في ذكرى ثورة 23 يوليو نسترجع الزمن الجميل ونلعن الواقع الراهن 

في مثل هذا الاوان من كل عام، تزورنا ذكرى ثورة 23 يوليو الناصرية الخالدة .. تخترق حُجب الغياب وجدران النسيان، وتهل علينا كما يهل البدر من كبد السماء .. تضيء زوايا ذاكرتنا القومية المعتمة، وتطوف في ارجائها المهملة، وتحاول انعاشها بنسمات من عطر التاريخ.

في مثل هذا الاوان، يتنادى احرار العرب، او ما تبقى منهم، لاستقبال هذه الذكرى الغالية اجمل استقبال، والاحتفاء بها ابلغ احتفاء، والوقوف بين يديها بكل إجلال وإكبار واحترام .. ذلك لانها العلامة العربية الفارقة في جبين القرن العشرين، والشاهد الاول على ما كان لامتنا قبل ستة عقود من مجد ومهابة ومكانة رفيعة وحضور عالمي مرموق.

شخصياً، ليس بمقدوري – رغم الانقطاع عن الكتابة – تجاهل هذه الذكرى العزيزة، وغض الطرف عن هذه المناسبة الفريدة والمجيدة التي طالما تشرّف قلمي باحيائها واكرام وفادتها، والدوام لعشرات الاعوام في دوائر الاشادة بها، والثناء عليها، والتنويه بانجازاتها وانتصاراتها.

طوال حياة “ابي خالد” وبعد رحيله، اعتاد هذا القلم ان يقطف من اشعة الشمس، وعناقيد الندى، والوان قوس قزح، وتسابيح العنادل الشجية، باقات حب لهذا القائد الخالد، واكاليل ترحيب بذكرى ثورته المباركة، وقلائد تقدير وتوقير لكل الثابتين على عهد الوفاء لهذه الثورة الرائدة التي ما فتئت تضيف لنفسها معاني ومضامين وابعاداً جديدة، عاماً بعد عام.

مع هذه الذكرى نعيش حياة اخرى، ونستمتع بمشاعر مختلفة .. نغادر هذا الواقع العربي الذليل، ونسافر على اجنحة الحنين الى الزمن الجميل .. نكسر حاجز الوقت ونعود الى ايام العز والشموخ والولاءات العروبية .. نطرد كوابيس الحاضر العاهر، ونغرق في بحار الذكريات واحلام اليقظة الممنوعة من الصرف.. فالذاكرة ليست رسول الماضي الى الحاضر فقط، بل مُرشد الحاضر الى المستقبل ايضاً.

مع هذه الذكرى نفارق راهنيتنا التي تعفنت، ونعانق حقيقتنا التي تغيبت، وننتمي الى امتنا التي كانت، ونفخر بسوابق نهضتنا التي تحققت، ونحيي بطولات شعبنا العربي التي تعملقت في مواجهة الاستعمار والصهيونية والرجعية الظلامية، ونسعد بنداء عبد الناصر : “ارفع رأسك يا اخي، فقد زال عهد الاستبداد”، ونتمسك بشعاره الحاسم : “ما اُخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة”.

تلك كانت ايام العرب .. ايام الثورات في مصر وسوريا والجزائر والعراق واليمن .. ايام كان في السعودية امراء احرار لا اغرار، وكان في الاردن حكومة وطنية وزعامات شعبية واحزاب نضالية، وكان على رأس الشعب الفلسطيني قادة بواسل يتمسكون بكامل التراب الوطني من البحر الى النهر .. ناهيك عن ذلك المد القومي والعروبي الذي كان يتهادى ما بين المحيط والخليج.

طيب، ما دامت هكذا كانت البدايات، فكيف وصلنا الى هذه النهايات ؟؟ وكيف انحدرنا من الصعود الى السقوط، ومن النور الى الديجور ؟؟ وكيف استبدلنا الذي هو ادنى بالذي هو خير ؟؟ ولماذا عقمت امتنا حالياً وعجزت عن انجاب قيادات وطنية وقومية ونهضوية وازنة ؟؟

اسئلة مصيرية قد تتكاثر الاجوبة عنها، وتتعدد الاجتهادات والردود عليها .. غير ان رأيي المتواضع يتلخص في ان السبب الاول والاساس فيما نكابده من بلاء راهن وانحطاط فظيع وماثل للعيان، هو القطع مع ثورة 23 يوليو، والردة عن المشروع الناصري العظيم، والعودة للانضواء  تحت اجنحة الغرب الاستعماري المقيت.

لقد التحق المقبور انور السادات بخونة التاريخ العربي من امثال ابن العلقمي وابو رغال، حين انقلب على ثورة يوليو، وتنكر لقائدها الذي استخلفه – خطأ- على الحكم، واستمات لانتزاع مصر من محيطها العربي ودورها القيادي القومي، ثم تمادى في غدره وخياناته وسفالاته حد التصالح مع العدو الصهيوني، والتفريط بقضية فلسطين.

هذا الاجير الحقير اقترف بحق مصر جريمة تاريخية فادحة، والحق بالامة العربية هزيمة استراتيجية ساحقة، ووفر للصهاينة والامريكان فرصد نادرة للتنكيل بالعرب وترويعهم وتركيعهم والسيطرة على مقدراتهم .. ذلك لان قمعه للثورة الناصرية كان يساوي قتل قوة العزم وطاقة الدفع وروح التحدي لدى السواد الاعظم من ابناء العروبة.

لقد صنع هذا الحشاش من الوهم إلهاً وعبده، ورسم على الورق جبلاً وصعده، واطلق من الاكاذيب سرباً وصدقه، ورأى في هنري كيسنجر رائداً فلحقه، ثم شرّع للخيانة باباً وعبره، تاركاً لكل ضعاف النفوس من الحكام العرب ان يقتدوا به ويحذوا حذوه، وهو ما ادى الى شيوع فاحشة الخيانة بين اولئك الحكام، وتحولها الى عادة يومية وظاهرة علنية .. والعياذ بالله.

معروف ان ثورة عبد الناصر لم تستطع، برغم كل تضحياتها، تحرير فلسطين، غير انها حالت دون خيانتها وتصفيتها، ومنعت كل اوباش الحكام من بيعها والتنازل عنها والسمسرة عليها .. بل لعلها قد دفعتهم – بفعل المزايدة – الى التغني يومياً بقدسية فلسطين، والتفاني ظاهرياً في خدمتها، والتنديد الشديد بالغاصب اليهودي المتحدر من اصلاب ” القردة والخنازير” .

“القدس قبل سيناء” .. هكذا رد “ابو خالد” على المسعى الامريكي لاعادة سيناء المحتلة عام 1967 الى مصر، مقابل انحصارها داخل حدودها، والغاء دورها القومي العربي .. فاين اصبحت القدس الآن في جدول اولويات الحكام الاقزام ؟؟ اين اصبح ترتيبها في اجندات السيسي عبد الفتاح المتهافت على “الرز”، والمراهق ابن سلمان المتلهف على العرش، والحمد آل خليفة المهووس بفوبيا الشيعة، والعمر البشير المتذبذب والمتقلب واللاعب على كل الحبال، والمغربي امير المؤمنين المطمئن الى اليهود والمتوكل على الموساد ؟؟ بل اين اصبحت القدس، التي انعم بها ترامب على نتنياهو، في جدول المعارضة السورية الرخيصة التي ارتضت ان يقودها بندر والقرضاوي والجولاني ورابعهم اردوغان العثماني ؟؟

شطحنا وذهبنا بعيداً، وآن لنا ان نعود الى زمان مصر الناصرية وعبق ثورة يوليو الجليلة التي تكالبت عليها كل قوى الشر في الداخل والخارج حتى اجهضتها وكبحت جماحها ولاحقت اذرعها وامتداداتها في كل مكان، توطئة لضرب الامة العربية في صميم قلبها، واعادة مصر الى المعسكر الامريكي – الاوروبي – الصهيوني، شأن ما كانت عليه قبل الثورة.

في كتابه الشهير “مبارك وزمانه من المنصة الى الميدان”، يكشف استاذنا الراحل محمد حسنين هيكل عن تقرير خطير اعدته مجموعة التقديرات في كلية الحرب الامريكية، واصدرته في شهر ايلول عام 2011، وجاءء فيه حرفياً : “ان مصر لا يجب ان تضيع من يد الولايات المتحدة، مهما كانت الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك، ومهما كانت درجة المرونة او العنف في الممارسات السياسية الامريكية ضماناَ لتحقيقه”.. ثم ينهي الاستاذ الفقيد كتابه بالقول في آخر فقرة : “وهكذا فان السياسة الامريكية مضت تلاحق الحوادث، وتتعامل مع التطورات، وتتحرك بكل طاقتها، والهدف المطلوب بالحاح (مصر يجب ان لا تضيع من يد الولايات المتحدة مرة اخرى) وذلك هو الشبح المعلق على افق المستقبل في مصر، هذه اللحظة الخطرة من التاريخ”.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى