بتناغم تام بين الجهدين السياسي والعسكري .. الجيش السوري يستعد لحسم معركة الجنوب في اقرب وقت

اخيراً باشر الجيش السوري معركته في جنوب البلاد، في الشكل جاء القصف الروسي الجويّ الموسّع ليؤكد أن موسكو ليست ببعيدة عن خطط دمشق، حيث تعمل القيادة السورية على تحقيق مجموعة أهداف على نحو مرحلي، أوّلها السيطرة على منطقة اللجاة في ريف درعا الشمالي الشرقي عبر، أولاً، السيطرة على بصر الحرير ووصلها بمدينة ازرع، لتصبح اللجاة معزولة قبل «قضمها»، ثم التحرك نحو محاور مدينة درعا وصولاً إلى الحدود الأردنية.

مشاركة موسكو لا تعني إدارة ظهرها لواشنطن، لكن بعد فشل «اتفاق الجنوب» بصيغه المختلفة، راعت روسيا «حساسية» العمل العسكري على تخوم الجولان المحتل، وطرحت أيضاً «صيغة» للعملية لا تشمل حزب الله وإيران.

في اجتماعات في جنيف، كان عسكريون روس وأميركيون يضعون على طاولة البحث معركة الجنوب وما يمكن أن يصلا إليه من تفاهمات مشتركة لا تقطع التواصل بينهما.

في هذا السياق جاء إرسال الولايات المتحدة رسالة إلى مسلحي الفصائل الجنوبية يتبلغون فيها «أن لا يتّكلوا عليها في منع العملية العسكرية» ضدهم. على المقلب الآخر، فإن إسرائيل وحدها قرأت صورة القادم في الجنوب على نحو واضح، حيث لا خروج لطهران وحلفائها من هناك، ولا «فيتو» أو قدرة مانعة لمشاركتهم في المعركة الدائرة، والتي ستتوسّع.

إذاً، تل أبيب، كما سُرّب في صحافتها أمس، أصبحت تفكّر في «اليوم الذي يلي هزيمة المسلحين في الجنوب». وبعد هذا اليوم بالنسبة إلى دمشق هو يوم معركة جديدة أو «تسويات بالنار»، وصولاً إلى حدود الجولان حيث الاشتباك يعود إلى أروقة السياسة، إلّا إذا ظهرت خيارات «مفاجئة» لأطراف الصراع.

وتقول مصادر سورية متابعة إن المرحلة الأخيرة من التفاهم بين موسكو وواشنطن كانت قد نضجت منذ الخميس الماضي. بعثت وزارة الخارجية الأميركية برسالتها الأولى إلى فصائل المعارضة الجنوبية المسلحة يومها، والتي تضمنت نصيحة بعدم استفزاز الجيش السوري، وبالتوازي كان المندوب الروسي في مجموعة «التاسك فورس» في جنيف العقيد يوري تازارف وفريقه الدبلوماسي يضعان في النهار نفسه مع الدبلوماسي الأميركي برايم غرين وفريقه، على ما قالت المصادر السورية إنه اللمسات الأخيرة للتفاهم الذي لم تعرف تفاصيله، لكن نتائجه بدأت بالظهور على الأرض.

التفاهم يسهل لقوات العقيد سهيل الحسن أن تكرر في درعا وريف السويداء في الأسابيع المقبلة ما قامت به في الغوطة الشرقية، في سياق تحقيق هدف مركزي وهو إسقاط آخر معاقل المعارضة المسلحة التي تهدد العاصمة دمشق منذ عام ٢٠١١، والتي شكلت على الدوام عنصر الرهان لدى أميركا وإسرائيل والأردن والسعودية، وحيث لا تزال المعارضة تحتفظ هناك بنحو 15 ألف مقاتل في مواقع تبعد أقل من ثمانين كيلومتراً عن دمشق.

بيّنت الرسالة الأميركية الأولى لفصائل الجنوب، يوم الخميس الماضي، أن واشنطن لم تضعهم في صورة التفاهمات مع الروس. وبديهي أن واشنطن كانت في طريقها للتخلي عنهم على مرحلتين. الرسالة الاولى قالت إنها «تحاول الحفاظ على وقف إطلاق النار، على أن يتجنّبوا استفزاز الجيش السوري». كانت العملية الروسية السورية في الجنوب المشتركة تتّسع، حتى قبل أن يجف حبر الرسالة الأميركية.

أما الرسالة الثانية، فقد وصلت في الوقت الذي كانت طائرات «سوخوي» الروسية قد أنهت نهارها الاول من الغارات على بصر الحرير ومعاقل المعارضة شرق درعا، من دون أن تتحرك وزارة الخارجية الاميركية. الرسالة تسلمها باليد ممثلو فصائل حوران والقنيطرة المسلحة في السفارة الأميركية في عمان، مرفقة بنصيحة تفيد بألا ينتظروا مدداً أميركياً في المعركة التي كان الروس أنفسهم قد افتتحوها بإرسال مقاتلاتهم لتغير أكثر من خمسين مرة على معاقلهم في بصر الحرير وحدها.

في الحقيقة، لم يتّسع الوقت كثيراً أمام المجموعات لكي تقرأ الرسائل الأميركية التي انتقلت بسرعة من تهديد الجيش السوري بالرد بالقوة على أيّ هجوم جنوباً إلى التخلي الكلي عن الفصائل الجنوبية، ولم يتسنّ لها ما يكفي من الوقت لكي تستثمر في التحذير الأميركي للجيش السوري قبل أسبوع أو تتحصّن في رفضها لكل ما عرضه الروس عليها من مصالحات وتسويات. الروس لم يتأخروا في تقديم عروض إلى المسلحين من أجل فتح معابر لخروج المدنيين من شريط القرى المحاصرة في شرق درعا نحو القرى المحاذية لها غرب السويداء، الواقعة تحت سلطة الدولة السورية. كذلك، توصل الجنرال الكسندر روزين، قائد العمليات الروسية في سوريا، فور انطلاق الهجوم، إلى تسوية مع ٣٥٠ مقاتلاً من «ألوية العمري» في منطقة اللجاة، أعلنوا انضمامهم إلى الجيش السوري لقتال الارهابيين.

كانت واشنطن حتى الساعات الماضية لا تزال تعتبر هذه المنطقة مشمولة بتفاهم لا يمسّ، وهو التفاهم اليتيم الذي قيّض للرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين أن يجرياه في لحظة تقارب نادرة أفلتت من رقابة البنتاغون خلال لقائهما في تموز من العام الماضي في هامبورغ، وقبل أن يلتقي العقيد تازارف بالدبلوماسي غرين، ويستبدلا تفاهم الكبيرين بتفاهم اكثر واقعية ووضوحاً، ضحيته الأولى فصائل الجنوب التي صدقت الضمانات الأميركية.

المؤشرات على وجود ذلك التفاهم، ومدّ سيطرة الجيش السوري حتى خط وقف إطلاق النار بين الجولانين السوري والمحتل، سبقت اجتماع «التاسك فورس» في جنيف، وحتى قبل لقاء ترامب ببوتين.

وظهرت المؤشرات مبكراً في النصائح الاميركية الكثيرة للمعارضة السورية المسلحة باغتنام أي فرصة للتفاهم مع الروس. ويقول القيادي في «الجيش الحر»، فاتح حسون، إن «مساعد وزير الخارجية الأميركية، ديفيد ساترفيلد، نصحنا في أستانا نهاية العام الفائت بالاستفادة من العروض الروسية، لأن الإدارة الأميركية ستوقف دعم الفصائل في الجنوب والشمال».

هذا وقد تراجعت لغة الحزم في المقاربة الإسرائيلية للجنوب السوري مع إشارات دالّة على استراتيجيات مغايرة بدأت تتضح تباعاً، وهي مبنية على موقف دمشق الصارم والإصرار والتوثب العسكريين السوريين في مواجهة المسلحين جنوباً، مع إدراك إسرائيلي، كما يبدو، حدود القدرة وهامش تفعيلها، في مواجهة الأعداء.

يأتي «التراجع» الإسرائيلي في سياق، وربما بسبب، إشارات دالة في الموازاة والمقابل، من الجانبين الأميركي والروسي، تشير إلى إرادة عدم المواجهة أو التسبّب في ما من شأنه الدفع باتجاه المواجهة. من الجانب الروسي، تمثّل ذلك بغارات شنّتها القاذفات الروسية على المسلحين في مناطق متفرقة من الجنوب، للمرة الأولى منذ اتفاق وقف إطلاق النار في تموز 2017، فيما أرسلت الولايات المتحدة رسالة، بحسب وكالة «رويترز»، تبلغ فيها المسلحين أن لا يتّكلوا عليها في منع العملية العسكرية المقبلة في الجنوب السوري.

من ناحية إسرائيل، برزت جملة إشارات ومواقف، كلامية وعملية، دلّت على التراجع. وبحسب تسريبات الإعلام العبري (موقع «واللا»)، يستعد الجيش لليوم الذي يلي إعادة فرض الجيش السوري سيطرته على الجنوب السوري، بما يشمل الحدود في الجولان. رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، أهارون هليفا، جال على الحدود مع سوريا في اليومين الماضيين، وتفقد الوحدات العسكرية فيها «من أجل فحص واختبار مستوى التأهب لليوم الذي يلي»، وبحسب التسريبات عن الزيارة وأهدافها من أجل التأكد من «الاستعداد الأمثل لمرحلة ما بعد تغيير الواقع على الحدود بشكل كبير».

التراجع الإسرائيلي برز أيضاً في جملة الأسئلة المطروحة على طاولة بحث الجيش الإسرائيلي، والذي جرى تسريبه بوصفها أسئلة تمثّل رسائل تحذير يجب عدم تجاوزها خلال المعركة المقبلة مع المسلحين. رسائل موجهة إلى الجانبين الروسي والسوري، وتأمل إسرائيل أن تراعى من جانبهما، خلال مرحلة القتال المقبلة.

المصادر العسكرية الإسرائيلية تسمي هذه الأسئلة «الأسئلة الثقيلة» في دلالة على أهميتها، وتحديداً ما يتعلق بحجم ومدى استخدام سلاح المدفعية السوري وضرورة تجنب انزلاق القذائف إلى الجانب الإسرائيلي، إضافة إلى ضرورة الامتناع عن «العدوانية التكتيكية» للقوات البرية السورية ودفع للإضرار بالسياج الحدودي. كذلك، مع التأكيد على ضرورة العمل على منع اندفاع المسلحين إلى الحدود، إذ بحسب التسريبات الإسرائيلية «من غير الواضح كيف يمكن للمتمردين الفرار إلى الأردن أو محاولة الاندماج مع المدنيين في مخيمات اللاجئين أو في سيناريو متطرف اقتحام الحدود الإسرائيلية كخيار أخير أمام العملية العسكرية السورية».

وضمن التحضير الإسرائيلي للمواجهة السورية المرتقبة ضد المسلحين، وبناءً على سياسة التخلي عنهم بعد سنوات من الاعتماد عليهم وعلى خدماتهم، عمدت تل أبيب إلى جملة إجراءات جرى تسريبها عبر الإعلام العبري، وإن حاولت تل أبيب إلباسها لباس التخطيط العسكري الاحترازي لمنع شن عمليات عليها انطلاقاً من الحدود وبمناسبة القتال المرتقب. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي ايزنكوت، أمر وحداته المنتشرة على الحدود «بتقليص» عدد الواردين إلى الشريط الشائك طلباً للمساعدة الطبية. وهو الأمر الذي يخفي في طياته قرار التخلي الكامل عن المسلحين، ومنع الطبابة عنهم، في تسليم واضح للواقع الجديد المقبل على التشكل بشكل مغاير، على الحدود السورية. هذا هو الهدف من الإجراء الجديد، سواء أدخل في ديباجته التهديد الإيراني كما قيل إسرائيلياً أو لم يدخل.

وحاولت إسرائيل في الفترة الأخيرة التوصل عبر «الصديق» الروسي إلى اتفاق، ينهي بموجبه الجيش الإسرائيلي وجود الجماعات المسلحة في الجنوب السوري، وصولاً إلى الحدود، مقابل تحقيق الحد الأقصى من مصالح إسرائيل، رغم أنها جاءت متطرفة ومتطلبة جداً، لم يرض ويقبل بها الجانب السوري. في حينه، كانت لهجة إسرائيل حاسمة جداً مع شبه «تعجرف» في طرح المعادلات، التي وصلت بها إلى طلب مقايضة بسط الدولة السورية سيادتها على الجنوب السوري، مقابل تخليها عن حليفها الإيراني وإخراجه من كل الأراضي السورية.

بعد فشل الاتفاق، نتيجة «الفيتو السوري» عليه، عادت إسرائيل إلى مربع «المعقولية» والمطالب والشروط الأكثر منطقية، سواء قبلت الدولة السورية بها أو رفضتها. بحسب تسريبات الإعلام العبري، أمس، (موقع «واللا»)، فإن القيادة السياسية في إسرائيل، بمؤازرة من كبار المسؤولين العسكريين ووزارة الأمن، أرسلت إلى الدول ذات العلاقة والتأثير، بما يشمل الجانب الروسي، رسالة واضحة جداً: إسرائيل لا تنوي التنازل عن مطلبها في مساحة خالية من عناصر إيرانية وحزب الله. وهو طلب، يشير بطبيعته قياساً بالمطالب والشروط السابقة، إلى تراجع كبير جداً في الموقف.

إشارات التراجع الإسرائيلية واضحة وبيّنة، وهي دالة ما لم يحدث ما يغير هذا التقدير، على أن المواجهة مقبلة مع المسلحين وأن دورهم قد انتهى، وأن التخلي عنهم هي وجهة رعاتهم في قادم الأيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى