قراءة بيان ثورة 23 يوليو

 
لنتخيل معاً لو أنه في صبيحة يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ قام أحد المذيعين في إذاعة القاهرة بقراءة بيان الثورة بدلاً من أنور السادات، ماذا كان سيحصل؟ هل كانت ستفشل الثورة بعد نجاحها؟ أم كان سيخرج الشعب المصري رافضاً مستنكراً و مطالباً بسماع البيان بصوت السادات؟ أو ربما كانت ستقع أهوال لم تكن في الحسبان و يتغير مجرى التاريخ؟

أنا حقيقة لا أدري لماذا أصبحت قراءة بيان الثورة، بعد نجاحها و سيطرة الضباط الاحرار على كل الأماكن الحساسة بما فيها دار الإذاعة، عملاً بطولياً

في منتصف القرن الماضي قام الكثير من الانقلابات و الثورات في العالم العربي، و كان من معتاد، بين الحين و الحين، أن يستيقظ المواطن العربي على صوت الراديو و هو يذيع البلاغ رقم واحد عن انقلاب في هذا البلد أو ذاك. و من المؤكد أن أحداً لم يكترث بمعرفة من كان أولئك الذين قرؤا تلك البلاغات أو البيانات، فذلك كان آخر همهم و لا أعتقد أنه خطر على بال أحد. فمن كان يظن أن قراءة بضعة جمل مفيدة مكتوبة بلغة اعتيادية على أقصوصة ورق اعتيادية ستسجل في التاريخ؟.…لكن يبدو أن ثورة يوليو كانت استثناءً لأننا نلاحظ أن بعض الاخوة المصريين، خاصة الذين أنشأتهم دولة السادات، يعتقدون أن قراءة بيانها كانت عملاً بطولياً ينم عن درجة عالية من التفاني و التضحية و ربما كانت إعجازاً أدبياً. بعض أولئك الناس قد يجهلون تاريخ الثورة و أهدافها بل قد لا يعرفون عنها شيئاً أكثر من أنها كانت الثورة التي قرأ بيانها السادات!

لكن ما هو السر وراء الاهتمام بقراءة البيان؟ والحقيقة أنه لا يوجد سر في الموضوع لأنه واضح وضوح الشمس. السبب هو أن السادات لم يكن له أي دور في إنجاز الثورة – باستثناء قراءة البيان!

من المتفق عليه أنه بعد أن تقرر قيام الثورة، أرسل عبد الناصر تعليمات للسادات بأن يحضر من العريش فوراً. و فعلاً وصل للقاهرة حوالي الثانية بعد ظهر يوم ٢٢ يوليو و ذهب الى بيته ثم اصطحب زوجته الى السينما من غير أن يتصل مع أي من رفاقه. مع أن العرض السينمائي يبدأ بعد الغروب الا أن السادات خرج مبكراً و يقال أنه افتعل مشاجرة و أصر أن يأتي البوليس ليسجلها في محضر رسمي ( ربما كإثبات أنه كان في السينما – لو فشلت الثورة). عاد السادات الى البيت بعد منتصف الليل و أخبره البواب أن عبدالناصر سأل عنه و ترك له ورقة. عندما ذهب السادات الى مقر القيادة العامة كانت الثورة قد نجحت تماماً و سيطر الضباط على كل الأماكن الحساسة في القاهرة و لم تعد هنالك حاجة له. كان الدور الموكل له ( كضابط اشارة) هو أن يقطع الاتصالات العسكرية بشكل مؤقت، لكنه تأخر و لم يعد هنالك لزوماً لقطع الاتصالات.

أصبح ذهاب السادات للسينما و مجيئه المتأخر في تلك الليلة التاريخية موضع سخرية بين زملائه. كان عبدالناصر أحياناً يسأل عنه عندما يلاحظ غيابه في الاجتماعات فيجيب أحدهم ” يمكن راح السينما يا ريس“ .. و يضحك الجميع.

كان عبدالناصر ورفاقه يعملون بشكل متواصل تلك الليلة لتكريس نجاح الثورة، كل مشغول في القيام بدوره ـ باستثناء السادات الذي لم يبق له أي دور بعد فشله في القيام بما كٌلِّف به. و بعد أن اتفق الضباط على صيغة بيان كي يذاع في الصباح من دار الاذاعة رأى عبد الناصر أن الافضل أن يرسل البيان مع السادات باعتباره كان موجوداً في البناية من غير أن تكون له أية فائدة و لا يقوم بأي عمل. في دار الاذاعة أقنع السادات المسئولين بأن يقوم هو بقرائة البيان بدلاً من المذيع، و كان معروفاً عنه رغباته في التمثيل و التواجد تحت الأضواء. و الطريف أن السادات لم يكن مقتنعاً بالطريقة التي قرأ بها البيان فأعاد تسجيلها بعد عام، و هو التسجيل الموجود حالياً.

قراءة البيان لم تكن جزءاً من حركة الضباط الاحرار و كان المفروض أن لا يكون لها أي ذكر في تاريخ الثورة، فمن يهمه معرفة من الذي قرأ أي بيان في أي بلد؟ و فعلاً لم يكن الأمر مهماً لنحو عقدين من الزمان. و لكن عندما استلم السادات الحكم بدأ الاعلام الرسمي يبحث عن بطولات ينسبها للرئيس الجديد فلم يجد شيئاً غير قرائة ذلك البيان فجعله الجزء الأساسي من تاريخ الثورة و فرض معرفته على الشعب و أصبح مادة أساسيه تدرس في المدارس.

بدلاً من سخافة الاهتمام بمن قرأ بيان الثورة كان الاحرى بالاعلام أن يهتم بالعمل الآخر الذي قام به السادات و هو حضوره المشبوه للسينما. الادعاء بأن ذلك كان مصادفة بريئة أو خطأ غير مقصود هو نوع من استغفال العقول و ينطلي فقط على البسطاء لأن دلائل القصة تشير إلى جُبْنٍ و تهربٍ مقصود.

في تقديري أن دور السادات الثانوي في الاعداد للثورة و ظروف عدم مشاركته في انجازها تحمل في ثنياتها تفسيراً لحقده الشديد عليها و محاولته تدميرها بتلك الدرجة العالية من الغل و كأنه يثأر منها. و لكن هذا موضوع آخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى