نديم البيطار… من الحلم إلى العلم

أستاذي الجليل

يا من صنعت من حلم أمتك بالوحدة علماً، وصنعت من  شغف شعبك بها قوانين وقواعد، وجسدت آمال الانسان العربي ثقة بالمستقبل.. فكنت تجيب، ككل وحدوي قابض على الجمر، من يسألك عن مستقبل الوحدة العربية “وهل للعرب مستقبل من دون الوحدة…”.

ايها الوحدوي الكبير

اسمح لي في يوم وداعك، ان نستحضر مجدداً دعوتك العلمية للوحدة، حيث العقلانية تحصن المشاعر المتدفقة، وحيث الموضوعية تصون المشاعر الملتهبة، فحملت قلبك في عقلك، كما حملت قلمك بيدك، التي لم تعرف التصفيق للسلاطين، فغاص عقلك في تجارب الامم كلها، تستخرج منها قواعد العمل الوحدوي في زمن ظن فيه كثيرون ان وحدتنا لا تحتاج إلا الى نبض القلب وفيض الوجدان ولهيب المشاعر…

كنت في كتبك وكتاباتك تقول:  ان نهوض الامم يحتاج دون شك الى نضال وتضحيات ولكن النضال، ومعه كل التضحيات، لا يكفي وحده الى صنع النهوض، فالنهوض الوحدوي ايضاً علم ودراسة، وقراءة في تجارب الاخرين لأخذ ما ينفع منها لنا ويفيد…

اليائسون اليوم من مستقبل الوحدة العربية كثيرون، وهم يرون حتى الكيانات القطرية تتفتت وتكاد تخسر وحدتها، والعصبيات العرقية والطائفية والمذهبية تزدهر وتكاد تلتهم اخضر مجتمعاتها ويابسها، ولكن امثالك  كانوا دوماً يربطون بين ما نراه من تمزق وتعصب وتفتيت، وبين تراجع الدعوة إلى العروبة والوحدة، بل عن التقصير عن بناء الاتحاد العربي الذي هو حصن الامة كلها، كما هو حصن اقاليمها، ودرع الوطن الكبير، كما درع الاوطان الصغيرة، وضمان أمن الأمّة الجامعة واستقلالها، كما امن كل جزء من اجزائها واستقلاله، وسبيل نمو الاقتصاد التكاملي القومي، كما تنمية الاقتصاد المنتج الوطني في كل قطر من اقطارها.

وحدوية نديم البيطار هي فكر العصر ونهجه، اذ كيف يدّعي البعض العصرية والحداثة، ويقلدون دولها واممها في كل شيء، ولكنهم يحجمون عن سلوك مصدر قوتها الرئيسي وهو الوحدة.

كيف نحاكي اوروبا ونهرب من بناء وحدة عربية تحاكي وحدتها، وكيف نعلن اعجابنا بالولايات المتحدة الامريكية ونغفل عن ادراك نقطة قوتها الرئيسية وهي اتحادها؟ وكيف نهرول نحو العصرنة ونبتعد عن قانون عصرنا وهو التكتلات الكبرى؟

في فكر نديم البيطار يجتمع الافق الفلسفي، والجدل الفكري، والدراسة التاريخية، والعلم الاجتماعي، فتحار معه وفيه، ولكن لا تحتار ابداً في صفاء رؤيته وصدق سريرته ونقاء خلقه، كيف لا وهو الذي امضى عمره كله مكافحاً مفكراً مناقشاً مكافحاً في سبيل الوحدة العربية.

لم يطلب نديم البيطار شيئاً لنفسه، لم يطلب جاهاً ولا مالاً ولا مراتب ومناصب، بل وهب حياته وكل ما يملك، وهو كثير، من اجلها، فكان في اغلب الاحيان وهو القابع في صومعته المعلقة في اقاصي الدنيا، أقرب الى نبض أي عربي في اطراف الوطن الكبير من جاره، ومن نفسه، وبشكل خاص من القيمين على اموره.

فكر نديم البيطار الوحدوي العلمي التاريخي العقلاني، هو الوجه الاخر لفكر نديم بيطار المقاوم المتصدي لأم الآفات في امتنا، أي التجزئة، ومعها التفتيت، مدركاً أنها وليدة الاستعمار وحليفته في آن، ورفيقة المشروع الصهيوني وحاضنته، بل بوابة كل احتلال او عدوان او حصار عاشته الامة وتعيشه من فلسطين الى العراق وإلى سوريا وليبيا ومصر مروراً بجنوب لبنان.

التكريم الحقيقي لنديم البيطار وامثاله من مفكرينا الكبار، هو في تجسيد فكرهم واقعاً، وفي ترجمة منهجهم خرائط طريق وخطط عمل، هو في بناء وحدة عربية على اسس من العلم الاصيل، وبحجارة من الفهم الدقيق لخصوصيات كامنة في الامة، وبمواكبة اصيلة لروح العصر، وباحترام جدي للإنسان غاية كل عقيدة ولحقوقه قاعدة كل ديمقراطية.

من يغوص في بحر نديم البيطار يخرج ممتلئاً بالوعي والثقافة وبالبصيرة الثاقبة، بل تخرج معه جواهر قلّما يجدها عند اخرين، انه جامعة وهو الذي اخترق جدران الجامعات بتصميم عجيب، وهو رسالة علم وفكر وكفاح في زمن خلا من روح الرسالات.

فتحية لك يا ابن بينو العكارية اللبنانية العربية الانسانية يوم رحيلك، فقد رفعت اسم بلدتك عالياً في دنيا العرب وسماء العالم، بل حملت في عطائك روح ينابيعها التي جاورتها طفلاً، وجمال بساتينها وقد عايشتها فتى، وتألق تراثها وقد بقيت أميناً له ورافداً مضيئاً متدفقاً من روافده.

وتحية لك من بيروت، عاصمتك العصية على كل من يسعى الى تغريبها او تغييب وجهها وإطفاء وهجها العربي الاصيل…

وكيف يمكن لهم ذلك، وفكر نديم البيطار كغيره من العروبيين الوحدويين انطلق من شوارع بيروت الصاخبة دوماً بأصدق المشاعر، ومن هتافات ابنائها المدوية التي كانت سلالم وجدانها الى اعلى مراتب السماء، ومن وفاء اهلها لكل ما هو صادق واصيل في هذه الامة، رمزاً او فكرة او حركة مقاومة او مشروع نهوض وفي المقدمة منهم الدكتور نديم البيطار رحمه الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى