الأزمة الفرنسية -الجزائرية.. أسبابها وتداعياتها

لاتزال صفحة الماضي المتمثلة بالحقبة الكولونيالية، وحرب التحرير الوطني، تُلْقِي بِإِرْثِهَا وحُمُولَتِهَا التاريخية الثقيلة على مستقبل العلاقات الفرنسية – الجزائرية. فالماضي الكولونيالي يَسْتَيقِظُ من سُبَاتِهِ ويطفو على السطح، وتهب رياحه عاتية كلما أرادت فرنسا والجزائر التقدم على طريق إبرام معاهدة صداقة بين البلدين.
في هذا الماضي الكولونيالي تحتل الجزائر مكانة خاصة، بسبب المآسي التاريخية التي حلت بالشعب الجزائري. ويعلمنا التاريخ أيضا، وفي الدرجة الأولى، أنَّ النظام الكولونيالي المتناقض جذريا مع المبادئ والقيم التي نادت بها الثورة الديمقراطية الفرنسية، قد أدى إلى ارتكاب مجازر بمئات آلاف الجزائريين، واقتلعهم من أرضهم، وشردهم، أو “clochardises”، إذا استعرنا التعبير الدقيق الذي استخدمه الباحث الفرنسي جرمان تيليون، في توصيفه لتلك المأساة التاريخية.
في الفترة الأخيرة ، تفجرت الأزمة بين فرنسا و الجزائر من جديد،وهذه المرَّة جاءت على خلفية تصريحات أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم الخميس 30أيلول/سبتمبر2021، خلال لقائه مع مجموعة من الطلبة الجزائريين ومزدوجي الجنسية وفرنسيين (من أبناء الأقدام السوداء :المعمرين السابقين في الجزائرLes pieds noirs) إذ قال ماكرون: إنَّ “الجزائر قامت بعد استقلالها في 1962 على إرث من الماضي، مستغلة ذكريات الحرب الدموية من أجل “الحفاظ على النظام السياسي العسكري”.
وأضاف ماكرون:إنّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رهين لنظام متحجّر، وهو محاصر بسبب هيمنة العسكر على السلطة وصناعة القرار: “نحن نرى النظام الجزائري متعباً والحراك أنهكه، لدي حوار جيد مع الرئيس تبون، لكنّي أرى أنه عالق في نظام صلب (متحجر) للغاية”، كما هدد ماكرون بإزعاج ما وصفه بـ”المجتمع الحاكم في الجزائر”، عبر منع التأشيرات على المسؤولين الجزائريين وأبنائهم وعدم تسهيل حياتهم (تنقلاتهم).
كما طعن ماكرون في وجود أمة جزائرية قبل دخول الاستعمار الفرنسي إلى البلاد عام 1830م، وتساءل مستنكرا: “هل كان هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟”.
وادعى ماكرون أنَّه “كان هناك استعمار قبل الاستعمار الفرنسي” للجزائر، في إشارة لفترة التواجد العثماني بين عامي 1514 و1830م.وقال مواصلا مزاعمه: “أنا مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماما الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وشرح أنَّ الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون”.وزعم الرئيس الفرنسي أنَّ تركيا “تقود عمليات تضليل ودعاية” ضد بلاده في مسألة كتابة تاريخ مرحلة ما قبل 1962.ودعا ماكرون إلى تبني بلاده لإنتاج فكري باللغتين العربية والأمازيغية؛ لمواجهة المواد التاريخية التي تدين فرنسا.
هذه الأزمة تأتي مع اقتراب الذكرى الستين لانتهاء الحرب الجزائرية، في وقت يسعى فيه الرئيس الفرنسي إلى إطلاق مصالحة بين الجزائر وفرنسا، وجعل مبدأ الاعتراف والمصارحة محوراً أساسياً لهذه المبادرة، لإنهاء كراهية ما تزال تورّث عن سنوات 1954-1962.
ردة الفعل الجزائرية
لم تتردَّدْ الرئاسة الجزائرية، عن إعلان موقفها من تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، فقد جاء في بيانها الصادر يوم السبت 2أكتوبر/تشرين الأول 2021، مايلي : “على خلفية التصريحات غير المفنّدة لعديد المصادر الفرنسية والمنسوبة للرئيس الفرنسي، ترفض الجزائر رفضاً قاطعاً أي تدخُّل في شؤونها الداخلية، وهو ما جاء في تلك التصريحات”.
وقال البيان: “أمام هذه التصريحات اللا مسؤولة قرّر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الاستدعاء الفوري لسفير الجزائر بفرنسا للتشاور”، مشيراً إلى أنَّ “تصريحات ماكرون حملت مساساً غير مقبول بذاكرة خمسة ملايين و630 ألف شهيد ضحوا بحياتهم منذ المقاومات الشجاعة ضد الاستعمار الفرنسي وخلال الثورة التحريرية المظفرة، وجاءت عشية إحياء الجزائريين لذكرى مجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961”.
وشجبت الرئاسة الجزائرية تصريحات ماكرون الخاصة ببناء النظام السياسي في الجزائر، واعتبرتها “تقديرات سطحية ومغرضة، ومفهوم هيمنة مبتذل للعلاقات بين الدول، ولا يمكن في أي حال من الأحوال، أن تكون متوافقة مع تمسك الجزائر الراسخ، بالمساواة السيادية للدول”.
وهددت بوقف التعاون مع باريس لتسوية ملف الذاكرة المشتركة، وأوضحت أنّ “هذا التدخل المؤسف”، من شأنه أن يخل بأي تعاون محتمل بين الجزائر وفرنسا بشأن الذاكرة، بسبب ما وصفته بـ”ترويج لنسخة تبريرية، للاستعمار على حساب النظرة التي قدمها تاريخ شرعية كفاحات التحرير الوطنية، في الوقت الذي لا يمكن لأحد أو لشيء، أن يغفر لقوات الاستعمار الفرنسي جرائم الإبادة الجماعية ضد الإنسانية والتي لا تسقط بالتقادم، ويجب أن لا تكون محل تلاعب بالوقائع وتأويلات تخفف من بشاعتها”.
أسباب هذه الأزمة
أولاً:تأتي مواقف الرئيس الفرنسي المعادية للجزائر وتاريخها وهويتها قبيل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، حيث يواجه ماكرون مترشحين ينتمون في معظمهم إلى اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان وانضاف إليها أيضا إيريك زمور، وهم يتنافسون في الهجوم على المسلمين الفرنسيين عامة وعلى المغاربيين والجزائريين بالأخص. ويُعّدُّ اليمين المتطرف من أشد الأطراف السياسية الفرنسية عداءً للمهاجرين ، و للمسلمين في فرنسا.
ثانيًا:كما تتصدر حرب الذاكرات بين الجزائر و فرنسا، حول الماضي الكولونيالي، إذ لا تزال الجزائر متمسكةٌ بحلِّ أربعةِ ملفاتٍ عالقةٍ، ولا تزال مطروحةً على الجانب الفرنسي، تتعلق، بالإضافة إلى قضية المفقودين، في استرجاع كامل رُفَاتِ شهداء المقاومة الشعبية، إذ استرجعت الجزائر 24 من رفات وجماجم المقاومين وقادة المقاومة الجزائرية في العام الماضي ،كدفعة أولى من ضمن 518 جمجمة جزائرية ما زالت تتواجد في متحف بباريس، بينما تشتغل لجان علمية مشتركة في الوقت الحالي على تحديد ما تبقى منها، تمهيدا لاسترجاعها واستعادتها لدفنها في الجزائر.
ثالثًا:ويوجد بين الملفات الأربعة ملف الأرشيف الوطني الذي تطالب الجزائر باستعادته من باريس. فقد قال مدير الأرشيف الجزائري والمستشار الخاص للرئيس الجزائري عبد المجيد شيخي، إنَّ الجزائِرَ ستستهدف في المرحلة المقبلة استرجاع أرشيفها المتواجد بفرنسا، والجزائر “لن تتراجع أبداً عن مطالبتها باسترجاع كل الأرشيف الوطني الذي يؤرخ لعدة حقب من تاريخنا، والذي تم ترحيله إلى فرنسا”. واتهم شيخي الطرف الفرنسي بالمماطلة وعدم الجدية الكافية لطي هذا الملف نهائياً، لافتاً إلى أنَّ “فرنسا قامت في 2006 بسن قانون يقضي بإدراج الأرشيف كجزء من الأملاك العمومية، لتعطيل تسليم الجزائر أرشيفها الخاص”.
رابعًا:وَتُطَالِبُ الْجَزَائِرُ فِرَنْسَا بِتَعْوِيضَاتٍ عَنْ ضَحَايَا الْأَلْغَامِ الَّتِي زَرَعَهَا الْاِسْتِعْمَارَ الْفَرَنْسِيَّ، بَعْدَ أَنْ سَلَّمَتْ تَقْريرًا لِمُنَظَّمَةِ الْأُمَمِ الْمُتَّحِدَةِ حَوْلَ جُهُودِ نَزْعِ الْأَلْغَامِ الْأَرْضِيَّةِ الْمَوْرُوثَةِ عَنِ الْاِسْتِعْمَارِ الْفَرَنْسِيِّ، تَضَمَّنَّ كَشْفًا بِأَعْدَادِ ضَحَايَا هَذِهِ الْأَلْغَامِ مُنْذُ زَرْعِهَا قُبَيْلَ اِسْتِقْلَالِ الْبِلَادِ فِي الخمسينات مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِينِ، وَالَّذِي يَفُوقُ السَّبْعَة آلَاَفٍ قَتِيلٍ وَعَشَرَاتِ الْمَعْطُوبِينَ.
وكشف التقرير السنوي للجزائر لعام 2019، أنّ الألغام التي زرعها الاستعمار الفرنسي،وما زالت تقتل الضحايا حتى الآن، خلَّفَتْ في مجموعها 7300 ضحية، بينهم 4830 ضحية مدنية جزائرية خلال ثورة التحرير الوطني،و2470 ضحية بعد الاستقلال، إضافة إلى مئات المعطوبين الذين بُتِرَتْ أَطْرَافُهُمْ أو إعاقات لا تقل عن نسبة 20 بالمائة.
و​منذ الاستقلال باشرت قوات الجيش الجزائري عمليات كشف وتدمير كل الألغام، حيث تم كشف وتدمير حوالى 8.8 ملايين لغم، وتطهير 42 مليون هكتار من الأراضي، والتي سيعاد استغلالها في الزراعة والأنشطة الاقتصادية والتنمية المحلية، بعدما ظلت لعقود ممنوعة من الاستغلال بسبب الألغام المزروعة فيها، حيث تم إطلاق حملات للتشجير فيها.وكلف تفجير هذه الألغام الدولة الجزائرية أعباء مالية، بينها التكفل الصحي بالضحايا وعائلاتهم، ومنحهم منحا مالية لمساعدتهم على مواجهة أعباء الحياة.
وتعود هذه الألغام إلى فترة الاستعمار الفرنسي، حيث لجأت سلطات الاستعمار إلى إقامة أسلاك شائكة وحقول من الألغام على الحدود الجزائرية الشرقية والغربية بطول 1710 كيلومترات، في الفترة بين 1956 و1962، لمنع تسلل الثوار الجزائريين من تونس والمغرب، وإدخال السلاح والذخيرة لدعم الثورة الجزائرية.
وأقامت السلطات الفرنسية خط “موريس”، نسبة إلى وزير الدفاع الفرنسي السابق آندريه موريس، على الحدود الجزائرية الغربية مع المغرب، على امتداد 700 كيلومتر، ووضع تحت مراقبة دائمة اعتبارا من شهر يوليو/ تموز 1957، عبر زرع حقول من الألغام، وتم تعزيز هذا الخط بخط “شال” نسبة إلى الجنرال موريس شال، على الحدود الشرقية مع تونس وليبيا ، ويمتد على طول الحدود التونسية (460 كيلومترا) بين سنة 1958 و1960.
وتطالب الجزائر أيضًا، وفي السياق ذاته بتعويض ضحايا التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في منطقة رقان جنوبي الجزائر، بين عام1958 وحتى ما بعد الاستقلال، إذ  مازالت آثار الإشعاعات النووية قائمة حتى الآن، وتسببت في تلوث الهواء والمياه، وكذا في ولادات مشوهة وتشوهات خلقية وسرطانات وأمراض عيون. ووثق البروفيسور العبودي في كتابه “يرابيع رقان.. جرائم فرنسا النووية في الصحراء الجزائرية”، الذي صدر قبل سنوات، آثار ما وصفه بـ”المحرقة النووية الفرنسية”، مشيراً إلى أن مجموع ضحايا هذه التفجيرات على امتداد ثلاثة أجيال، قد يصل إلى 150 ألف شخص.
خامسًا: مطالبة الجزائر الدولة الفرنسية بتقديم اعتذار رسمي للجزائريين وتعويضات مادية عن الأضرار التي لحقت الأمة الجزائرية نتيجة الا ستعمار الفرنسي ، حيث وطرحت أول مبادرة لسن قانون لتجريم الاستعمار في البرلمان الجزائري عام 1984، لكن المشروع حفظ حتى عام 2001، حيث قام النائب في البرلمان محمد أرزقي فراد بتجديد طرح المشروع مجدداً، لكنَّه أخفق في تمريره، وفي العهدة النيابية بين 2007 و2012، أعادت كتلة من النواب، يتصدرهم النائب موسى عبدي، طرح المشروع وجمع توقيعات بلغت 114 نائباً، رداً على إقرار الجمعية الوطنية(البرلمان الفرنسي)عام 2005، لقانون يمجّد الاستعمار، واعتبار أنَّ فرنسا قامت بنقل الحضارة إلى الجزائر والشعوب المستعمرة، ويصفه بالعمل الحضاري. لكن مكتب البرلمان برئاسة عبد العزيز زياري، رفض المشروع بضغط من الرئاسة والرئيس عبد العزيز بوتفليقة ، الذي كان يعتبر أنَّ القضايا المتعلقة بالسياسات الخارجية والعلاقات مع الدول من صميم صلاحياته وحده.
سادسًا:ويشكل ملف المهاجرين،موضوع خلافٍ بين الجزائر وفرنسا ، نظرًا لوجود المهاجرين غير الشرعيين الذين تزيد أعدادهم عن 200 ألف، ممن لا يملكون الوثائق، وهم يركزون على فرنسا التي كانت القوة الاستعمارية الرئيسية في الجزائر.. وأيضا لأسباب اجتماعية ولغوية، وقد اقترح الفرنسيون مؤخرا ترحيل ما يزيد 8 آلاف مهاجر جزائري صنفوهم بأنَّهم غير شرعيين وخطيرين، لكنَّ السلطات الجزائرية اشترطت أن تقبل فرنسا بتسليم معارضين جزائريين، وهذا الشرط لم يقبله الفرنسيون، لأنَّهم يعرفون تبعات ذلك، فضلا عن أنَّ قوانينهم تمنع من تسليم المعارضين.. لذلك رفضت الحكومة الجزائرية استقبال هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين .. فردَّ الفرنسيون بتخفيض أعداد التأشيرة إلى نسبة 50%. (الآن 62 ألف تأشيرة سنويا”).
سابعًا:وهناك أخيرًا موضوع مالي،الذي يُعَدُّ موقعًا استراتيجيًا في غاية من الأهمية لمصالح الدولة الفرنسية في منطقة بلدان الساحل وجنوب الصحراء الجزائرية، حيث أن جنوب مالي مرتبط بإفريقيا الغربية،وهي مجاورة للنيجر وموريتانيا والسينغال وغينيا والكوت ديفوار وبوركينافاسو، وليست بعيدة عن دول غرب إفريقيا الأخرى.. وهذه الدول حولها صراع كبير، فمن النيجر مثلا تستخرج فرنسا نصف احتياجاتها العسكرية والمدنية من  اليورانيوم.
الآن يُخاضُ صراعٌ دوليٌّ حول النيجر، فهناك شركة (أريفا) الفرنسية، التي تحتكر استثمار مناجم اليورانيوم في النيجر، وهي بالنسبة لفرنسا مثل الطائرات والبوارج العسكرية وأهميتها أكبر، لأنَّها هي من تأتي باليورانيوم للاستخدام المدني والعسكري..ولا تريد فرنسا من ينافسها في مستعمراتها في منطقة إفريقيا الغربية،نظرًا لما تحتويه هذه البلدان من المعادن النفيسة يعتبر الذهب أقلها.. وأهميتها أنَّها تدخل في صناعات كثيرة منها بما فيها الأجهزة الالكترونية.
ويأتي هجوم الرئيس ماكرون على النظام الجزائري ، بسبب الزيارة التي قام بها اللواء سعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الجزائري إلى موسكو ومعه بعض الجنرالات الذين هم أقرب إلى روسيا، خصوصا أنَّ شنقريحة مقربٌ جدًّا من الروس ،على نقيض الجنرال محمد قايدي ، الذي يُعَدُّ أحد أكبر الجنرالات النافذين في الجيش والمقرب من فرنسا و أمريكا.
ويرى الرئيس الفرنسي أنَّ اللواء سعيد شنقريحة،هو من عبَّد الطريق لوصول ميليشيات فاغنر الروسية إلى مالي .وكانت روسيا لعبت مع الأتراك ،رغم الخصومة بينهما، دورًا رئيسيًا في طرد الفرنسيين من ليبيا، كما طرد الروس الفرنسيين من إفريقيا الوسطى.. وهذا التمدد الأخير للروس في مالي اعْتُبِرَ كارثة في فرنسا.
وبما أنَّ موقع مالي يُعَدُّ استراتيجيًا ،فقد اكتشفت فرنسا أنَّ جزءًا داخل النظام الجزائري بقيادة شنقريحة هو الذي أسهم في إقناع العسكر الانقلابيين الماليين باستقدام الفاغنر من روسيا، الأمر الذي سيخفف من الضغط الفرنسي على الجيش الجزائري الذي سيتذرع بعدم رغبته بالاحتكاك بعناصر عسكرية لدول أخرى.
وفي ضوء هذه الأزمة،قرَّر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إغلاق المجال الجوي الجزائري أمام جميع الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة إلى منطقة الساحل في إطار عملية “برخان”. ولا تقتصر الخدمات التي تقدمها الجزائر لعملية “برخان” على فتح مجالها الجوي أمام المقاتلات الفرنسية فقط، بل إنَّها تقوم كذلك بتزويد القوات الفرنسية بالوقود في شمال مالي، وفق ما تؤكد مصادر عسكرية فرنسية لـصحيفة “العربي الجديد”.
وهذا الدعم اللوجستي هو دور أهم من فتح الأجواء أمام المقاتلات الفرنسية. والقلق الحقيقي اليوم بات من إمكان حدوث تصعيد يحمل الجزائر على اتخاذ قرار بتعليق عمليات تزويد القوات الفرنسية بالوقود.وتضطلع الجزائر بدور كبير خلف الكواليس في العمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل، إذ يعتبر استقرار المنطقة عاملاً مهماً بالنسبة إلى الجزائر، التي لطالما لعبت دور الوسيط في اتفاقيات عديدة بين مالي والجماعات الجهادية المسلحة.
غير أنَّ السلطات الفرنسية تحاول التقليل من تبعات القرار الجزائري، فهو “ليس له تأثير كبير على العمليات”، وفق ما قال المتحدث باسم هيئة الأركان العسكرية الفرنسية، الكولونيل باسكال إياني، يوم الأحد3أكتوبر2021. وبحسب هيئة الأركان العسكرية الفرنسية، فإن الطلعات الجوية التي تنفذها المقاتلات الفرنسية في منطقة الساحل حالياً، تنطلق بشكل أساسي من النيجر، وبذلك لا تدخل الأجواء الجزائرية في إطار هذه العمليات، التي تشمل مثلث مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي منطقة لا تحتاج المقاتلات الفرنسية إلى استخدام الأجواء الجزائرية من أجل إتمام مهامها فيها.
مستقبل العلاقات الفرنسية- الجزائرية
يشكل ملف الذاكرة المطروح بين الجزائر والقوة الاستعمارية السابقة فرنسا عاملاً قوِّيًا يتحكم في منحى العلاقات بين البلدين، أحد العناصر التي كانت تُعكِّرُ الأجواء السياسية بين الجزائر وباريس منذ الاستقلال قبل 59 عاماً. وتطالب الجزائر منذ الاستقلال باعتراف فرنسي رسمي عن جرائم الاستعمار بين 1830 و1962، لكنَّ باريس تُؤَكِّدُ في كلِ مرَّةٍ أنَّ الأبناءَ “لا يمكن أن يعتذروا عما اقترفه الآباء”، وتدعو إلى طَيِّ الْمَلَّفِ والتَطَلُّعِ لِلْمُسْتَقْبَلِ الْمُشْتَرَكِ ، حيث كانت قيادات الصفِّ الأولِ في منظومة الحكم الفرنسي، ومن ورائها بعض القادة العسكريين، تقف ضد كل محاولة لفتح مَلَّفِ الذاكرةِ الذي يَكْشِفُ عَارَ هؤلاءِ بالجزائر على امتداد 132 عاماً من الجرائمِ البشعةِ التي ارْتُكِبَتْ بِحَقِّ الشَعْبِ الْجَزَائِرِي، وعمليات الْإِبَادَةِ الْمُمَنْهجَةِ والنهب التي طاولت خيرات هذا الوطن المخضب بدماء الشهداء.
يَرَى الْمُتَابِعُونَ لِمَلَفِّ الْعَلَاَّقَاتِ الْفِرَنْسِيَّةِ -الْجَزَائِرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَرْبِ الذَّاكِرَةِ التَّارِيخِيَّةِ، أَنَّ صُعُودَ الرئيس ماكرون إلى السلطة فِي باريس لم يُغيِّرْ أيَّ شيْءٍ في دَفَّةِ الْعَلَاَّقَاتِ مَعَ الْجَزَائِرِ، لَا سِيَمَا فِي الْعَلَاَّقَةِ بِمَلَفِّ الْاِسْتِعْمَارِ.فَقَدْ شَهِدَتِ الْعَلَاَّقَاتُ الْفَرَنْسِيَّةُ – الْجَزَائِرِيَّةُ تَوَتُّرَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ بَعْدَ اِنْدِلَاعِ الْحِرَاكِ الشَّعْبِيِّ الْجَزَائِرِيِّ فِي فِبْرَايرِ 2019، بِسَبَبِ الْحَمَلَاتِ الْفَرَنْسِيَّةِ غَيْرَ الرَّسْمِيَّةِ فِي الْإعْلَاَمِ، وَالرَّسْمِيَّةِ أَحَيَّانًا، وَتَطَوُّرَاتِ الْمَلَفِّ اللِّيبِيِّ، وَاِخْتِلَاَفِ وِجْهَاتِ النَّظَرِ بِشَأْنِ الْأَزْمَةِ اللِّيبِيَّةِ، وَالْعَامِلِ التُرْكِيِّ وَتَقَارُبِهِ مَعَ رُؤْيَةِ الْجَزَائِرِ فِي الشِّقِّ السِّيَاسِيِّ، بِخِلَاَفِ الشِّقِّ الْعَسْكَرِيِّ، كُلَّ ذَلِكَ أَدَّى إِلَى خَشْيَةِ فِرَنْسَا مِنْ فُقْدَانِ التَّوَازُنِ فِي طَيِّ مَلَفِّ الذَّاكِرَةِ.
في ضوء أزمة جائحة كورونا، وتفاقم الأزمة الليبية في المتوسط، ودخول منافسين كبار إلى السوق الجزائرية، وحصول الانقلاب العسكري في مالي ،وجدت القيادة الفرنسية أنَّها بصددِ خسارة مصالحها في الجزائر، حيث تواجه منافسة من شركاء اقتصاديين، كألمانيا والصين التي أصبحت الشريك الاقتصادي الأول للجزائر بدلاً من فرنسا، وتركيا التي أزاحت فرنسا وباتت المستثمر الأول في الجزائر.
خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة: يَحْتَاجُ طَيَّ صَفْحَةِ الماضي الْكُولُونْيَالِي،إِلَى شَجَاعَة سِيَاسِيَّةٍ وَأدَبِيَّةٍ وَأخْلَاقِيَّةٍ عَالِيَةٍ،مِنَ الْجَانِبِينِ الْفِرَنْسِيَّ وَ الْجَزَائِرِيِّ، فَالتَّارِيخُ لَا يَطْوِي صَفْحَاتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.كَمَا أَنَّهُ مِنَ الصَّعْبِ جِدًّا تَجَاوُزِ تَارِيخِ الذَّاكِرَةِ لِشَعْبٍ بِأَكْمَلِهِ، حَتَّى وَإِنْ أُسْهَمَ الْمُؤَرِّخُونَ فِي رَدْمِ الْهُوَّةِ الْمَحْفُورَةِ بَيْنَ فِرَنْسَا وَ الْجَزَائرَ.مِنْ هُنَا، فَإِنَّ مَوَاقِفَ الرَّئِيسِ الْفِرَنْسِيِّ مَاكِرُونَ الأخيرة التي فجرت الأزمة مع الْجَزَائِرِ، تُعَدُّ معاديةً للدولة الوطنية الجزائرية ،حين لجأ ماكرون إلى هذه التصريحات الشعبوية الرخيصة وغير المجدية ،بسبب الانتخابات التي بدأت أجواؤها تخيم على فرنسا.
من المفيد لماكرون اتخاذ خطوات صحيحة لكسب ثقة شعبه بدلاً من اللجوء إلى مثل هذه الأساليب الشعبوية، كما يجب عليه أن يتحلّى بالشجاعة السياسية و التاريخية لكي يسير في الطريق الصحيحة ، التي تقتضي من فِرَنْسَا أنْ تُقَدِّمَ اِعْتِذَارًا وَاضِحًا وصريحًا لِلشَّعْبِ الْجَزَائِرِيِّ، حَتَّى يَسْتَطِيعَ تَجَاوُزَ تَارِيخِ الْألَمِ.وَنَسْتَطِيعُ حِينَهَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ هُنَاكَ تَحَوُّلًا قَدْ حَدَثَ فِي الْمَوْقِفِ الرَّسَمِيِّ الْفَرْنَسِيِّ، بِمَا يَجْعَلُ عَلاقَات فِرَنْسَا مَعَ الْجَزَائِرِ تَنْتَقِلُ مِنْ عُقْدَةِ الْهَيْمَنَةِ إِلَى مَجَالِ الشَّرِيكِ الْفَاعِلِ فِي مَنْظُورِ الْعَلَاقَاتِ الْإِقْلِيمِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ لَمَا بَعْدَ الْحِرَاكِ الشَّعْبِيِّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى