد الكبير بواسع رحمته. إنا لله وانا إليه راجعون.

زر الذهاب إلى الأعلى