زمانك بستان وعصرك اخضر.. يا ابا خالد

تلهث الايام العربية خلف ازماتها المتعددة والمتصاعدة.. تتصبب تعباً ووجعاً، وتخور قواها تنازلياً في مراثون المسافات الطويلة.. تغادر رزنامتها وتهيم على وجهها في فيافي التيه والضياع، حيث لا بوصلة ولا شاخصاً ولا دليلاً او رائداً يقود المسيرة ويهدي الى سواء السبيل.

ترتمي الايام العربية في اوكار الغيب واحضان المبني للمجهول.. تتعاطى عقاقير الهلوسة، وترتدي مسوح الدروشة، وتمضي مترنحة على دروب الغربة والغيبوبة.. تكتب حروف تعاستها على رمال بواديها بفيض دماء ابنائها المقتولين ذبحاً بحراب الداعشية والوهابية والجماعات الاخوانية الغادرة.

بئس هذا الزمان الحالك السواد، والمناقض للعقل، والمناهض للعروبة، والماثل بين يدي ابالسة الخراب، والموبوء بجهاد المناكحة وتخاريف العريفي والظواهري والقرضاوي، والمرزوء بحفاري ”مقبرة اوسلو” المرشحة لاحتواء جثمان القضية الفلسطينية، والملوث باسماء ”التطبيعيين الجدد” من صبيان الخليج المغرمين بالتوأمة بين مدن الملح وتل ابيب.

مؤسف ان تكذب الايام وتنقلب الازمان، حتى ”يخلو الميدان لحميدان”، كما يقول المثل الشعبي.. مفجع ان يرحل جمال عبدالناصر، وتغيب شمس القاهرة، وتتساقط رايات القومية العربية، ليتصدر المشهد ايتام السادات، ورعيان النفط، ومحاسيب اسرائيل وامريكا، الذين توافقوا جميعاً على طعن الامة العربية في صميم وجودها، وتسميم ينابيع وعيها ونبض ضميرها، واقتيادها من النور الى الديجور، ومن معاقل النهضة الوحدوية الى مهاوي الانحطاط والرجعية والهمجية.

في مثل هذا الاوان من عام 1970 زلزلت الارض زلزالها، ونثرت الفاجعة اهوالها، وفقدت العروبة اشجع ابطالها.. فقد حمّ القضاء على حين غرة، ومات ”ابو خالد” دون موعد مسبق مع الموت، وبغير ان يبلغ من العمر عتياً او يقارب حتى مرحلة الشيخوخة، وقبل ان يتوج ”حرب الاستنزاف” التي اضرمها في سيناء بنصر كان محتماً، ولكنه جاء متأخراً ايام انور السادات.

يوم رحيله بالضبط انتصب حد فاصل بين عهدين، بل عصرين مختلفين تمام الاختلاف.. عصر الشموخ وعصر الرضوخ.. عصر المنازلات الباسلة، وعصر التنازلات البائسة.. عصر الاهداف الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية والسيادة الوطنية، وعصر الاقزام والازلام الغارقين في آثام العمالة والهمالة والصهينة والدعشنة والعثمنة والتحطيب في حبال المحافل الماسونية.

غاب عبدالناصر، وانقلب عليه خليفته ”الاراجوز” قبل ان يسخن على كرسي الحكم.. غير ان الحرب الضروس على هذا الغائب لم تخف او تتوقف، بل اشتدت باكثر مما كان حياً، وامتدت مطولاً الى يومنا هذا، كما طالت كل من شايعه وسار على دربه في الانتخاء لفلسطين والعداء للصهيونية، بدءاً من صدام حسين، ومروراً بحسن نصر الله، وانتهاءً ببشار الاسد.

لا تأخذنا الغرابة او يتملكنا العجب، حين يجتمع رؤساء امريكا وبريطانيا وفرنسا واليهودية العالمية على محاربة عبدالناصر، حياً وراحلاً، وعلى مجابهة مشروعه الوحدوي النهضوي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فهؤلاء اعداء الداء للعروبة والاسلام منذ قديم الزمان، وهم اصحاب اطماع استعمارية وتوسعية غير خافية على احد.. ولكن ما يثير شديد الاستغراب، ويبعث على الاستهجان حد الذهول، هو هذا الحقد الصحراوي المتأصل، والهجوم العدواني المتواصل، لدى حكام الرجعية على قائد عربي يُفترض انه شقيقهم في الدين والديرة والعشيرة القحطانية.

كثير من حكام العرب اختلفوا مع ”ابي خالد” وتآمروا عليه وناصبوه العداء، ولكنهم ما لبثوا ان غيروا مواقفهم من تلقاء انفسهم، او تغيروا عنوة وذهبت ريحهم وسقطت عروشهم.. غير ان سلاطين الرُبع الخالي، المدعومين بشهوة المال وسطوة البنتاغون، ما لانوا ولا غيروا ولا بدلوا تبديلاً، بل ظلوا سادرين في العداء، وضالعين في البغضاء، وطاعنين في التآمر، وممعنين في ملاحقة افكار عبدالناصر ومطاردة انصاره وجمهوره دون هوادة، والى اقصى الحدود، ولحساب غواشم الاستعمار والصهيونية والداعشية.

يا للطغمة الاعرابية العمياء بلا بصيرة، والرعناء بلا عقل، والهوجاء بلا رؤية او روية.. فقد انشغلت لعشرات الاعوام باطفاء المشاعل القومية، ووضع العصي في دواليب الحركة الناصرية، واحتلال سدة القيادة العربية بعد رحيل عبدالناصر، وتسخير مليارات الدولارات وآلاف الصحف والاقلام والدعاة والمساجد والاذاعات والفضائيات، لنشر وتسويق المعلبات الوهابية الفاسدة والطالعة من كهوف القرن الثامن عشر، وهلوسات محمد بن عبد الوهاب، لكي تشكل بديلاً ”عصرياً وحضاريا” عن القومية والناصرية والحداثة والثقافة والتقدمية.. فماذا كانت النتيجة في واقع الحال الراهن ؟؟

لقد سقط العقل العربي في وحل الفتنة الطائفية والمذهبية، واستعاض عن التفكير بالتكفير، وعن المد الطليعي بالعد العكسي.

انظروا الفرق الشاسع بين حال العرب بالامس تحت جناح عبدالناصر وظلال الخيمة الناصرية واخواتها من حركات التحرر والاستقلال الثورية، وبين حالهم اليوم تحت قيادة ثوار برنارد ليفي، وعشاق تسبي لفني، وزعران عباس ودحلان، ونواطير النفط والغاز، وزبائن الحماية الاجنبية والقواعد العسكرية.. انظروا كيف انقلبت اوضاع العرب من النقيض الى النقيض، ومن الذرى الى الحضيض، حيث تبدل امنهم خوفاً، وبأسهم ضعفاً، ووزنهم صفراً، وتضامنهم تشتتاً، وكرامتهم ذلاً، وهيبتهم هواناً على الناس.

اجمالاً، لا لزوم في ذكرى رحيل ”ابي خالد” لتعداد مناقبه وسجاياه الشخصية المطهرة، او التذكير بمواقفه ونضالاته ومنازلاته المجيدة، فهي معروفة للكافة وخالدة في اللوح المحفوظ.. وها قد جاءت الايام والاعوام لتزكيها ولا تنفيها، ولتؤكدها ولا تبددها، ولتؤدي التحية العسكرية لصاحبها المقاتل المغوار الذي عجز كل اعدائه عن طمس صورته، وهدم شعبيته، وتشويه مسيرته، وطرده من الوجدان العربي العام.

المؤسف- بالمقابل- ان جموع انصار ”ابي خالد” ومؤيديه ومريديه قد عجزت عن مواصلة مشواره، واستكمال مشروعه، وامتلاك قبس من سحره وتأثيره وقوة حضوره.. ذلك لان من الصعب سد مكان او ملء فراغ هذا القائد المارد المحلق في فضاء العظمة والعبقرية، والمتوافق مع ”الضرورة التاريخية” التي لا تجود بامثاله من النوابغ والفلتات والجهابذة الا في اندر الحالات والمناسبات، ولعل اهم نقائص ”الربيع العربي” التي ادت الى فشله وانحرافه، افتقاره للقيادات المحورية الوازنة والمهيبة والمسموعة الكلمة.

ففي خضم الحروب والثورات والمنعطفات الخطرة، وحالات الاستعصاء والانسداد الحرجة، كثيراً ما تقوم ”الضرورة التاريخية” بدورها السحري، وتتولى افساح المجال لتخليق قيادات وزعامات استثنائية عابرة للمألوف، وخارقة للمعتاد، ومؤهلة لركوب الصعب، وارتياد الوعر، واقتحام ميادين الخطر، وشحذ همم الجماهير ومعنوياتها، وامتشاق سيف التحدي والاستبسال في مواجهة اعتى الشدائد واشرس الاعداء، وبما يؤدي – آخر الامر – الى احراز الانتصارات، وتفكيك الازمات، وتحقيق الانجازات، وتبديل الموجب بالسالب في موازين القوى وحساب الاستراتيجيات.

رحم الله ”ابا خالد”، ففي كل ذكرى من سنويات رحيله الستة والاربعين، تنفطر القلوب، وتتجدد الاحزان، وترتعش الحواس الخمس، وتكتسي المشاعر والخواطر بلون السواد، وتفر الدموع الحرى من بين الجفون، وتسافر طيور الشوق والوجد والحنين الى زمان العز والمجد والكبرياء الذي قال فيه الشاعر نزار قباني ..

زمانك بستانٌ وعصرك اخضرُ       وذكراك عصفورٌ من القلب ينقرُ

دخلتَ على تاريخنا ذات ليلةٍ        فرائحةُ التاريخِ مسكٌ وعنبرُ

تضيق قبورُ الميتين بمن بها         وفي كل يومٍ انت في القبر تكبرُ

أبا خالدٍ اشكو اليك مواجعي         ومثـلي له عذرٌ ومثـلك يـعذرُ

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. اغلب ما نعانيه اليوم هو من بركات عبد الناص:فقر الشعب المصري,تجذر القطرية,الربيع العربي,هزيمة 67,ومع ذلك ما زلتم على نفس النهج,افيقوا واتركونا من ناصر فهو بين يدي ربه,مات محمد والخلفاء وصلاح الدين وووووو,فمن هو ناصر معهم؟؟؟

  2. تمر السنوات و جريدة المجد و الاستاذ فهد على الموعد السنوي بمقال رائق جزل اللغة. سلمت يداك.

  3. الأستاذ الفاضل فهد الاتجاه التقدمي والعروبي لا يتفق مع استخدام الأشهر الإنجليزية في جريدة عروبية….. بعض أسماء الأشهر هي أسماء اباطرة رومان ….. في العراق والشام أسماء الاشهرمستمدة من حضارة المنطقة العربية …. الامر له دلالة وقد استغربه كثيرون

  4. انا هاشمي الهوى وذلك مرده لنزعة التصوف السني التي تقدس ال البيت الكرام ، ولكن للامانة لم ارى عبقريا ينتصر لقضيته كما فعل الاستاذ قهد الريماوي لناصريته ، فهذا المقال مرافعة رائعة لفترة الرئيس البطل عبدالناصر التي لم اعشها لانني من مواليد 1967.
    لكن يأبى قلم ابا المظفر الا ان يجعلني بهذا المقال اعيش تفاصيل تلك المرحلة الغنية بعبق العروبة وغناها القومي ، فمقالات هذا الرجل هي واحدة من اللذات القليلة التي بقيت لي في هذه الدنيا الفانية التي سحقتني بوفاة عمي الاسبوع المنصرم ـ فجاء هذا المقال ليسد فراغي الروحي القاتم جدا هذه الايام ، سلام الله على روحك يا ابا خالد عبدالناصر الخالد في زمن جنازة بيريس وعربها الاوباش .

زر الذهاب إلى الأعلى