يوم ١٥ يناير ١٩١٨ تمخضت ” أم الدنيا” فولدت عملاقاً

١٥ يناير/ كانون الثاني ١٩١٨، يوم مبارك مقرون بالسعد، ومُكلل بالورد، ومحفوف بالفرح، وممنوع من الصرف، ومُحصّن ضد النسيان، ومعدود من ابهى الاعياد، ومعطوف على ايام إبن الوليد وأبي عبيدة وصلاح الدين، ومحفوظ في ذاكرة الدهر وافئدة احرار مصر وشرفاء العرب.

في ذلك اليوم الاغر لم يولد طفل، بل ولد شبل.. لم تبتهج بمولودها ام، بل احتفلت بناصرها امة.. لم يخرج للحياة شخص، بل ظفر بالحياة شعب.. لم تشرق شمس مصر وحدها، بل بزغت شمس كل العرب.. لم تنفتح صفحة وليد جديد، بل انفتحت بوابة عصر مجيد.

يومذاك طلع من صُلب صعيد مصر، ورحم قبيلة بني مُر، فرخ نَسر، وبشير خير، ومشروع ثائر جسور يقف المستقبل في انتظاره.. على النقيض من حكام العُربان المُستولَدين في عيادات “اطفال الانابيب”، والطالعين من فبارك المخابرات الاجنبية، والراضعين حليب الذل والمسكنة والرضوخ من اثداء يهودية وفرنكوفونية وانجلوسكسونية.

في كل عام يتجدد هذا اليوم السعيد، وتتجند اقلام الاحرار – الاحرار فقط – للترحيب به والتعبير عنه بلغة الشوق وحروف الحنين ومفردات الاحترام.. فهو اليوم الذي سطعت فيه انوار جمال عبد الناصر، وأضاءت ليل العرب الذي كان آنذاك حالك السواد، كما كان “شاهد إثبات” على افدح عملية إبدال وانتقال ما بين الاستعمار الاوروبي الوافد، والاحتلال العثماني البائد.

مَن الأحق بالكتابة الحميمة عن حياته، والحفاوة القلبية بعيد ميلاده، اكثر من جمال عبد الناصر ؟ ومن الأجدر بالاستذكار والاستحضار والترحم على ايامه، اكثر من هذا القائد الثوري العظيم ؟ ومن الأحرى بالوفاء له والاقتداء به، والاهتداء بهديه وخُلقِه ونضالاته، اكثر من هذا الفدائي الباسل، الذي ما زال في اذهان الملايين موضع تقدير وتوقير وإجلال؟

فكلما مرّت الايام وكرّت الاعوام وتعاقب الليل والنهار، ازداد “ابو خالد” تألقاً واشراقاً، وكلما تهافت حكام هذا الزمان على طاعة الامريكان، استرجع احرار العرب تحديه لامريكا يوم دعاها ان تشرب ماء البحرين الابيض والاحمر.. وكلما تغطرس الصهاينة وداسوا بالاقدام عرب الاستسلام، استحضر الراسخون في العروبة مقولته التاريخية: “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة”.

لقد كان هذا القائد المارد البعيد النظر يرى – بعيني زرقاء اليمامة – ما لا يراه الآخرون، ويتشوف بقوة البصيرة ما لا تدركه مديات البصر، ويقرأ كتاب النوايا والمخططات الاسرأمريكية من صفحته الاخيرة وليس الاولى، وينقّب فيما بين السطور بحثاً عن “حروف العِلة”، تبعاً لقناعته بان هذا الحلف الامبريالي – الصهيوني – الماسوني هو العدو الدموي والدائم لحركات التحرر الوطني في العالم، وتحديداً للشعوب العربية التائقة للوحدة والحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية.

وعلية، فقد كانت الامة مأسورة ومقهورة، فجاء مَن ينصرها ويفك اسرها.. كانت حائرة تبحث عن ذاتها، فحضر مَن يقدم لها “أل التعريف”.. كانت مُجزأة ومُقسّمة وغافلة عن قوميتها، فطلع من بين صفوفها “ابو خالد” لينادي بوحدتها، ويستنهض عروبتها، ويصوّب بوصلتها، وينفخ في روحها، ويقودها الى سواء السبيل.

منذ بدايات ثورته المظفرة، القى عبد الناصر بنفسه الى “التضحية”، ووهب حياته كلها لخدمة شعبه وامته، وخاض غمار معارك ضارية مع الحلف الاستعماري – الصهيوني – الماسوني واذنابه من نواطير النفط، والتقى على صعيد مناجزة الغرب الباغي مع دول المعسكر الاشتراكي، واسهم الى جانب نهرو وتيتو وكاسترو ونكروما وسوكارنو وماوتسي تونغ وهوشي منه في تثوير وتحرير شعوب آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. وليس في ايامه يوم إلا وتتصدّره واقعة نضالية مُشرّفة، او علامة وطنية فارقة، او وقفة بطولية شامخة.

لقد شكّلت استراتيجية “ابو خالد” الثورية “جملة معترضة” ومساراً في الاتجاه المعاكس للبرامج والمخططات الاوروبية والامريكية الخبيثة، وذلك حين رفع لواء القومية العربية، وسارع الى ترجمتها عملياً في صيغة وحدة اولية بين مصر وسوريا.. الامر الذي يعني بداية شطب مؤامرات تمزيق وتقسيم الوطن العربي التي دبرتها “الصليبية الجديدة” في بريطانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا مبكراً، عبر مؤتمر كامبل بنرمان المنعقد عام ١٩٠٧، والذي مهّد السبيل فيما بعد لخديعة سايكس – بيكو الاجرامية.

نعرف ان مقاومة هذا التحالف الشيطاني مهمة باسلة ونبيلة، وان عبد الناصر واقرانه من قادة التحرر الوطني في الخمسينات والستينات من القرن الماضي قد ادموا هذا التحالف، وأبلوا بلاءً اسطورياً في مقارعته لانتزاع الحرية لشعوبهم والاستقلال لبلدانهم.. غير اننا تعرف بالمقابل – ونعترف – ان هزيمة هذا التحالف الشرس والمدجج بالجيوش الجرارة والاسلحة الفتاكة والماهية العدوانية المزمنة، لم تكن سهلة ومقدور عليها طوال الوقت.. فقد استطاع منذ اوائل السبعينات التقاط انفاسه، واستجماع قواه، وتفعيّل نزعاته اليمينية الفاشية (التاتشرية والريغانية)، وتدعيم عملائه ووكلائه شرقاً وغرباً، لضرب حركات التحرر الوطني، واغتيال قادة اليسار الثوري، وتشتيت حركة عدم الانحياز، وصولاً الى هدم الاتحاد السوفياتي، وتخريب المعسكر الاشتراكي برمته.. ولم يكن عدوان حزيران الصهيوني – الامريكي “المُدبّر” على مصر عام ١٩٦٧ إلا حلقة من حلقات “الهجوم المعاكس” الذي شنه هذا التحالف القذر على قوى التحرر والتقدم العالمية، وادى الى اطاحة لومومبا وسوكارنو ونكروما وسيكوتوري وبن بيلا وجيفارا والليندي وبيرون وارتيغا وغيرهم.

في الحسبان الاسرامريكي، كان مُقدّراً لعبد الناصر ان يسقط او يستقيل تحت وطأة الهزيمة.. غير ان الجماهير العربية الوفية التي طالما نصرها هذا الثائر المعطاء وانتصر لقضاياها، هبّت عن بكرة ابيها ترد له الجميل، وتجدد له البيعة، وتعهد له بمواصلة المشوار على قاعدة الاخذ بالثأر، والعودة الى ميدان القتال.. وهو ما كان في “حرب الاستنزاف”، توطئة لما سيكون في “حرب التحرير”.. ولكن ما لم يُنجزه الاعداء بالعدوان العسكري انجزوه بالاختراق الاستخباري الذي تستر تحت عباءة “القضاء والقدر”، والفعل المبني للمجهول، لاغتيال اشجع الرجال، ووضع نقطة على آخر سطور حقبة عربية مجيدة.

البقية بعد ذلك معروفة، وها نحن نتجرع علقمها كل يوم.. فقد انعكست الازمنة وانقلبت الاحوال.. غاب الرجال الرجال وحضر الانذال.. انتعشت خفافيش الردة فالتبعية ثم العمالة التي ما لبثت ان تعمّقت حتى بلغت حد الخيانة السافرة، والالتحاق بالعدو الصهيوني، بل والترويج له، والانبطاح تحت سقف نفوذه.. فيما طغت على البلاد والعباد في مشارق الوطن العربي ومغاربه حالة شنيعة وفظيعة من التيه والتسفيل والتلاطم “وفوضى الحواس”، وبات الناس سكارى وما هم بسكارى.. غابوا عن وعيهم واغتربوا عن انفسهم، فهم ينظرون ولكن لا يبصرون، وهم يُنصتون ولكن لا يسمعون، وهم ينزفون ولكن لا يشعرون، وهم يحاولون الخلاص من بؤس واقعهم، ولكن هيهات ان يجدوا القائد المحارب والدرب المناسب.

نعم، لقد وقعت الامة في قبضة الازمة، وغشيتها حالة مُزرية ومعتمة ومثقلة بالخيبات، ومرشحة للمزيد من النكبات والاختراقات.. فقد جرى تجريفها من القيادات الجسورة، والحكومات الرشيدة، والنخب الملتزمة، كما تم تفريغها من المبادئ الوطنية والقومية السامية، ومن كل الوان المعارضة السياسية الوازنة والفاعلة، تبعاً لحشوها بالحكام الفاسدين والمستبدين الشغوفين بذُل التبعية وليس دفء الشعبية، والمجاهرين علناً بالولاء للصهاينة والامريكان، بدل الانتماء لامتهم وشعوبهم.

اجزم ان ازمة امتنا بالدرجة الاساس، هي ازمة حكام وقادة رعاديد يخضعون لهورمون الذعر، وينتسبون لبرج الجحش، ويجمعون بين العمالة والجهالة.. هي بالقطع ليست ازمة شعوب قد تُذعن وتنخدع وتنشغل بهمومها وتنغلب على امرها احياناً، ولكن فطرتها تبقى شديدة الوطنية، وجوهرها يظل نقياً وابياً، واستعدادها العالي للعطاء والفداء ليس عليه من مَزيد.. فما ان يجّد الجَد ويحين الحين حتى تصحو من غفلتها، وتستنهض ارادتها، وتفجّر ثورتها، وتضحي باغلى ما لديها، لكنس العملاء والدخلاء والجبناء الذين استبدوا بها واعاقوا تقدمها.. ومهما حاول الاعداء إفسادها وتخريبها، وتسليط الاضواء على سلبياتها والتعتيم على ايجابياتها، فستبقى – كما قال عبد الناصر – هي السيد والمُعلم والفاعل المرفوع الرأس والشديد البأس.

اشتدي ازمة تنفرجي.. فحين يشتد الكرب، ويعظُم الخطب، وينسدّ امام امتنا الدرب، ويجور ليلها على النهار وخونتها على الاحرار الاطهار، لا تجد هذه الامة بُداً من استدعاء تارخها العريق، واستنفار قواها الكامنة، وتفعيل شجاعتها الموروثة، وتخليق قياداتها الجديدة الباسلة والمناضلة، وقذف كل ما في جوفها من قهر وحقد وكبت.. فالمظالم تُشعل الثورات، والضرورات تستخرج المعجزات، والتحديات تتفتق – في مَعرض الرد عليها – عن اعظم البطولات.

ليس من قبيل التبرير او التخدير، او الهروب من واقع الحال الى التعلل بالآمال، ان يلازمنا اليقين “المُكعّب” ان امتنا لن ترحل عن جغرافيتها، ولن تخرج من تاريخها، ولن تبيد مئات ملايينها او تتشرد في المنافي والمغتربات، ولن تعجز عن انجاب قادة أولي رأي سديد وعزم شديد، ولن تخلع هويتها العربية – الاسلامية الاصيلة والجليلة لتستعير بنطال الجينز الامريكي او الكيباه اليهودية.. فقد سبق لهذه الامة ان رزحت تحت نير الاستبداد العثماني اربعة قرون، ولكنها بقيت عربية اللسان والجِنان والوجدان، وسبق للجزائر الغالية ان خضعت لاقذر واخطر اساليب الفَرنسة والتغريب على مدى ١٣٠ عاماً، ولكنها بذلت اكثر من مليون شهيد لتقتلع المستوطنين الإفرنس من ترابها، وتسترجع البُعد العربي والاسلامي في هويتها.. ولا ريب “قط” ان فلسطين سائرة على هذه الطريق، مهما طال المدى وعظُمت التضحيات.. فلا بقاء فيها للغاصبين الغرباء الذين قال مجرمهم السّفاح زئيف جابوتنسكي: “احمد الله ان اليهود ليست لهم علاقة بالشرق”، فيما اعترف فيلسوفهم آشر تسفي هيرش أن “روح الشرق غريبة عنا، لاننا عشنا الفي سنة في الغرب”.

بالدلائل العقلية وليس الاضاليل الاعلامية، يتضح بجلاء ان اسرائيل غيتو محكوم بالاعدام مهما طال أمد التنفيذ.. فلا شرعية له ولا مستقبل لوجوده في الشرق، ولا مكان له وسط ملايين العرب وملياري المسلمين، ولا قدرة او رغبة لديه – بحكم تشدده العنصري وانغلاقه التلمودي وعُقدِه التاريخية – في التكيّف والتعايش مع محيطه الجغرافي.. بل هو الذي يسعى الى حتفه بِظِلفه، ويستعدي الآخرين عليه، ويُسهم بغروره في هزيمة نفسه، ويشكّل المُعيق الاكبر لمحاولات مسالمته والتطبيع بنِدّية وحُسن نية معه.

بقليل من الفحص والتمحيص، يتضح ان هذه الاسرائيل محض “نقطة هندسية” بلا طولٍ ولا عرضٍ ولا إرتفاع، ومجرد “قوة دمار”، وربما انتحار (ماسادا)، ولكنها بالتأكيد ليست “قوة انتصار”.. فهي تمتلك اسلحة دمار امريكية هائلة قد تتضمن قذائف نووية، ولكنها تفتقر الى عقيدة الجهاد وروح الفداء والاستشهاد، وتحتاج الى المقاتلين الصناديد المندفعين بحماس شديد للمواجهة والاقتحام والالتحام.. واسألوا مدير التعبئة والتجنيد الاسرائيلي الذي اشتكى مُر الشكوى مؤخراً من تهرب الشباب من التجنيد، وهروب الجنود تحديداً من سلاحي القوات البرية والمدفعية، حتى انه اضطر للاستعانة بالمجندات تعويضاً عن “الاشاوس” الهاربين والمُتهربين، كما ناشد اطباء العيادات النفسية الامتناع عن اصدار تقارير زائفة تساعد المتمارضين المطلوبين للتجنيد على التهرب، بذريعة امراضهم النفسية.

قوة التدمير ليست شرطاً للنصر والتحرير، وإلا لما انتصرت فيتنام على اليانكي الذي سوّى معظم مدنها وقراها بالارض، ولما انتصر حزب الله عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٦ على العدو الصهيوني الذي احرق الجنوب ودمر الضاحية الجنوبية في بيروت، ولما انتصر الرئيس الاسد وجيشه على اكبر تحالف عالمي فاجر دمر البشر والحجر والشجر في سوريا، ولما انتصر فقراء اليمن بقيادة الحوثيين على آلة الدمار السعودية الجهنمية التي اهلكت الحرث والزرع، ودكّت حتى عظام بلقيس.. أما جولة او صولة “سيف القدس” فقد شكّلت نموذجاً مُصغّراً لانتصار إرادة القائد محمد الضيف على كل غارات الهدم والردم اليهودية الهستيرية.

شطحنا بعيداً، وأخذتنا هموم الامة العربية المكلومة من مناسبة احياء يوم ميلاد “ابي خالد”.. ولكن عذرنا ان هذا العملاق والعروبة صنوان لا يفترقان، فقد ألهَمها كما ألهمته، وقاد خطاها بقدر ما قادت خطاه، وعاش في قلبها بمثل ما عاشت في قلبه، ورحل عنها منذ نيّف وخمسين عاماً ولكنها ما زالت تتعلق به، وتنتظر ان يجود الزمان بخليفته.. وليس ذلك على الله وعلى عبقرية هذه الامة ببعيد.

وسلام على “ابي خالد” يوم ولد ويوم رحل ويوم يُبعث حياً.. ففيه وفي امثاله الابطال قال الشاعر العربي القديم، سعد بن ناشب..
إذا هَمّ ألقى بين عينيهِ عَزمَـــــهُ        ونَكّبَ عن ذِكر العـــــواقبِ جانِبا
ولم يَستشر ْ في رأيه غيرَ نفسِهِ       ولم يرضَ إلا قائِمَ السيفِ صاحِبا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى