الطريق الثالثة لإنقاذ تونس من براثن الفساد والشعبوية

بعد مرور شهرين من اتخاذ الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ قراراته الاستثنائية في 25تموز/يوليو2021،بالسيطرة الكاملة على السلطة التنفيذية عبر إقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي ،وتجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نواب البرلمان ،وصفها خصومه من أحزاب المنظومة الفاسدة التي حكمت تونس طيلة العشرية السوداء(2011-2021) بأنَّها انقلاب، لا تزال الشكوك الكبيرة و الغموض يحيطان بأسلوب الرئيس سعيَّدْ في معالجة الأزمة التونسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة والبنيوية ، لعدم وجود خارطة طريق واضحة.
في الخطاب الذي ألقاه الرئيس سعيَّدْ من مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية ليل الاثنين-الثلاثاء 20سبتمبر/ أيلول2021، أعلن أنّه سيكلّف رئيس حكومة جديداً وفقا “لأحكام انتقالية” لكنّه سيبقي على الإجراءات الاستثنائية التي أقرّها منذ حوالي شهرين وجمّد بموجبها عمل السلطة التشريعية ومنح نفسه صلاحيات واسعة.
وكانت رئاسة الجمهورية التونسية، أصدرت ظهر الأربعاء22سبتمبر 2021، بيانًا قالت فيه إنَّ الرئيس قيس سعيَّدْ، أصدر أمرًا رئاسيًا يتعلق بتدابير استثنائية، من بينها: “مواصلة تعليق جميع اختصاصات مجلس نواب الشعب، ومواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضائه، ووضع حد لكافة المنح والامتيازات المسندة لرئيس مجلس نواب الشعب وأعضائه”، وكذلك “التدابير الخاصة بممارسة السلطة التشريعية، والتدابير الخاصة بممارسة السلطة التنفيذية”.
وقرر سعيّد “مواصلة العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين”.
يتضح من خلال هذه القرارت الاستثنائية أنَّ الرئيس سعيَّدْ متجهٌ إلى إحداث تغييرات في السلطة التنفيذية والتشريعية ،و صياغة وإصدار قانون انتخابي جديد في الأيام المقبلة، قبل الإعلان عن حلِّ البرلمان رسميًا،وإحداثِ تعديلٍ أيضًا في الدستور بشكل عميق يشمل البابين التاليين: الأول هو باب السلطة التنفيذية والثاني باب السلطة التشريعية، علمًا أن الدستور التونسي يتكون من سبعة أبواب، ومواصلة العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين،وإعلانِ تنظيمٍ مؤقتٍ للسلطات العمومية(هو بمنزلة دستور صغير) يمارس من خلاله الرئيس سعيَّدْ صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية.ويستند الرئيس سعيَّدْ في كل هذه القرارت الاستثنائية التي يتخذها إلى شرعيتين، الأولى الشرعية الدستورية، والثانية المشروعية الشعبية المتمثلة في مطالب الشعب والمزاج العام، المؤيد له ، إذْ إِنَّ أغلبية المجتمع التونسي تؤيد الاجراءات التي وقع إتخاذها ضمن الفصل80 من الدستور.
الرئيس سعيد والتنظيم المؤقت للسلطات العمومية أو الدستور الصغير
نشرت الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية، تفاصيل  أمر رئاسي عدد 117 لسنة 2021 مؤرخ بتاريخ مساء الأربعاء22 سبتمبر 2021 المتعلق  بالتدابير الاستثنائية التي أعلن عنها  الرئيس سعيَّدْ في وقتٍ سابقٍ، هي بمنزلة التنظيم المؤقت للسلطات العمومية، أو الدستور الصغير.
ونص القرار في باب السلطة التنفيذية على” ممارسة رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة”.ويتولى “رئيس الجمهورية تمثيل الدولة ويضبط سياستها العامة واختياراتها الأساسية”.
– رئيس الجمهورية يرأس مجلس الوزراء وله أن يفوض لرئيس الحكومة ترؤسه.
– يسهر رئيس الجمهورية على تنفيذ القوانين ويمارس السلطة الترتيبية العامة وله أن يفوض كامل هذه السلطة أو جزءا منها لرئيس الحكومة.
ويمارس رئيس الجمهورية خاصة الوظائف التالية:
القيادة العليا للقوات المسلحة،وإشهار الحرب وإبرام السلم بعد مداولة مجلس الوزراء،و إحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها،وإحداث وتعديل وحذف المؤسسات والمنشآت العمومية والمصالح الإدارية وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها، وإقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة أو البت في استقالته،و اعتماد الدبلوماسيين للدولة في الخارج وقبول اعتماد ممثلي الدول الأجنبية لديه،والتعيين والإعفاء في جميع الوظائف العليا، والمصادقة على المعاهدات،و العفو الخاص.
كما ينص الأمر الرئاسي، على أنه ”لرئيس الجمهورية إذا تعذّر عليه القيام بمهامه بصفة مؤقتة أن يفوض سلطاته إلى رئيس الحكومة بمقتضى أمر رئاسي.”وأثناء مدة هذا التعذّر الوقتي الحاصل لرئيس الجمهورية تبقى الحكومة قائمة إلى أن يزول هذا التعذّر.
وعند شغور منصب رئيس الجمهورية بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العجز التّام يتولى فورا رئيس الحكومة القيام بمهام رئاسة الجمهورية إلى غاية تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة ويؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الوزراء.
وإذا حصل لرئيس الحكومة في نفس الوقت مانع لسبب من الأسباب المشار إليها بالفقرة السابقة يتولى وزير العدل بصفة وقتية القيام بمهام رئاسة الجمهورية.وفي هاتين الحالتين الأخيرتين تُجرى انتخابات لاختيار رئيس الجمهورية في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما من تاريخ الشغور.
يؤدي القائم بمهام رئاسة الجمهورية اليمين المنصوص عليها بالفصل 76 من الدستور.
ولرئيس الجمهورية أن يعرض على الاستفتاء أي مشروع مرسوم. وإذا ما أفضى الاستفتاء إلى المصادقة على المشروع فإن رئيس الجمهورية يصدره في أجل لا يتجاوز خمسة عشر يوما من تاريخ الإعلان عن نتائج الاستفتاء.
الحكومة:
تتكون الحكومة من رئيس ووزراء وكتاب دولة يعينهم رئيس الجمهورية.يؤدي رئيس الحكومة وأعضاؤها أمام رئيس الجمهورية اليمين المنصوص عليها بالفقرة الأخيرة من الفصل 89 من الدستور.وتسهر الحكومة على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية.فالحكومة مسؤولة عن تصرفها أمام رئيس الجمهورية. ويسيّر رئيس الحكومة الحكومة وينسق أعمالها ويتصرف في دواليب الإدارة لتنفيذ التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية، وينوب عند الاقتضاء رئيس الجمهورية في رئاسة مجلس الوزراء أو أي مجلس آخر.
السلطة التشريعية:
تنص التدابير الخاصة بممارسة السلطة التشريعية، على أنه ”يتم إصدار النصوص ذات الصبغة التشريعية في شكل مراسيم )لا تقبل الطعن بالإلغاء)، يختمها رئيس الجمهورية ويأذن بنشرها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، وذلك بعد مداولة مجلس الوزراء.
كما ينص الأمر الرئاسي، أنَّه لا يجوز عند سن المراسيم النيل من مكتسبات حقوق الإنسان وحُرِّياتِهِ المضمونة بالمنظومة القانونية الوطنية والدولية.وتتخذ شكل مراسيم، النصوص المتعلقة بـ:  الموافقة على المعاهدات. تنظيم العدالة والقضاء. تنظيم الإعلام والصحافة والنشر. تنظيم الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات والهيئات المهنية وتمويلها. تنظيم الجيش الوطني- تنظيم قوات الأمن الداخلي والديوانة. القانون الانتخابي. الحريات وحقوق الإنسان- الأحوال الشخصية. الأساليب العامة لتطبيق الدستور. الواجبات الأساسية للمواطنة. السلطة المحلية. تنظيم الهيئات الدستورية. القانون الأساسي للميزانية. إحداث أصناف المؤسسات والمنشآت العمومية. الجنسية. الالتزامات المدنية والتجارية. الإجراءات أمام مختلف أصناف المحاكم.ضبط الجنايات والجنح والعقوبات المنطبقة عليها وكذلك المخالفات المستوجبة لعقوبة سالبة للحرية. العفو العام. ضبط قاعدة الأداءات والمساهمات ونسبها وإجراءات استخلاصها. نظام إصدار العملة.القروض والتعهدات المالية للدولة. ضبط الوظائف العليا. التصريح بالمكاسب. الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين. تنظيم المصادقة على المعاهدات. قوانين المالية وغلق الميزانية والمصادقة على مخططات التنمية. المبادئ الأساسية لنظام الملكية والحقوق العينية والتعليم والبحث العلمي والثقافة والصحة العمومية والبيئة والتهيئة الترابية والعمرانية والطاقة وقانون الشغل والضمان الاجتماعي.
وحسب الأمر الرئاسي، تدخل في مجال السلطة الترتيبية العامة المواد التي لا تدخل في المجالات المشار إليها أعلاه وتصدر في شكل أوامر رئاسية. كما ينص الأمر الرئاسي، على أن ”مشاريع المراسيم والأوامر الرئاسية ذات الصبغة الترتيبية يتم التداول فيها في مجلس الوزراء، وعلى أن ”الأوامر الرئاسية ذات الصبغة الترتيبية يتم تأشيرها من رئيس الحكومة وعضو الحكومة المعني”.
ردود أفعال خصوم سَعَيَّدْ واتهامه بالإنقلاب الصريح و الواضح
أحدثت الإجراءات الاستثنائية للرئيس قيس سعيَّدْ زلزالاً عنيفًاداخل الأحزاب التونسية، لا سيما منها التي كانت حاكمة، مثل حركة النهضة، وحزب قلب تونس، وتنظيم الكرامة السلفي،أو الأحزاب المستولدة من حزب نداء تونس، حيث ضرب الرئيس سعيّد الأسس الواقعية لهذه الأحزاب، التي تشكلت منها الحكومات المتعاقبة التي تداولت فيها النخب على السلطة ديمقراطيا (الترويكا، نداء تونس، النهضة.. إلخ) ،والتي أخفقت في مقاومة الفساد،بل إنَّها تحالفت مع مافيات ولوبيات الفساد،الأمر الذي جعل فئات كبيرة من الشعب التونسي تعتقد أن هذه الديمقراطية الناشئة في تونس هي ديمقراطية فاسدة.
فقد أكدت حركة “النهضة” رفضها القطعي لتعليق العمل بدستور الجمهورية التونسية، الذي وصفته بأنه “الضامن للحقوق والحريات والتعددية والتداول السلمي على السلطة واستقلال القضاء”، ودعت الرئيس سعيد إلى العودة عن هذا الإجراء الخطير والمدان حالاً.
من جهتها، أعلنت كتلة “قلب تونس” رفضها “تعطيل المسار الديمقراطي وتقويض أركانه”، مستنكرة “احتكار السلطات التنفيذية والتشريعية وفتح مجال للتدخل في السلطة القضائية والإعلام وتنظيم المنظمات والجمعيات في محاولة لتركيز نظام دكتاتوري استبدادي يقوض مكتسبات ثورة الحرية والكرامة”.
بقدر ما أحدثت الإجراءات الاستثنائية للرئيس قيس سعيَّدْ انقسامات داخلية عند أحزاب المنظومة الفاسدة ،بقدر ما كانت لها تداعيات واضحة على أحزاب المعارضة، ففرقت بوضوح تحالف “الكتلة الديمقراطية” البرلمانية (38 عضواً) التي انقسمت إلى شقين، فانحازت حركة “الشعب” (16 نائباً) إلى الرئيس سعيّدْ، معتبرة أنّ قراراته تدخل في سياق تصحيح المسار الديمقراطي.
فيما انحازحزب”التيار الديمقراطي” لمعارضة هذا المسار وعبّر عن اختلافه مع تأويل الرئيس للفصل 80 من الدستور، معلناً رفضه ما ترتب عليه من قرارات وإجراءات خارج الدستور. ولم يسلم “التيار الديمقراطي” (22 نائبًا) من انقسامات داخلية، إذ برز في داخله تياران أحدهما يتمسك بالشرعية القانونية والدستورية، وآخر يبحث عن الركوب في سفينة الرابحين بمنطق الشعبوية وراء أغلبية الجماهير،لا سيما القيادية فيه سامية عبو التي قالت :أنّ قرارات سعيّد دستورية وتاريخية وجاءت لاستعادة البلاد من الفاسدين. وشاطر عبو الرأي عدد من النواب والقيادات، على غرار النائبة منيرة العياري.
ومؤخرًا شكل “التيار الديمقراطي” مع أحزاب أخرى غير ممثلة في البرلمان مثل: التكتل، والجمهوري، وآفاق تونس(نائبان)، جبهة حزبية موحدة ضد انقلاب الرئيس سعيَّدْ على الدستور حسب وجهة نظرها.ونشرت هذه الجبهة بيانا جاء فيه، إنَّ الجبهة جاءت “على إثر إصدار رئيس الجمهورية أمرًا رئاسيًا يعلق فعليًا الدستور ويلغي كل المؤسسات التعديلية بما في ذلك الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين ويمنع الطعن في المراسيم ويكرس الانفراد المطلق بالسلطة ويمهد فعليا لدكتاتورية تعيدنا عقودا إلى الوراء” .
أمااليسار التونسي ، فهو غير ممثل في البرلمان،ومنقسم بين تنظيماته الصغيرة التي تعيش التمزق والتشتت لأنّها تطغى عليها الزعاماتية من دون منطق ديمقراطي وإدارة عقلانية تشاركية.وكان أبرز قوة في هذا اليسار انتتقدت الإجراءات الاستثنائية للرئيس قيس سعيَّدْ، هو حزب العمال، الذي أعلن في بيان له ، عن رفضه للخطوة الانقلابية التي أقدم عليها الرئيس سعيد،  ودعا الحزب كل القوى السياسية والاجتماعية والمدنية التقدمية والديمقراطية إلى العمل المشترك لمواجهة هذا المسار ووضع حد للتّلاعب الجنوني والخطير بمصير الشعب وبالبلاد.
في شَعْبَوِيَّةِ الرئيس سعيَّدْ وتغيير النظام السياسي
قبل وصوله إلى قصر قرطاج، شكّك الرئيس قيس سعيّد في طبيعة النظام السياسي التونسي شبه البرلماني وشبه الرئاسي، والذي اعتبره “شاذًا وهجينًا”، كما شكَّك سعيّد أيضًا -بوضوحٍ وصراحة- في جدوى الأحزاب السياسية الرسمية ومجلس نواب الشعب المُنتخَب. وطالب بـ “قلب هرم السلطة”، داعياً إلى انتخاب مجالس شعبية محلية، تتمثَّل مهمتها المُقدَّسة في الحديث نيابةً عن “الإرادة الشعبية”.
ترى النخب الفكرية والسياسية التونسية أنَّ هذا الخطاب السياسي للرئيس قيس سعيَّدْ المناهض للبرلمان، وللأحزاب السياسية،يُعَدُّ جزءًا من الظاهرة الشَعْبَوِيَّة التي برزت في القرن التاسع عشر، ثم ظهرت من جديد عقب أزمة الرأسمالية العالمية في سنوات (1929-1933)، والتي اتفق علماء الاجتماع على تسميتها بتسميات مختلفة، نازية أو فاشية أو غير ذلك، بل إنَّ هذه الظاهرة لها امتداد أعمق في التاريخ، إذا تم النظر إليها بكونها ليست إيديولوجية مغلقة، بقدر ما هي ظواهر أفرزتها الأزمات، وتتمتع بمواصفات سياسية وخطابية مشتركة.
وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أضحت الشعبوية أهم توجه مؤطر للتيارات السياسية في العالم المعاصر، فقد تمكن هذا التيار من البروز في بريطانيا من خلال طرح مسألة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وشكل انتخاب الرئيس الأمريكي السابق ترامب إيذانًا بتمكن هذا التيار من دوائر الحكم في البيت الأبيض، كما أشرت تحولات السياسة والاقتراعات الانتخابية التي جرت في أوروبا عن صعود نجم التيارات الشَعْبًويَّةِ سواء في المجر أو التشيك أو النمسا أو في إيطاليا، ولم يستثن العالم الثالث نفسه من هذه الظاهرة،إِذْ يُعَدُّ الرئيس قيس سعيَّدْ الذي انتخب في سنة 2019،جزءًا من هذه الظاهرة .
ويتفق علماء الاجتماع و السياسة أنَّ الشَعْبَوِيَّةَ، شَعْبَوِيَّات،تختلف عن بعضها بحسب الظروف السياسية و التاريخية التي تشكلت فيها، فالشَعْبَوِيِّة التي ظهرت في القرن التاسع عشر أو بعده، تختلف عن شعبوية النازية أو الفاشية التي ظهرت في القرن العشرين ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، كما أنَّها ليست نتاج إيديولوجية واحدة، حتى يمكن الإمساك بحدودها وتعريفها وبسط خصائصها الموحدة.
فالشَعْبَوِيَّةُ بقدر ما تنبثق عن اليمين، تخرج أيضا من اليسار، بل تخرج من اليمين المتطرف، وأيضا من يمين اليمين ويمين الوسط، وكذلك الأمر بالنسبة لشَعْبَوِيَّةِ اليسار، بل إنَّ الشَعْبَوِيَّةَ كما أشار إلى ذلك بحث فرانسوا بورغا لم تسلم منه حتى الظاهرة الإسلاموية، مما يجعلنا في المحصلة أمام ظواهر متعددة بممارسات سياسية متشابهة وخصائص خطابية متقاربة، دون أن يعني ذلك أنها تشكل عقيدة مذهبية واحدة تتسم بطابع التماسك النظري.
أما الشَعْبَوِيَّة التي يُتَّهَمُ بها الرئيس قيس سعيَّدْ من قبل خصومه السياسيين في تونس،فهي ليست مذهبية إيديولوجية للحكم، بقدر ما هي تعبير احتجاجي عن الأزمات التي أحدثها النظام السياسي الشاذ و الهجين الذي حكم تونس طيلة العشرية السوداء.
على أن هذا الخطاب الشعبوي الاحتجاجي الذي يقدمه الرئيس سعيَّدْ، يشمل نقد البرلمان وطريقة اشتغاله ، والأحزاب السياسية المتورطة في الفساد، و الديمقراطية التمثيلية الحديثة،ويقدم نفسه بديلاً للأوضاع المزرية القائمة في تونس، متهمًا الآخرين (من أحزاب سياسية، وبرلمان، ونواب،ونظام سياسي برلماني )،بأنَّهم خانوا تحقيق انتظارات الشعب التونسي، وأصبحوا غير فاعلين،و لا مصداقية لهم، وعاجزين عن معالجة النموذج التنموي في بعده الاجتماعي والاقتصادي. إذ تنسب هذه الشَعْبَوِيَّة سبب المشكلة للتفاوت الطبقي وتعمق الفجوة بين الفقراء والأغنياء،إلى طبيعة النظام السياسي القائم في تونس،والذي يجب تغييره، وتقدم نفسها كمخلص لهذه الوضعية المكرسة لواقع اللامساواة بين شرائح المجتمع، والولايات التونسية.فتظهر شَعْبَوِيَّة الرئيس سعيَّدْ هنا في تونس،كما لو أنَّها تريد أن تملأ فراغ السياسة، وغياب المشروع الوطني الديمقراطي لدى كل الأحزاب التي تنتمي إلى العائلات الفكرية و السياسية المعروفة.
وتؤكد مقابلة قديمة للرئيس التونسي، قيس سعيَّدْ، أثناء ترشحه لمنصب رئاسة الجمهورية ، إخلاصه ل”مشروعه الطوباوي الثوري “والتزامه باستمرارية الدولة ودستور عام 2014، وتلمِّيحه أحياناً إلى أنَّه من الممكن تعديل الدستور من أجل المضي قدماً في مساعيه لتحقيق “الديمقراطية الشعبية” من الأسفل إلى الأعلى، إذا نجح البرلمان في حشد ثلثي أعضائه.
فقد أعلن الرئيس سعيَّدْ في المقابلة المنشورة في جريدة “الشارع المغاربي”بتاريخ 12 تموز/ يوليو 2019، أنَّه يسعى لإلغاء الانتخابات البرلمانية، واعتماد آلية “لتصعيد نواب للبرلمان من المجالس المحلية بالقرعة”، مؤكدا أنَّه سيحارب دعم الجمعيات سواء من الداخل أو الخارج، ما يعني أنه يريد تعطيل مؤسسات المجتمع المدني الضرورية لأية ديمقراطية، فيما ستؤول الأحزاب للتلاشي بفعل الدستور الجديد، حسب تصوره. وزعم سعيد في حديثه السابق لجريدة “الشارع المغاربي” بأنَّه يمتلك مشروعًا “لإيقاف دعم كل الجمعيات سواء من الداخل أو من الخارج لأنها مطية للتدخل في شؤوننا”، حسب قوله.
وقال سعيد في المقابلة المذكورة إنَّ برنامجه الانتخابي يقوم على “فكر سياسي جديد يترجمه نص دستوري بالفعل جديد”، مضيفًا أنَّه يقترح إنشاء مجالس محلية في كل معتمدية وعددها 265 بحساب نائب في كل معتمدية ويتم الاقتراع بالأغلبية على الأفراد، على أن يتم بعد ذلك الاختيار بالقرعة على من سيتولى تمثيل المجلس المحلي في المستوى الجهوي.
وأكد سعيَّدْ أنَّه سيلغي الانتخابات البرلمانية المباشرة، وأنَّ أعضاء البرلمان الذين يقترح أن يكون عددهم 265 سيتم تصعيدهم من “المجالس المحلية الى الجهوية ثم الى البرلمان، وأن الانتخابات ستقتصر على الرئاسة والمحليات.
واعتبر سعيد في المقابلة المشار إليها أن “رؤيته” قابلة للتنفيذ “حتى ترتقي إرادة الأمة إلى مستوى أمانيها”، مضيفا أنَّ “عهد الأحزاب انتهى” وأن “مآلها الاندثار.. مرحلة وانتهت في التاريخ”.
وتابع بأنه “بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة (فإنَّ الأحزاب) صارت على هامش الدنيا.. في حالة احتضار.. ربما يطول الاحتضار لكنَّ بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها”، مستدركًا بالقول إنَّه لن يلغي الأحزاب ولكنَّها ستندثر وحدها.
وقال سعيد إنَّه لم تكن له مواقف ثورية في زمن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، مبررًا ذلك بأنَّ لا أحد من الأساتذة الجامعيين كانت لديه مواقف، وأنَّ إمكانية نشر الآراء المعارضة كانت معدومةً، رغم أنَّ عددًا كبيرًا من التيارات والشخصيات السياسية كانت لها مواقف معارضة لنظام بن علي ودفعت بسبب ذلك أثمانًا باهظةً.
تتعايش في عقلية الرئيس سعيَّدْ المحافظة الاجتماعية التي يتبنَّاها جنباً إلى جنب مع أجندةٍ سياسية راديكالية(مشروعه السياسي الطوباوي القائم على تحقيق الديمقراطية المباشرة من خلال إحداث المجالس الشعبية على طريقة برنامج معمر القذافي ،وتيارات الماركسية العتيقة (نظام مجالس سوفيتات العمال و الفلاحين ) تسعى إلى استبدال أو تجاوز المؤسسات الرسمية القائمة، من خلال تشكيل مجالس شعبية تُنتخب مباشرةً في مختلف محافظات تونس.
ولا يخجل سعيد من الحديث حول رغبته في رعاية مؤسساتٍ تتحدَّث نيابةً عن الإرادة العامة لما يعتبره مجتمعاً وشعباً مُتَّحداً دينياً وثقافياً. ويُصِرُّ على أنَّ هذا البرنامج الثوري سيتعايش مع التزامٍ قوي بالدولة ،وبالدستورية والشرعية.
تونس بحاجة إلى نظام رئاسي متوازن
يُعَدُّ النظام السياسي الذي تأسس في ضوء دستور 2014 نِظَامًا شاذًا وهَجِينًا، لأنَّ الفكر السياسي الذي تبنته الأحزاب التي فازت في انتخابات 23 أكتوبر2011،لا سيما حزب النهضة الإسلامي الذي ارتبط بالهوية، أو في سنة 2014،حزب نداء تونس العلماني الذي نادى بالمساواة في الميراث، كان فِكْرًا تَقْلِيدِيًا،وغير متطابق مع انتظارات الثورة التونسية.
وكان الرئيس قيس سعيّدْ وصف النظام السياسي ما بعد الثورة ، ووفق ما نص عليه دستور 2014، ب”صحن تونسي”، وذلك في تصريحً إعلاَميٍ لموقع “نواة” الإلكتروني بتاريخ 11فبراير2014، بصفته أستاذ قانون دستوري، وقدَّم هذا الوصف للنظام السياسي “لصعوبة تصنيفه ونظرًا لأنَهُ يأخذُ من كل شيىء بطرفٍ..”.
وبما أنَّ الحكومات المتعاقبة على تونس منذ سنة 2011 وليومنا هذا،أثبتت فشلها الذريع في حل مشكلات البلاد،فإنَّ إصلاح النظام السياسي بات ضروريًا، ولا يجوز أن يقتصر فقط على محاربة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ووزاراتها وإيقاف عملية السطو على المال العام الذي تقوم به أحزاب السلطة الفاسدة, التي توّلت إدارة البلد بعد سقوط النظام الديكتاتوري .
بَلْ إِنَّ إِصْلَاحَ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ يَجِبُ أَنْ يَشْمُلَ أَيْضًا تَغْيِيرَ الْقَانُونِ الْاِنْتِخَابِيِّ الْحَالِيِّ الْقَائِمِ عَلَى التَّمْثيلِ النِّسْبِيِّ، وَاِعْتِمَادِ أكْبَرِ الْبَقَايَا، الَّذِي أَنْتَجَ برلمانً امُتَشَّظِيًا وَمُتَشَكِّلاً مَنْ كُتَلٍ بَرْلَمَانِيَّةٍ تَضُمُّ الْأَضْدَادُ الْمُخْتَلِفَةُ إيديولوجيًا وَفِكْريًا، إِلَى جَانِبِ تَجَمُّعِ الْخُصُومِ تَحْتَ قُبَّةِ الْبَرْلَمَانِ فِي مَجْمُوعَاتٍ صَغِيرَةٍ، لَا تَمَلِكُ أَيِّ مِنْهَا أغْلَبِيَّةٍ كَافِيَةَ لِلْحُكْمِ أَوْ لِتَزَعُّمِ الْبَرْلَمَانِ، فَكُتْلَةَ النَّهْضَةِ الْكُبْرَى عَدَديًا، لَا يتجاوزعدد نُوَّابِهَا ال53 نَائِبًا، أي أَنَّهَا لَا تَصِل إِلَى رُبُعِ تَرْكِيبَةِ الْبَرْلَمَانِ الْمُكَوِّنِ مِنْ 217 نَائِبًا، وَهِي الْحَالَةُ الَّتِي لَا تُنْتِج سِوَى التَّوَتُّرَاتِ وَ الصِّرَاعَاتِ، وَتَغْيِيرَ قَوَاعِدَ اللُّعْبَةِ الْاِنْتِخَابِيَّةِ الَّتِي أَرْسَتْ قَوَاعِدُهَا أَحزاب السُّلْطَةِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا سِيَمَا حَرَكَتَي النَّهْضَةِ وَالنِّدَاء ) وَمُشْتَقَّاتِ أحْزَابِ تُونِسِ)، الْلَتَيْنِ سيطرتاعلى دَوْلَةِ الْفَسَادِ الْعَمِيقَةِ مِنْ خِلَالَ نِظَامِ المحاصصات الَّذِي شَكَّلِ أَساس النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ الْقَائِمِ.
لقد أصبحت معركة إنهاء وجود دولة الفساد العميقة،التي تعني باختصار قلب الدولة النابض الذي يُسَيِّرُ عمل مؤسسات الدولة والوزارات والهيئات المحلية .. وهم وكلاء الوزراء ورؤساء الهيئات المستقلّة والمدراء العامون في الوزارات والهيئات المحلية ،المعركة المحورية من أجل إصلاح النظام السياسي في تونس .. والحديث عن أي إصلاح سياسي أو اقتصادي لن يأخذ طريقه إلى التنفيذ ما لم يتمّ إنهاء دولة الفساد العميقة وإعادة بناء مؤسسات الدولة وفق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب الذي كان معمولاً به في تونس،وفي بلدان العالم المتقدّم ..
فِي تُونِسَ هُنَاكَ أفكارٌ وتصوراتٌ مَطْرُوحَةٌ بِشَأْنِ إِصْلَاحِ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ التّونِسِيِّ هِي للتدوال وَالْبَحْثِ وَالْحِوَارِ بَيْنَ أحْزَابٍ سِيَاسِيَّةٍ، وَأَصْحَابِ الْاِخْتِصَاصِ وَالْاِهْتِمَامِ مِنْ أَسَاتِذَةِ الْأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْقَانُونِ الدُّسْتُورِيِّ، وَمِنْ قِبَلِ رَئِيسِ الْجَهْوَرِيَّةِ نفسه.فَالنِّظَامُ السِّيَاسِيُّ شِبْهُ الْبَرْلَمَانِيِّ الَّذِي أَفَرْزَتْهُ الْعَمَلِيَّة السِّيَاسِيَّة بَعْدَ الْعَامِ 2011 وَكَرَّسَهُ دُسْتُورُ الْعَامِ 2014، مَلِيءٌ بِالثُّغْرَاتِ الْقَانُونِيَّةِ وَالْخَلَلِ النُّظُمِيِّ، وَبِمَسَارِبِ الشَّلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْفَشَلِ.وَمَا الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ التَّوَافُقِيَّةُ وَالْمُحَاصَصَةُ الْحِزْبِيَّةُ، وَ الْفَسَادُ، إِلَّا نِتَاجًا طَبِيعِيًّا لِهَذَا النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ الْمُشَوَّهِ وَالشَّاذِّ..
ويعطي دستور 2014،صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة،مقابل صلاحيات محدودة لرئيس الدولة،وهو ما يقود إلى تهديد العلاقة بين السلطات،ويجعل رئيس الدولة تحت مظلة رئيس الحكومة ،وهذا إعلان واضح عن نوايا مُبَيِّتَةٍ عملت حركة النهضة على تمريرها لجهة تفضيلها النظام البرلماني، حتى تبقى هي القوة السياسية المهيمنة على المشهد السياسي التونسي.
ولذلك، فإنَّ الخطوة الأولى باتجاه التغيير الحقيقي في تونس ،تتمثل في تعديل الدستور بما يحقق سدِّ جميع الثغرات، وإنشاء نظام سياسي جديد، أكثر فاعلية ونجاحاً. ويمكن اعتبارالنظام شبه الرئاسي (الرئاسي ـــ البرلماني المختلط) الذي يطبقه عدد مماثل من الدول،ونموذجه الناجح النظام السياسي الفرنسي،هوالأكثر ملائمة لواقع تونس،فهو الكفيل بالقضاء على أغلب أنماط المحاصصة السياسية والحزبية، واجتثاث أغلب جذور الفساد والفشل والخلل والشلل، وإلغاء آلية الديمقراطية التوافقية، وتطبيق آلية ديمقراطية الأغلبية السياسية.
صلاحيات رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي
يَسْتَنِدُ النِّظَامُ الرِّئَاسِيُّ الى قَوَاعِدِ النُظُمِ الْجُمْهُورِيَّةِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ نَفْسُهَا، مِنْ نَاحِيَةِ وُجُودِ السُّلْطَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ الثلاث لِلدَّوْلَةِ: التَّنْفِيذِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّة.وَيَتَمَيَّزُ هَذَا النِّظَامُ عَنِ النِّظَامِ الْبَرْلَمَانِيِّ وَالنِّظَامِ شِبْهِ الرِّئَاسِيِّ، بِأَنَّ رَئِيسَ الْجُمْهُورِيَّةِ هُوَ الَّذِي يَتَرَأَّسُ السُّلْطَةُ التَّنْفِيذِيَّةُ وَمَجْلِسُ الْوُزَرَاءِ، وَهُوَ أَيْضًا الْقَائِدُ الْعَامُّ لِلْقُوَّاتِ الْمُسَلَّحَةِ.وَيَتِمُّ اِنْتِخَابَ رَئِيسَ الْجُمْهُورِيَّةِ فِي النُظُمِ الرِّئَاسِيَّةِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ اِنْتِخَابًا مُبَاشِرًا مِنَ الشَّعْبِ لِخَمْسِ سنوَاتٍ، تُجَدِّدُ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ.
وَيَقُومُ الرَّئِيسُ الْمُنْتَخَبُ بِاِخْتِيَارِ الْحُكُومَةِ وَعَرْضِهَا عَلَى الْبَرْلَمَانِ لِمَنْحِهَا الثِّقَةَ، سَوَاءً لِكُلِّ الْحُكُومَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ لِكُلِّ وَزِيرٍ بِشَكْلِ مُسْتَقِلِّ.كَمَا يُعَيِّنُ الرَّئِيسُ نَائِبًا لَهُ، وَيَسْتَعِينُ بِعَدَدٍ مِنَ الْمُعَاوِنِينَ.
ويسهر رئيس الجمهورية على احترام القواعد العامة بالجمهورية , ويتمتع بصلاحيات استثنائية ، في حال وجود أزمات سياسية واقتصادية بالدولة , ويتمتع بصلاحيات حل البرلمان , وهذه الحالة تأتي في حال أن هناك صراع بين الحكومة والبرلمان، وهو المسئول عن السيادة والاستقلال في الدولة.
الحكومة :
يشرف رئيس الوزراء على قيادة الحكومة , ويتم تعيين رئيس الوزراء بحرية تامة من قبل الرئيس , الذي يمكن اختيار من يريد وليس شرطا أن يكون له علاقة في المجال السياسي . يتم تعيين الوزراء من قبل رئيس الجمهورية بعد أن يقوم رئيس الوزراء باقتراح الأسماء على الرئيس , وفي الواقع يقوم الرئيس بطرح الأسماء على رئيس الوزراء ليعاود رئيس الوزراء باقتراحهم على الرئيس .ويُعَدُّ رئيس الوزراء المنفذ الحقيقي لسياسة رئيس الجمهورية.
في النظام البرلماني السابق لم يكن باستطاعة الحكومة أن تبدأ وتباشر عملها إلا بمنح الثقة داخل البرلمان , ولكن في هذا النظام السياسي الرئاسي ، تستطيع الحكومة أن تباشر أعمالها من دون منحها ثقة البرلمان , وهذا يدل على أن الحكومة تابعه للرئيس وليس للبرلمان.
السلطة التشريعية
تتكون من مجلس النواب , أي البرلمان ،ويتم انتخاب النواب عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب , بأغلبية الأصوات على مرحلتين , لفترة ولاية 5 سنوات , ويمكن مقاطعة هذه الفترة في حال قرار من رئيس الجمهورية بحل البرلمان .
الشعب
في الدستور الجديد يجب تنصيص المادة التي تقول أنَّ الشعب التونسي ، ولاسيما الجسم الانتخابي، يلعب دورًا مهمًا في حياة تونس السياسية، ويمارس حقه في السيادة من خلال تدخله الفعال في انتخاب ممثليه، وفي بيان رأيه ببعض القضايا الهامة عن طريق الاستفتاء.
فالسيادة الحقيقية تكون للشعب بوصفه سلطة سياسية أصلية وذلك بجعله المصدر الذي تنبثق عنه مباشرة أيضا مؤسسة رئاسة الجمهورية والبرلمان، اللتين تستمدان وجودهما وشرعيتهما مباشرة من الشعب وتعتبران مسؤولتين تجاهه فقط.
وفي تونس التي عانت طويلاً من النظام الرئاسوي، ينبغي تكثيف عملية التوعية بالفرق الشاسع بين النظام الرئاسي الديمقراطي المقترح ،والنظام الرئاسي الدكتاتوري الفردي الذي حكم تونس لمدة أكثر من خمسة عقود.كما يمكن وضع كوابح دستورية وقانونية تَحُولُ دون حصول أيَّ لونٍ من ألوان التفرُّدِ من جانب الرئيس،ولا سيما القوانين التي تفعل الرقابة والمحاسبة من السلطتين التشريعية والقضائية.
هل يمتلك سعيَّدْ مشروعًا وطنيًا لتحقيق انتظارات الشعب التونسي ؟
لم يطرح الرئيس قيس سعيّد استراتيجية جديدة للدولة التونسية تتبنى فيها مشروعاً مجتمعيًا جديدًا ،أي خريطة الطريق للمرحلة المقبلة ، وفي القلب منها تحديد السياسة الاقتصادية الاجتماعية للمرحلة الجديدة التي يقودها سعيّد، والتي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الأولويات الوطنية و الانتظارات الاستراتيجية للشعب التونسي، بعيدة عن وصفات صندوق النقد الدولي التي تزيد من الضغوط على الطبقات الضعيفة.
إنَّ برامج الإصلاح الاقتصادي المرتبطة بتحقيق الأولويات الوطنية وحل المسألة الاجتماعية، وتسمح بتعبئة الموارد المالية لخزينة الدولة،تتطلب توافر الإرادة السياسية من أجل مكافحة التهرب الضريبي والاقتصاد الموازي وتفكيك شبكات الفساد المتغلغلة في كل مفاصل الدولة(الوزارات، الإدارات، البنوك، الموانىء و الجمارق، المؤسسة القضائية،الخ)،واستخدام سلطة الدولة لمصلحة الأغلبية الاجتماعية من الشعب التونسي ،والعمل على تبني نموذج جديد للتنمية يحقق الاستقلال الاقتصادي تجاه دول الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولة المانحة، وتأمين شروط التنمية المستقلة القائمة على مواكبة الثورة الصناعية والتكنولوجية والرقمية في عالمنا المعاصر،أي شروط بناء الاستقلال الاقتصادي والغذائي والدوائي .
كان على الرئيس الذي يدرك جيّداً أنّ عتبة الفقر تخطت في تونس نسبة31في المئة حسب تقرير صندوق النقد الدولي،أي أنَّ 4 ملايين من التونسيين يعيشون حتى خط الفقر، وأنَّ 1.600.000تونسي يعيشون تحت خط الفقر الشديد، وأنَّ الطبقة الوسطى التونسية طحنتها العولمة الليبرالية المتوحشة،أن يطرح ، الأولويات التونسية خلال العشرية السوداء(2011-2021)،و هي معالجة الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية والصحية التي أهملتها وهمشتها أحزاب منظومة الفساد.
لا مصداقية للإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيَّد ، إذا لم يطرح استراتيجية وطنية تقوم عل الدعائم الأساسية التالية:
الأولى : خوض الحرب ضد الفساد المالي والاقتصادي، وفتح ملف رجال الأعمال التونسيين (127)، وكل الفاسدين في عهد حكم الترويكا، حيث يقدر الخبراء المبلغ في ذمتهم بين 10 آلاف و13 ألف مليار ونصف، أي حوالي نصف ميزانية تونس، تمثلت في قروض حصلوا عليها بطرق غير قانونية، وسط صمت رهيب، وعدم تدخل الدولة لاسترجاع ما نهبوه، والتحرك سريعًا لاستردادها، لتدخل خزينة الدولة، وتسهم في المشاريع التنموية في الولايات الفقيرة والمهمشة تاريخيًا، ومحاربة المافيات الكبيرة التي تسيطر على التهريب، والاقتصاد الموازي الذي أصبح يحتل 75% ويحرم الدولة من مداخيل تقدر بنحو 25مليار دينارًا سنويًا(8.5مليار دولار)، والتجارة الموازية، والتي راكمت ثروات طائلة، مستغلة “ضعف أجهزة الدولة الرقابية”، حيث أن هذا الاقتصاد الموازي ينخر الاقتصاد الرسمي، إضافة إلى أنَّهُ يُوَلِّدُ الإرهاب والتهريب، ويُفْضِي إلى تَبْيِيضِ الأموال،والقيام بإصلاحات تشريعية وقانونية لإصلاح الجباية المحلية، حيث تَخْسِرُ الدولة التونسية نحو 15 ألف مليون دينارًا، أي ما يعادل 10.34 مليارات دولار سنويًا (وفقا لسعر صرف الدولار أمام الدينار التونسي في 2012)، بسبب التَهَرُّبِ الضريبي، وهو ما يمثل 50% من جملة دخل الجباية، والتي تعتمد أساساً على الجمارك والقيمة المضافة، وعلى دخل الأشخاص الطبيعيين، وعلى الشركات، ورسوم التسجيل والطابع الجبائي، ورسوم أخرى على بعض المنتجات والنقل. فعن طريق جباية الضرائب وإيقاف نزيف السوق الموازية للعملة الصعبة، ونزيف التهريب، وإرجاع الأموال المنهوبة من رجال الأعمال، يتعافى الاقتصاد التونسي، وتنجز المشاريع الفلاحية والاقتصادية في الولايات الفقيرة والمحرومة، ويتم توظيف المعطلين عن العمل من الشباب، ويرتفع الدينار في قيمته، وتنخفض الأسعار، وتتحسن القدرة الشرائية للمواطن.
الثانية:في ضوء ضعف القضاء التونسي العادي،الدولة الوطنية التونسية تحتاج إلى تشكيل هيكل قضائي استثنائي ،يقوم بدور الشريك للسلطة التنفيذية في بناء الدولة الوطنية المستقلة،وفي محاكمة كل المجرمين الضالعين في ارتكاب جريمتي الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي ، ومحاكمة كل جرائم الفساد والإرهاب الأخرى سواء كأفراد ، أو كهيئات سياسية، وتطبيق القانون الصارم بحقهم، بوصفهم خونة ارتكبوا جريمة الخيانة العظمى للدولة الوطنية، وأعداء للوطن التونسي، بما أنهم كانوا ينفذون أجندات خارجية (إقليمية و دولية) ، لا سيما فيما يتعلق بتجنيد، وتسفيرجيش من المرتزقة التونسييين (8000آلاف إرهابي تقريبا ) للقتال في بؤر التوتر(سوريا، ليبيا، العراق، مالي).
الثالثة:الكشف و المراجعة للثروات التي وقع تكوينها بطرق مشبوهة و على حساب القوانين الجاري بها العمل في تونس، من قبل الأثرياء التونسيين الجدد ما بعد 2011و لغاية الآن،الذين استغلوا السلطة و النفوذ، ومصادرة أملاكهم الكلية أو الجزئية بالنسبة للمتهمين في صورة إدانتهم من القضاء الاسثنائي بتهمة الإثراء غير الشرعي.
الرابعة:لا عودة إلى الوراء ، أي لا عودة للمنظومة السياسية الحاكمة مابعد 2011 ولغاية 25يوليو2021، ،باعتبارها طبقة سياسية حاكمة من طبيعة معادية للدولة الوطنية الديمقراطية التعددية ،وللحداثة العلمية، وللعقلانية السياسية، وظلت رهينة لأجندات تحالفاتها مع أمريكا وفرنسا و إسرائيل وتركيا وقطر،وعاجزة عن مجابهة جائحة كورونا،والتي لم تجد حلاً لمواجهتها سوى التسوّل لدى المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ) طلباً للإقتراض الخارجي،من دون اتخاذ أي خطوات إصلاحية مطلوبة أو حتى إبداء النيّة لذلك.وهكذا ،أصبح الشعب التونسي تائهًا،وفاقدًا للبوصلة،ومحاصرًا من قبل لوبيات ومافيات الفساد التابعة للمستعمر الفرنسي،والبعير الخليجي،والبغل التركي،والثورالأمريكي،وهو شعب يئن تحت وطأة الفقر والغلاء والجوع ووباء كورونا.
الخامسة:من الواضح أنَّ استفحال جائحة كورونا و تداعياتها الخطيرة ،وتفاقم الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية في البلاد التونسية، مرتبطان بمنوال التنمية القائم في تونس، والذي وصل إلى طريقٍ مسدودٍ، ويحتاج إلى تغييره بمنوال تنميةٍ جديدٍ.إنَّ معيار وطنية الرئيس قيس سعيَّدْ وجدّيته في إحداث تغيير شامل في البلاد، يكمن في تغيير منوال التنمية القائم في تونس بصورة راديكالية ،مع أخذ بعين الاعتبار أنَّ عملية التغيير هذه سوف تصطدم بطبقة رأسمالية طفيلية وفاسدة تقف على رأس النظام الاقتصادي الريعي ، هدفها المراكمة السريعة للربح والحفاظ على مواقعها وامتيازاتها. وهي تتكون من كبار رؤوس الأموال وثلة من المسؤولين الساميين، تحيط بهم شبكات علاقات في الدولة العميقة ،والمنظمات والمؤسسات، ومحمية من قبل المنظومة السياسية الحاكمة منذ سنة 2011 و لغاية الآن التي تَدَّعِي زُورًا وَبُهْتَانًا أنَّها حاميَةٌ الثورة، لكنَّها في الواقع العملي هي منظومة سياسية متحالفة مع الفساد، والإرهاب، و الاقتصادي الموازي(التهريب).
وترتبط هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية الفاسدة خارجيًا بالدوائر المالية وبالاقتصاد المعولم عن طريق شبكات التبادل الحُرِّ والعلاقات مع الممولين والبنوك والمستثمرين الأجانب، من داخل ومن خارج الدولة. مما يجعلها قناة للمصالح الخارجية في تونس. تَصْدُرُ عن هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية أهم السياسات العمومية المالية والتنموية والتحفيزية والحمائية التي تتحكم في العلاقات الاقتصادية، وذلك مهما كانت نتائج الانتخابات كما لاحظناه في السنوات العشر الأخيرة.
وعلى المستوى الاقتصادي، تتموقع هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية بالخصوص في ثلاث أصناف من الأنشطة: القطاعات الريعية البحتة كالصناعات الاستخراجية والاتصالات والمالية والتجارة المبنية على الملكية الفكرية، والقطاعات التي تستغل اليد العاملة الرخيصة كالنسيج والصناعات الغذائية والخدمات، والقطاعات التي تحتكرها الدولة أو تحفزها أو تمنعها. وهي إما قطاعات تتمتع بامتيازات ضخمة أو بحماية خاصة، مما يفسر تحولها في الأخير إلى قطاعات تولّد ريع المواقع.
وتمتاز هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية الفاسدة بقُدرتها على تطويع القوانين لخدمتها وتكييف السياسات العمومية بما يخدم مصالحها، مُتماهية مع الهيمنة الخارجية. وهي تتموقع أيضا في أهم التمثيليات النقابية والأطر التفاوضية، والطبقة السياسية الحاكمة(خاصة حركة النهضة وحزب قلب تونس، وأحزاب أخرى انبثقت من حزب “نداء تونس”،وتنظيم الكرامة الإرهابي الذي يمثل الذراع اليمنى لحركة النهضة )، وتلعب دورًا واضحًا في رسم السياسات الاقتصادية بما يخدم مصالحها ويقصي مصالح بقية الفئات الاجتماعية، ولعل كارثة جائحة كورونا كشفت عن الوجه القبيح لسياساتها. إذ تعتبر منبعا لا ينضب للفساد بكل أنواعه، وحاضنة لتبييض الأموال وبوابة للتهرب الضريبي كما بينته وثائق باناما وفضائح البنوك العمومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى