قانون تقاعد الأعيان والنواب جسد ظاهرة انانية اساسها فكرة الخلاص الفردي والاستهتار بمصالح الشعب

ثمّن الاردنيون صدور الارادة الملكية برد مشروع قانون التقاعد المدني المعدل لعام 2014 وعدم المصادقة عليه استنادا الى المادة 93 من الدستور ، وذلك تغليباً للمصلحة العامة للدولة على المصلحة الخاصة لأعضاء مجلس الأمة.

وقد زخرت مواقع التواصل الاجتماعي ”فيسبوك وتويتر” بكتابات وتعليقات تشيد بالقرار، وتعبر عن تقدير كاتبيها للملك الذي انتصر للمواطنين ترسيخاً لمبادئ المساواة بين جميع الفئات.
واعتبر المراقبون ان القرار الملكي يأتي منسجماً مع آراء ومواقف تيار شعبي عريض، وآراء قانونية ودستورية سجلت شبهات دستورية في مشروع القانون الذي راوح بين غرفتي التشريع (الأعيان والنواب) لفترة طويلة، قبل أن يحسم الخلاف بإقرار القانون في جلسة مشتركة للأعيان والنواب يوم الخميس الحادي عشر من الشهر الجاري.
الأردنيون الذين استفزهم تصويت أعضاء مجلس الأمة على إقرار تقاعد لهم مدى الحياة قالوا ان انتخاب النواب لعضوية المجلس جاء لخدمة وتلبية احتياجات الوطن والمواطن وليس لخدمة مصالحهم الشخصية، معتبرين أن النواب والأعيان هم المشرعون الاساسيون للأنظمة والقوانين، ويجب أن يعملوا بعدالة تحقق مصالح المجتمع الأردني بشكل عام.
وبناءً على هذا الفهم ظهرت العديد من ردود الفعل المناهضة للقرار كانت – لو لم تبطل المرجعية الأعلى مفعولها برد القانون – ستولد عنفاً ربما تصعب السيطرة عليه، وكان أبرزها البيان الصادر عن اللجنة العليا للمتقاعدين العسكريين الذي حذر من تبعات التنفيذ، وتوعد بالقيام باعتصامات بالتنسيق مع كافة القوى الوطنية من متقاعدين عسكريين ومدنيين وعمال ومعلمين ونقابيين في مختلف المحافظات والبادية.
وكذلك بيان نقابة المعلمين التي أعربت عن خيبة أملها، معتبرة أن القرار يخدم فئة لا يتجاوز عددها 631 وزيراً ونائباً وعيناً، في الوقت الذي تذرعت فيه الحكومة عند اضراب المعلمين أن موازنة الدولة لا تسمح باي زيادة على الرواتب، وهذه الذريعة كانت سبباً بقبول المعلمين لجدولة مطالبهم المتعلقة بعلاوة التعليم.
واعتبر خبراء في مجال حقوق العمال أن القرار يتناقض مع دور النواب الأساسي المتمثل في خدمة قضايا منتخبيهم، وقالوا أن المجلس والحكومة لطالما رفضا مطالب عمالية بحجة مرور البلاد بأزمة مالية خانقة، فكيف يقرران مثل هذا القانون، أما الأحزاب فقد هددت – قبل رد القانون – برفع دعوة قضائية ضد مجلس الأعيان والنواب.
عل هامش هذا الموضوع ليس مهماً المبلغ الذي كانت ستتكبده الخزينة تكلفة لتقاعد الأعيان والنواب، لكن الأهم أن هذا الفعل الصادم يعكس ويكرس الذهنية الإستئثارية الانتفاعية المعاكسة للروح التطوعية والتبرعية والتضحوية القائمة على خدمة الصالح العام والناس، وهي مناقب من أهم الموروثات الاردنية التي درج عليها المجتمع، حيث نجد أن المشايخ ورؤساء العشائر والوجهاء والمخاتير وهيئاتهم الاختيارية يكرسون وقتهم لخدمة غيرهم وبذل الوقت والجهد في سبيل ذلك ويصل بهم الحال في بعض الاحيان أن يدفعوا من جيبوبهم.
كان على جمع الأعيان والنواب الذين تقاطروا الى مبنى مجلس الأمة للإدلاء بأصواتهم لصالح مشروع القانون – أي لصالح أنفسهم – أن يدركوا أنهم بفعلتهم التي طاش سهمها قد خرجوا على مفهوم العمل التطوعي الخيري والعمل العام المجاني، فالوطن ليس شركة ولا ضيعة ولا مزرعة، بل هو مثل وقيم وموروثات نعتز بها ونفاخر كابراً عن كابر.
حسناً فعل الملك، حين وقف من المسألة هذا الموقف الذي أعاد الأمور الى نصابها الصحيح ومجراها الطبيعي، وهو بذلك لا يزال يتقدم بمدى كبير على الحكومة في تحسس نبض الشارع وتصويب ما يتعاكس مع أمانيه، على شاكلة مشروع القانون إياه الذي لو تم تنفيذه كما أقره مجلس الأمة لعكس بين ظهراني المجتمع ظواهر أنانية أساسها فكرة الخلاص الذاتي، والاستهتار بالواجب وأمانة المسؤولية، بينما المفروض أن العمل النيابي هو عمل تطوعي بعيد كل البعد عن الروحية الأنانية الضيقة والمصلحية التوظيفية التي تعكس فكرة الخلاص الفردي وجر المغانم.
العارفون بالمزاج النيابي يقولون أنه متوتر ويكتنفه الترقب، خصوصاً بعد أن بات النواب يدركون أن صورتهم في مرآة الشعب قد تشققت الى ابعد الحدود وان الرأي العام حسم موقفه سلبياً تجاههم وانتهى الأمر.
وقالوا ان اعضاء البرلمان تجاوزوا ظاهرياً منزلق التقاعد لكنهم سيبحثون عن آليات تفتح امامهم ابواب التنغيص على الحكومة خلال الدورة العادية القادمة، من خلال إثارة قضايا هنا وقصص هناك، ربما يكون من بينها مذكرات نيابية باقتراح قانون يطالب بتخفيض رواتب الوزراء وتقاعدهم متعللين بأن الموازنة تعاني من عجز كبير ورواتبهم عالية ويجب معالجتها.
قلة قليلة من هؤلاء النواب ظل مزاجهم معتدلاً لأن قرار رد مشروع القانون تناغم مع رؤيتهم، فقد أبدى النواب زكريا الشيخ وعساف الشوبكي ومحمد الرياطي سعادتهم برد القانون، مشيرين من خلال موقع الاتصال الاجتماعي ”فيسبوك” أن القرار بمثابة انتصار لإرادة الشعب، في حين أعرب البعض الآخر عن خشيته من تقطيع الخطوط بين النواب والشعب، معتبرين أن هناك من يستدرج المجلس ليكون الضحية.
على صعيد متصل طالب النائب معتز ابو رمان – الذي قال ان قرار رد القانون لم يفاجئه – بإعادة النظر بتقاعد الأعيان والوزراء أسوة بما يحصل حالياً مع النواب متسائلاَ: ماذا سيحصل لراتب تقاعد الوزير؟ وهل يكفي الوزير يوم واحد ليحصل على تقاعد ثلاثة الآف دينار مدى الحياة؟ منتقداً الكتاب و النقاد والصحافة والمواقع الاخبارية الالكترونية التي لم تتطرق لتقاعد الوزراء رغم أنه يفوق تقاعد النواب بكثير، وقد أيد النائب طارق خوري زميله ابو رمان فيما ذهب اليه حول اعادة النظر في تقاعد الوزراء، مبيناً أنه كان منذ البداية ضد هذا التصويت لأن المعلم والعسكري المتقاعد والموظف البسيط والعامل أولى بذلك من غيره.
في هذ السياق رصد المراقبون – بشكل أولي – أسماء 14 عيناً و12 نائباً صوتوا ضد مشروع القانون وهم الأعيان سمير الرفاعي، ومعروف البخيت، ونايف القاضي، ومروان الحمود، ووجيه عويس، وبسام حدادين، وعلاء البطاينة، وعاطف التل، وطاهر كنعان، وتيسير الصمادي، ومهند العزة، وهيفاء النجار، ووجيه عزايزة، ونوال الفاعوري.
أما النواب فهم: جميل النمري، وهند الفايز، وطارق خوري، وقاسم بني هاني، وعساف الشوبكي ، وخميس عطيه، وخير ابو صعيليك، وعبدالهادي المحارمة، وهيثم ابو خديجة، ورولا الحروب، وردينة العطي، وعلي السنيد.
وفيما أكد راصدون ان مجلس النواب يحاول هذا الأوان ترميم صورته شعبياً، قالوا ان ارشيف المجلس لم يسجل في عهد الملك عبدالله الثاني انه قد استخدم صلاحياته الدستورية المنصوص عليها في المادة 93 من الدستور والمتعلقة برد مشاريع القوانين المصادق عليها من غرفتي التشريع في مجلس الأمة، إلا في مشروع هذا القانون، بينما كان الملك قد أبطل مفعول الغاء قانون التقاعد المدني المؤقت قبل أشهر، كما تسجل الذاكرة البرلمانية أنه ومنذ العام 1989 وحتى الآن لم يتم رد مشروع أي قانون سوى مشروع قانون الغاء مؤسسة عالية التي تحولت فيما بعد الى الملكية الأردنية، حيث استخدم هذا الحق المرحوم الملك حسين.
ما تقدم يفيد بأن هذه الحالة نادرة الحدوث، وبالتالي فإن الجميع يعول على جواب المحكمة الدستورية على السؤال الذي ستتلقاه من الحكومة، وهذا يعني بالتلازم أن مشروع القانون المرفوض ملكياً – بحسب اجتهادات نيابية مختلفة – سيتم تعطيل النظر فيه الى ان يرد رد المحكمة الدستورية حول الاسئلة والاستفسارات المتعلقة بدستوريته.
اما في حال جاءت الفتوى لصالح دستورية مشروع القانون فيتعين عندها ان يعود القانون الى رئيس الجلسة المشتركة التي تم فيها اقرار مشروع القانون – وهو في هذه الحالة رئيس مجلس الاعيان – والذي يدعو وفقاً لذلك مجلس الأمة ”الأعيان والنواب” الى جلسة مشتركة للاطلاع على ما وصل اليه القانون، وللمجلس آنئذٍ وفق الدستور أن يقبل الاسباب الموجبة التي دعت لرده، وبالتالي تقوم الحكومة بإرسال مشروع قانون آخر، كما يمتلك ذات المجلس حق الاصرار على القانون المستفتى عليه وذلك بتصويت أغلبية ثلثي اعضاء المجلس.
وفي هذا الصدد يجمع نواب وقانونيون على أن امام رئيس الجلسة المشتركة مخرجان أحدهما هو عرض المشروع على الجلسة المشتركة فوراً، أو عدم الدعوى لجلسة مشتركة وافساح المجال للحكومة لارسال مشروع قانون جديد يتضمن معالجة كل الامور التي وردت في الرسالة الملكية.
وبعد :
لا عزاء للمواطنين الذين خانوا امانة المسؤولية ، حين تقاعسوا عن اداء واجبهم الانتخابي، او حين تاجروا بأصواتهم ومجهوداتهم، او حين انتخبوا وفق معايير عصبوية وجهوية ضيقة وانانية وغير وطنية، او حين انخدعوا بمعسول الكلام وموفور الوعود دون ان يدققوا في هويات وسويات واسبقيات المتشدقين بها .
ويا لخيبة الأمل ..يا لضيعة العطاء الوطني العام .. يا لفقدان حس المبادرة الخيّرة وروح الاقبال على ميادين البذل والتيرع والتطوع ..يا لمأساة التمثيل الشعبي والنيابة عن الجماهير الكادحة الرازحة تحت اثقال الأحوال المعيشية القاسية ، فقد تعالى برلماننا – بشقيه – على شعبه ، وادار ظهره لهموم قواعده ، واستأثر لنفسه بمصفوفة كاملة من المكاسب ،والإمتيازات، وتماهى مع رجال الحكم والحكومة في اشاعة فلسفة الخلاص الفردي والتطلّع الطبقي والإنتفاع الخاص والإثراء – الاستفزازي – على حساب الموازنة العامة ، واثبتوا سلفاً ان الحكومات البرلمانية الموعودة لن تكون افضل ولا افعل من الحكومات الموجودة والمعهودة.
وختاماً.. لا بد من التذكير بتصريح صحفي هام اطلقه مسؤول في هيئة مكافحة الفساد خلال محاضرة له بجمعية اصدقاء الشرطة يوم الخميس الثامن عشر من الشهر الجاري فإن ”… هناك فساداً يسمى فساد النخب، الذي يمارسه البعض ممن هم في مواقع المسؤولية ويستغلون وظائفهم ومواقعهم، معتبراً أن هذا النوع من الفساد يشرف عليه متنفذون يستغلون مناصبهم لتحقيق منافع خاصة ، سيما وأن ثمة قوى ضاغطة تستطيع ان تشرع انظمة وقوانين لتحقيق مكاسب لمصلحتها’

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى