امريكا اللاتينية : القارة التي لا تتوقف عن إدهاشنا

 
لا تتوقف امريكا اللاتينية عن إدهاشنا ابداً. قدرتها على “انتاج” زعماء وقادة “غير عاديين” متواصلة عبر الاجيال. غيفارا وكاسترو هما النموذج الاشهر في القرن العشرين, وقبلهما كان سيمون بوليفار البطل التاريخي لقارة أميركا الجنوبية (الذي يُطلق اسمه على بلد بأكمله “بوليفيا” والذي يمثل قطباً جامعاً لقوى الثورة والتحرر اللاتينية تحت مسمى “القوى البوليفارية”). زعماء وقادة لا تجد لهم الكثير من النظائر في انحاء اخرى من العالم (وعالمنا العربي يمتاز بفرادته ايضا في انتاج الزعماء, ما بين سلاطين وملوك وشيوخ نفط وضباط جيش وبليونيرات فاسدين). واهم ما يميز الزعماء اللاتينيين هو اخلاصهم وبساطتهم وقربهم من الناس ونضالهم الذي لا يلين لأجل قضية الفقراء و العدالة.
بالأمس انتخبت تشيلي شاباً يافعاً ومناضلا طلابياً, 35 عاماً, كرئيسٍ لها, ليُضاف غابريال بوريك الى سلسلة الزعماء الاستثنائيين الذين افرزتهم امريكا اللاتينية في السنوات الاخيرة, نستعرضهم باختصار :
كاستيو في بيرو : استاذ المدرسة الحرّاث الذي اصبح رئيساً
انتخب قبل شهور قليلة بيدرو كاستيو رئيسا. ولد كاستيو لعائلة فقيرة مكونة من فلاحين أميين في بلدة صغيرة في مقاطعة كاجاماركا التي هي من أفقر المناطق في بيرو. وهو ثالث أبناء عائلة والديه من بين تسعة أطفال. والده, إيرينو, ولد في مزرعة مملوكة لاحدى العائلات الاقطاعية التي قامت بتأجير اسرته اقطعة أرض كان يعمل بها.
عندما كان شاباً سافر كاستيو في جميع أنحاء بيرو لكسب المال من أجل دراسته. ابتداء من سن الثانية عشرة كان هو ووالده يسيران مسافات طويلة للعمل في مزارع البن بمنطقة الأمازون في بيرو. وسافر كاستيو مع أخته للعمل في محاصيل الأرز من أجل دفع تكاليف الدراسة. باع الصحف والآيس كريم ونظف غرف الفنادق في ليما حتى تمكن اخيرا من الحصول على درجة الماجستير في علم النفس التربوي من الجامعة.
في عام 1995، عمل كاستيلو مدرسًا في المدرسة الابتدائية التي انشأها المجتمع المحلي في بلدته الاصلية بونيا (بسبب عدم تلقي أي مساعدة حكومية) حيث كان مسؤولاً ليس فقط عن التدريس للطلاب, وكلهم يعانون الفقر الشديد حد الجوع, بل ايضا عن الطبخ والتنظيف! وبفضل شغله وتفانيه صار شخصية محبوبة ومؤثرة في المناطق الريفية في بيرو. اعترفت الحكومة بالمدرسة وصار كاستيو يتلقى اجرا (بسيطا) مقابل عمله, وسرعان ما انضم كاستيو الى نقابة المعلمين التي اصبح بعد عدة سنوات زعيماً لها. وفي عام 2017 نظمت النقابة اضرابا امتد إلى انحاء واسعة في بيرو بهدف زيادة الرواتب, وتحسين اوضاع المعلمين وزيادة ميزانية قطاع التعليم.
والى ما قبل انتخابه رئيسا كان كاستيو يعيش مع عائلته في منزل ريفي في منطقة تشوغور في مزرعة بها أبقار وخنازير وذرة وبطاطا. وكثيرا ما كان يشاهد وهو يرتدي قبعة من القش و معطفاً تقليدياً وصندلا مصنوعا من الإطارات القديمة!
وقد وعد أنه في حالة انتخابه فإن المواطنين هم الذين سيشرفون على سياساته, وأنه سيتلقى فقط راتب المعلم! وقال انه سيسعى إلى خفض رواتب أعضاء الكونجرس والوزراء إلى النصف.
موخيكا في اوروغواي : الرئيس الذي لا يملك سوى سيارة متهالكة!
عندما تسلم موخيكا الرئاسة سنة 2010 قدم اقراراً بالذمة المالية وفيه كانت سيارته الفولكس فاجن بيتل موديل 1987 هي الاصل الوحيد الذي يمتلكه وقدرت قيمتها بــ 1800 دولار فقط. راتبه كرئيس للدولة كان 12000 دولار فتبرع بــ 90% منه للجمعيات الخيرية باعتبار ان الـ 10% الباقية كافية لكي يعيش مثل بقية الناس في البلد. وُلد فقيرا وصار يتيماً بسن 14 وعمل كبائع متجول للورود في مونتيفيديو. امضى 13 سنة في السجن, منها 10 في الحبس الانفرادي, بسبب نضاله الثوري ضمن صفوف حركة توباماروس اليسارية. وعند انتخابه رئيسا كان يعيش في بيت متواضع في مزرعة ريفية بسيطة تمتلكها زوجته. أعلن فتح ابواب القصر الرئاسي لايواء المشردين الذي لا مكان لهم في مراكز الايواء الحكومية. ولعله كان أكثر رؤساء العالم زهداً في الحياة, وأكثرهم ابتعاداً عن مظاهر الترف, إضافة إلى كونه أقلهم التزاماً بالبروتوكولات الرئاسية, من حيث الثياب الرسمية (لم يرتدِ ربطة عنق قط) أو توفير وسائل نقل رئاسية, وقصور فارهة, واستمر في نمط معيشة هو اقرب ما يكون إلى حياة العامة الفقراء من ابتاء بلده.
موراليس في بوليفيا : اول رئيس من الهنود الحمر
اول رئيس في تاريخ بوليفيا ينحدر من السكان الاصليين (الهنود الحمر). ولد ايفو موراليس لأسرة تعمل بالزراعة بمنطقة أورينوكا النائية بالجنوب الغربي لبوليفيا. التحق موراليس منذ سن السادسة بوالده للعمل الزراعي ورافقه إلى شمال الأرجنتين للعمل في حقول قصب السكر, وإلى إقليم كوشابامبا لبيع حيوان اللاما. ورغم عمله في سن مبكرة تمكن موراليس من الالتحاق بمدرسة حيث عمل بالتزامن مع الدراسة بناءً وخبازاً وعازفاً على آلة البوق. بعد إنهائه السنة الخامسة من التعليم الثانوي التحق موراليس بالجيش حيث كان التجنيد إجباريا. وإثر انتهاء خدمته العسكرية عاد إيفو ليعمل مزارعا في بلدته الاصلية, لكن سرعان ما عصفت ظاهرة النينيو والرياح الثلجية بالمحاصيل الزراعية وقطعان الماشية فيها ما أجبر آلاف السكان على الهجرة ومنهم عائلة موراليس التي توجهت إلى الشرق نحو منطقة كوشابامبا حيث واصل إيفو العمل بالزراعة. انتخب مورالس في ثمانينيات القرن الماضي رئيسا لنقابات مزارعي الكوكا في فترة اتسمت بالمواجهات بين مزارعي الكوكا والحكومة ما عرضه للاعتقال والسجن.
وفي سنة 2019 حصل ضده انقلاب – امريكي الهوى والهوية – اسفر عن الاطاحة به ولجوئه للمكسيك. ولكنه بعد سنة فقط عاد مرفوع الرأس الى بلده, معززا مكرماً, بعد أن فاز حزبه مرة اخرى في الانتخابات التي نظمها الانقلابيون وأسفرت عن اعتلاء حليفه وخليفته لويس ارسي سدة الرئاسة.
مادورو في فنزويلا : سائق الحافلة الذي خَلَفَ هوغو تشافيز
وُلد نيكولاس مادورو في كاراكاس وأتم دراسته الثانوية فيها. لم تسمح له الظروف الصعبة بمواصلة تعليمه بعد الثانوية فصار يعمل سائق حافلة (باص) حيث بدأ مسيرته السياسية من خلال العمل النقابي في مترو كاراكاس في ثمانينيات القرن الماضي, رغم ان العمل النقابي في المترو كان محظوراً حينذاك. ومن خلال نضاله النقابي انتقل الى البرلمان حين نجح في الانتخابات وصار نائباً, وبعدها رئيسا للجمعية الوطنية. وقد ساهم بنشاطه السياسي في الإفراج عن هوغو تشافيز من السجن فصار من المقربين له وساعده في حملته التي اوصلته للرئاسة. اختاره تشافيز كنائب له ودعا الفنزويليين للتصويت له عندما اصيب بالسرطان وأشرف على الوفاة. وبالفعل انتخب مادورو رئيسا للبلاد عام 2013 ومنذ ذلك الوقت وهو يتعرض لمؤامرات وحملات لا تتوقف تقوم بها الولايات المتحدة ضده عن طريق زبائنها وعملائها في فنزويلا. وقد صمد مادورو بالرغم من محاولة اغتيال (جسدياً) تعرض لها, ومحاولة انقلاب عسكري, ومحاولة انقلاب برلماني نفذه حليف ترامب خوان غوايدو. جنّ جنون الامريكي بفعل صمود مادورو البطولي, وخصوصا لدى الجمهوريين المهووسين بالحروب, فوصل الامر بمستشار ترامب للامن القومي الى حد توجيه تهديد صريح له حين خاطبه قائلاً ” لن تفلت من العقاب”! بل ان السناتور الجمهوري ماركو روبيو ذهب لأبعد من ذلك حين هدده بمصير القذافي وارفق تهديده بصورة للقذافي مضرجا بدمائه قبل مقتله بدقائق! ذهب ترامب وذهبت معه سفاهات بولتون و روبيو وبقي مادورو الى اليوم في بلده وبين ابناء شعبه الذين وثقت غالبيتهم به فجددوا انتخابه وفوضوه ليتابع مسيرة بناء الوطن بعيدا عن التبعية لأمريكا ورأسمالييها المتوحشين من مصاصي دماء الفقراء.
لولا دا سيلفا في البرازيل : ماسح الأحذية الذي صار رئيسا لأكبر بلدان القارة!
نشأ لولا في أسرة فقيرة مكونة من 7 اولاد وبنات و كانت طفولته قاسية وصعبة. سافر أبوه بعد أسبوعين فقط من مولده إلى ساو باولو للبحث عن عمل ثم انقطعت أخباره فتولت الام مسؤولية العائلة واضطرت أن تسكن هي واولادها في غرفة واحدة في منطقة فقيرة في المدينة الكبيرة.
توقف لولا عن التحصيل الدراسي في سن العاشرة من عمره بسبب الفقر الشديد الذي كانت تعاني منه العائلة. اضطر للعمل كماسح للأحذية لفترة طويلة في شوارع ساو باولو, وكصبي في محطة وقود, ثم حرفي في ورشة, وبعد ذلك ميكانيكي سيارات, وبائع خضروات. وانتهى به الحال كمتخصص في التعدين بعد التحاقه بأحد المصانع الذي اعطاه دورة تدريبية مدتها 3 سنوات. تعرض لحادثة في سن ااــ19 من عمره, أثناء عمله في إحد مصانع قطع غيار للسيارات, أدت إلى فقدانه أصبعه الخنصر في يده اليسرى بسبب إهمال صاحب المصنع الذي كان يعمل به وظروف العمل السيئة. انضم لولا إلى نقابات العمال وبدأ نضاله للدفاع عن حقوق العمال وتحسين احوالهم وتحررهم من قسوة أصحاب الأموال. تم انتخاب لولا رئيسًا لنقابة العمال سنة 1978. وكانت النقابة ضخمة جدا وتضم في ذلك الوقت ما يقارب 100 ألف عامل.
بعد انتخابه رئيسا حظى لولا بشعبية كبيرة وخاصة لدى الطبقات الفقيرة , بل وصار يطلق عليه لقب “بطل الفقراء” نظرا لعمله البطولي من أجل فقراء البرازيل الذين يعانون من البطالة وارتفاع معدلات التضخم واتساع الفجوة بين طبقات المجتمع الغنية والفقيرة. فرض لولا ضرائب تصاعدية ونجح في توفير ما يقارب 60 مليار دولار خصصها لمساعدة الأسر الفقيرة والقضاء على ظاهرة توارث الفقر, واشترط على كل الأسر المستفيدة من هذا البرنامج أن يواظب أبناؤهم على الدراسة.
في البرازيل ايضا ديلما روسيف : الفتاة التي سجنها الجنرالات وهي بعمر 23 سنة!
ولدت ديلما روسيف لأب من اصول بلغارية يعمل بالمحاماة. وبدأت نشاطها النضالي مبكرا وانضمت إلى الحركة اليسارية المناهضة للدكتاتورية العسكرية التي استولت على الحكم سنة 1964. ألقي عليها القبض عام 1970 وهي بعمر 23, وحكم عليها بالسجن ست سنوات أمضت منها ثلاثة في السجن الفعلي. وتعرضت خلال حبسها للتعذيب بالصعق الكهربائي, لدورها في المقاومة السرية.
سياسياً, وبعد الإفراج عنها انضمت ديلما الى حركات واحزاب عمالية الى ان استقر بها الحال في “حزب العمال” اليساري. قدمها الرئيس لولا كخليفة له سنة 2009 وبالفعل فازت في الانتخابات وتسلمت الوشاح الرئاسي منه في بداية 2011 لتتابع
المعركة التي بدأها لولا لمكافحة التفاوت الاجتماعي في البرازيل.
في سنة 2016 تعرضت ديلما الى مؤامرة برلمانية – سياسية – دستورية عالية المستوى, بإشراف وتدبير امريكي بلا شك, أسفرت عن عزلها من منصبها كرئيسة للبلاد بتهمة “الفساد” ! ولكن اي فساد ؟! استغل خصومها مخالفة ارتكبتها في معرض اندفاعها في دعم الطبقة الفقيرة في البرازيل وذلك حين تجاوزت الضوابط الدستورية في تخصيص الميزانيات والحصول على الموافقات المطلوية من قبل البرلمان (بسبب مماطلات وتأخير متعمد) لأجل الانفاق على مشروع توفير المساكن الشعبية للفقراء والذي كانت تبنته. أي انه “فساد” من النوع الذي يشرّف المرء : لا سرقة ولا رشوة انما اندفاع زائد في مساعدة الفقراء دفعت ثمنه منصبها الرفيع.
*****
كتب غابرييل غارسيا ماركيز “في إحدى نوبات يأسها سمعت أمي تغمغم : لا بد للرب من أن يبيح السرقة أحياناً, من أجل إطعام الأطفال”. ولكن بمثل هؤلاء الزعماء الذين تنتجهم قارة ماركيز لن يضطر الفقراء للسرقة من اجل اطعام الاطفال.

*كاتب من الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى