السياسة من أسفل .. السياسة من أعلى !!

اكتشفت التحليلات السياسية المختلفة التي كانت تلاحق وتدرس أحداث الوطن العربي قبل الانفجار والحراك الشعبي الذي انطلق أواخر عام 2010 من تونس ، أنها كانت تطل على السياسة بعدسات مفاهيمية ومناهج تفسيرية مؤسساتية قاصرة الى حد ما  ، ذلك أنها كانت تطل على السياسة من الأعلى أي من منظار الحكومات والمؤسسات وليس من الأسفل من منظار المجتمعات وما يمور فيها من تفاعلات.

وكان ذلك خطأ فادحا أوقعها في اختلالات رؤيوية وتحليلية ، وأبعدها عن ملاحظة ما يجري داخل هذه المجتمعات من تفاعلات يمكن أن تؤدي الى ما أدت اليه من تسريع في اسقاط أنظمة كان ينظر اليها على أنها راسخة البنيان وعصية على الانهيار بمنظار التحليلات التقليدية السابقة .

ولذلك سعت بعض الدراسات لاحقا الى تغيير مناهجها واجراء تجارب ومعاينات ميدانية في الشوارع العربية وساحات التظاهر والاحتجاج لكي تستنطق هذه المجتمعات بالملاحظة المباشرة والاحتكاك المباشر والرؤية العيانية ، لترى ماذا يفعل الناس في الشارع ، وماذا يقولون ، وماذا يطلبون وعلى ماذا يحتجون، والى ماذا يطمحون ، وتوصلت الدراسات المستجدة الى نتائج مختلفة ، ووجدت مسافة هائلة بين ما يقوله الناس في الشارع وما يرفعونه من شعارات ، وما تقوله الحكومات وما تدعيه من ملابسات وتفسيرات ، وكانت المفاجأة أن هناك انقطاعا تاما بين هذا وذاك ، واكتشفت وجوب تغيير المنهج والنظرة في آن معا ، وتنحية ما تدعيه الحكومات من مزاعم واختلاقات وانجازات ، وما تروجه من ضلالالات ، واعتبرت ما يفعله الناس ميدانيا هو الأقرب الى الحقيقة ، والأكثر تنجية من أخطار الوقوع في الخطأ .

ويمكننا أن نضيف على ضوء ما تقدم أن هناك دائما فارقا بين أن تدرس واقع المجتمعات في مختبرات التفكير المغلقة ، وفي القاعات التحليلية الباردة ، وبين أن تصل الى نتائج حول واقع المجتمعات من خلال ملامسة نبضها  والانصات الى كل ما تقوله في الخفاء والعلن ، ذلك أن المختبر الافتراضي المصنوع والمتخيل يتعامل مع الحقائق الشاخصة والبرانية والثابتة والموضوعة على طاولة البحث بصيغها الجامدة وبعيدا عن دور كوامن وتدخلات الناس ، وأما التعامل مع الجسد الحي للمجتمع والحرارة والمعاني الكامنة في عقله ومشاعره ، فانه يعطي دلالات واشارات مختلفة ومتغيّرة ومغايرة ، لأن من يعطيها وينتجها انسان فيه الكثير من الاحتمالات الغامضة التي يمكن أن تعطي نتائج مفاجئة  تختلف تماما عما تعطيه المختبرات ، ذلك أن الانسان هو الصانع الأول للأحداث والتاريخ والتغيرات والانقلابات عبر الحقب والأزمان .

وفي هذا يكمن خطأ من يعتقد أن المجتمعات حالة جامدة وساكنة يمكن اجراء الاختبارات عليها والوصول الى حقائق حولها وتركيب معادلات سياسية لاحتوائها وترويضها وتدجينها الى فترات طويلة ، ذلك أن فيها دائما ما يفاجيء ، وفيها ما يقوض التحليلات المعلّبة والمصاغة بعيدا عن قدرات الانسان الكامنة وما تحمله من ممكنات المفاجأة .

والعبرة من كل تقدم أن يتم فهم المجتمعات وآمالها وأشواقها الوطنية ، وأن يتم الانصات الى صوتها الحقيقي في سكونه وتصاعده ، في خفائه وتجليه ،  وأن يبدأ التحليل من هذا المساحة التي يجب أن لا تغيب عن الرؤية ، وأن تصعد المؤشرات الدّالة من الأسفل وصولا الى الأعلى المتمثل بالحكومات والمؤسسات حتى تستقيم معادلة الرؤية والتحليل ، ويصبح مسار المجتمعات والحكومات تحت مجهر التحليل الواعي والصادق الذي يأخذ المجتمعات والأوطان الى الأمام ولا يجعلها قاصرة وعاجزة الى الأبد ، أو ينسب بحثها الدائب عن الحرية الى فكر المؤامرة الدائمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى