وراء ذلك الباب كان ثمّة عالم مشعّ بالحرية

كان الكتاب مركونا، منذ سنوات طويلة في زاوية من مكتبتي، وقد بهت لونه مع تقادم الزمن والنسيان، حتى جاءت الزميلة على موقع التواصل الاجتماعي، المبدعة كفى الزعبي، لتذكر بعضا من توق السجناء للحرية في السيرة الذاتية الرائعة للكاتب الروسي العالمي فيودور دوستويفسكي ” ذكريات من بيت الموتى ”، الصادرة عام1862 بعد خروج الكاتب من سجنه في مقاطعة أومسك في سيبيريا، حيث قضى عشر سنوات بين السجناء، يصور فيه عالم الجريمة والمجرمين، ومعاناة الإنسان من الظلم الذي يقع عليه بسبب اختلاف وجهات النظر والرؤى والقناعات. وكان محكوما عليه بالإعدام لأنه اتهم بانتمائه لجماعة ”دائرة بتراشيفسكي” التي تعارض القيصر، لكن الحكم خفف إلى عشر سنوات مع الأشغال الشاقة في برد سيبيريا المغطاة بالثلوج. وحين خروجه من السجن، كتب هذه الذكريات التي اعتبرها بعض النقاد رواية والبعض سيرة ذاتية تروى على لسان الكسندر بيتروفيتش الذي، كما يروي دوستويفسكي، ترك له دفترا كبير الحجم فيه وصف للسنوات التي قضاها في السجن. يقول دوستويفسكي: ” إن عالم المنفيين، هذا العالم الجديد الذي لبث إلى اليوم، مجهولا.. وإن غرابة بعض الأحداث، وطرافة بعض الملاحظات.. كل ذلك استأثر باهتمامي وفضولي.”.
في مفتتح الكتاب، يقول الكسندر بيتروفيتش واصفا موقع السجن : ”يقع سجننا في طرف المعتقل، عند حدود السور. ولئن حاولنا رؤية الكون من خلال فتحات القضبان، فإننا لا نقع إلا على زاوية من السماء، ضيقة، وعلى حاجز ترابي مرتفع تغطيه الأعشاب الطويلة، ويجوس الحراس فوقه، ليل نهار. وهكذا، فسرعان ما نقول في أنفسنا إن السنين ستمر على ما يرام، وأننا سنرى دوما من خلال فتحات القضبان، نفس السور، ونفس الحراس، ونفس الزاوية الضيقة من السماء… وما تلك سماء المعقل، وإنما هي سماء أخرى.. سماء أبعد من ذلك.. هي سماء الحرية”.
وفي هذا الكتاب يصور الكاتب، حياة السجناء الصعبة، وأمزجتهم، وفئاتهم ومعاناتهم، وهم يأتون من كافة أصقاع روسيا بسبب الجرائم التي ارتكبوها في مجتمعاتهم، لكن ما كان يؤرق الكاتب عدم التكافؤ في الجريمة والعقوبة، فيقول: ” لا يمكن، في مطلق الأحوال، مقارنة جرم بجرم، وبالتالي توقيع العقوبة ذاتها على جرمين متشابهين، لأن لكل جريمة دوافعها وظروفها وأبعادها ومرتكبيها… فالذي يرتكب جريمة سرقة رغيف خبز، والذي يجرم دفاعا عن شرفه، غير الذي يجرم لغاية الإجرام، أو لغايات ليست أقل خطورة من الإجرام ذاته”.
وتمضي الذكريات مع الراوي الكسندر” ولقد حسبت نفسي، وأنا مسوق إلى سيبيريا، أنني أعرف شيئا ما عن نمط الحياة التي سأعيشها في السجن. ولكن سرعان ما وجدت نفسي أمام غرائب ومفاجآت لا عهد لي بها من قبل، وأعترف أنني لبثت عدة سنوات وأنا عاجز عن تكييف نفسي مع المحيط الغريب الذي وضعت فيه”. ومع ذلك، فهناك ثمة رجال يرتكبون جرائم القتل، عمدا، حتى ترسلهم الحكومة إلى السجن، لأن الأشغال الشاقة في رأيهم أهون من العمل في بلدهم، ولأن طعام السجن أفضل بكثير وأوفر من الطعام الذي يحصلون عليه خارج السجن.
ولعل الفرح لم يدخل السجن إلا ليلة الميلاد والأيام القليلة التي تبعته، حيث ابتدأ المساجين في التحضير له، مثل ترداد الأغاني الشعبية الشائعة، وأكثرها مبتذلة، والألحان والعزف على الآلات المختلفة” للتفلت من النظام ”. وما شغل المساجين حينئذ تقديم مسرحية ” تتعدى شهرتها جدران السجن، وستصل إلى المدينة، وربما المقامات العليا، وأنه سيكون نتيجة ذلك تقديم بعض المكافآت لهم، وربما حسم بعض المدة من أحكام السجن عليهم”. وهم لم يقتبسوا المسرحية عن كتاب مطبوع وإنما عن نسخة مخطوطة لمسرحية كانت لدى عريف متقاعد في البلدة. وكانت اسم المسرحية”كدريل وكلتون” حيث تدور الأحداث في إحدى الحانات، فصاحب الحانة يتبعه سيّد يرتدي معطفا يجر أذياله وقبعة ممزقة ومعه خادمه”كدريل” الذي يحمل له الحقيبة ودجاجة ملفوفة بورقة زرقاء، وصاحب الحانة أنذر النبيل وخادمه بأن الغرفة مسكونة بالشياطين. وتدور أحداث طريفة إلى أن يقتحم ثلاثة من الشياطين الغرفة وأمسكوا بالنبيل وألقوه في العالم السفلي، وهو يصرخ بخادمه أن ينقذه، غير أن الخادم يتجه هامسا للجمهور” لقد ذهبت الشياطين بسيدي”.
مشاهد طريفة، وذكريات، وتأملات، استوحاها، صاحب” الجريمة والعقاب”، و”الإخوة كارامازوف”، وغيرها من الروايات الجميلة، من سجنه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى