“طفح الكيل”…ولكن؟!

ما من شىء يغيظ غزة أكثر من هؤلاء الذين تنتسب اليهم، ويدَّعون أنها لهم وهم منها، لكنهم المكتفين الآن بدور المتفرج على ملحمة صمودها وفدائية مواجهتها الراهنة لعدوها وعدوهم، والمنهمكين منذ أيام في تعداد ما يطلق من صواريخ مقاومتها ومستجد مسمياتها وقياسات المدى الذي بلغته استهدافاتها…وما من شيء يقهر القدس أكثر من قومها المكتفين بالترحُّم على اطفالها الذين يحرقون احياء، أويحصون المعتاد من المرات التي تهدم فيها بيوتها والمرات التي ينتهك فيها الغزاة ساحات اقصاها ويدوسون على قداستها ويريقون دماء وكرامة مصليها…ولاشيء تزدريه الخليل أكثر من أولئك اللذين قد نسوا ماحل بحرمها الإبراهيمي المقسَّم، ولايتذكَّرونها إلا حين يُفقد مستعمر في انحائها أوترتفع وتيرة استباحتها انتقاماً من ايبائها وملاحقةً لفدائية مقاومتها…وما ينطبق على غزة والقدس والخليل هو عينه المنطبق على نابلس وجنين وطول كرم والناصرة وعكا وأم الفحم والنقب…
…لطالما ناشدت غزة قومها حقها في نصرتهم لها، ولطالما اسمعتهم، “اريد سيوفكم لادعاءكم”، واقله، أن تكفوا عن مشاركة عدوي في حصاري وتجويع اطفالي، ولامن مجيب. وكم تحس غزة بمهانة الاستفراد المديد بها أكثر فأكثر منه حين ترى اشقاءها قد توزَّعوا، مابين المشيح عن بلواها، والمكتفي بهجاء عدوها، أوالمانُّ عليها بمكرمة العودة للتوسط بينها وبين جلاَّدها… ولطالما استغاثت القدس بنخوة معتصميهم فلم تجدها إذ لم تجد معتصماً بينهم، وكم كبَّر خطباء اقصاهم وثالث شريف حرميهم مستجيراً بإسلامهم فلم يجده إذ لم يجدهم، ولطالما تضرَّجت سفوح جبل الخليل الأشم بدمها ولامن من مغيث لها ولا من مجير…
…واليوم، إذ تواجه غزة بصدرها متسربلةً بدمها ومتدرعةً بإرادتها الحرب الهمجية المشنونة عليها لهباً وحصاراً، وتهب القدس والخليل والناصرة وباقي شقيقاتهن في وجه الوحشية الغازية الغاصبة المنفلتة، فلا من شيء يغيظهن ويقهرهن ومدعاةً لازدرائهن أكثر من أن لايسمعن صدىً من حولهن لهذا الذي هن فيه أكثر مما اثاره راهنهن من لغط…أوندلعت الإنتفاضة الثالثة أم لم تندلع بعد أومتى يكون هذا الاندلاع أو المراهنة على اقتربه أو ترجيحاً لتأجيله، وتحديداً ما يسمعنه من اولئك المنتظرين أن يعوِّض لهم الفلسطينيون وحدهم والمستفرد بهم عن معيب قصورهم ومايداري عورة عجزهم وشنيع قعودهم عن نصرة قضية قضاياهم والبوصلة التي تختزل التأشير على أن تكون هذه الأمة أو لن تكون…طبعاً نحن هنا لسنا في وارد التعرض لسواهم من الآخرين اللذين إما هم تواطئوا فصمتوا، أو ممن اشاحوا الوجه واستراحوا، أو من لجأوا إلى اللامبالاة المشينة وركنوا اليها، أو كانوا كما كانت، أو ما اعتدناه منها وستظل فيه، تلك المرحومة غير المأسوف عليها جامعة نبيل العربي، فهؤلاء جميعا” باتوا موضوعياً في المقلب الآخر واصبحوا بالنسبة لمصيرية مثل هذه اللحظة خارج كل حساب….
تعيد غزة ما قالته وتقوله معها كل اخواتها من النهر إلى البحر، موجِّهةً إياه لأولئك الذين يكتفون بإحصاء عدد صواريخ مقاومتها، التي لم توفر تل ابيب ووصلت إلى حيفا وبئر السبع وزارت ديمونة وعرَّجت على القدس، أو من ديدنهم متابعة مؤشر بورصة جرائم الصهاينة، فيحصون ارتفاعاً فيه على مدار الساعة لعدد من يترجل من الشهداء أويسقط من الجرحى أو يحل اسيراً في معتقلات الاحتلال أومنسوب ما قد دُمِّر من البنى والممتلكات، ولاينفكون ينهالون على الغزاة الآثمين هجاءً…يقلن ويعدن لهم: نريد “سيوفكم لادعاءكم”…
…ويقلن أيضاً لمنتظري الانتفاضة الثالثة: نعم، لقد رفعت القدس شعار “طفح الكيل”، ليتردد صداه في الضفة الأسيرة، وغزة المحاصرة التي تقاوم وتجوع ولاتأكل بثدييها، والجليل الذي هب والنقب الذي يغلي، أي أن هذه الإنتفاضة قادمة قادمة لاريب، إن آجلاً أو عاجلاً، لكنما، هى وإن توفرت كل الشروط الموضوعية لاندلاعها، فإنه لازال هناك من العوامل مايحول دونه، اويؤجل استحقاقه، أو ما بات يعيقه. واولها، غياب المشروع الوطني المقاوم المجمع عليه من كافة مناضلي الساحة. وثانيها، انعدام النصير والظهير والمؤازرعلى الصعيد القومي، هذا الغياب المتأتي عن واقع رسمي هو الأردأ، أوما نجم عنه من تغييب هو الأقرب إلى الغيبوبة لأمة بكاملها، وفي لحظة هى الاسوأ في تاريخها، بل ولأكثر تحدياً لوجودها وكينونتها برمتهما. وثالثة اثافيها، هو المتمثل في سلطة أوسلوستان، هذه التي لادور لها سوى كبح مقاومة شعبها بالتنسيق، بل التعاون، الأمني مع عدوه، وموالاة الاستماتة لتأبيد خيارها التفاوضي الإنهزامي التصفوي…هذه السلطة التي قامت اصلاً إثر تضحية من تنازلوا عن 78% من فلسطين ليقيموا مسخها وتحت الاحتلال بالانتفاضة الأولى، واستمرت قائمة بفضل غدرهم بالثانية، ولايرون في هذه الثالثة المنتظرة إلا نهايةً ودفن لها ومعها كارثية نهجهم وعبثية خيارهم التفاوضي.
…لن يكون عدوان “الجرف الصامد” على غزة آخر حروبهم البربرية المستمرة على المقاومة الفلسطينية فيها وفي كل فلسطين من نهرها إلى بحرها، ولن يتوقف سيل الدم الفلسطيني المسفوح، أو تقوم لهذه الأمة من محيطها إلى خليجها قائمة، مادام مثل هذا العدو قائم بين ظهرانيها… وعلينا أن لا ننسى: أن كل قطرة دم فلسطينية يسفكها الصهاينة يشاركهم الغرب وما لدى هذه الأمة من امتداداته في سفكها…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى