ذكرى ثورة يوليو 1952 في زمن الصهينة!

في مثل هذا الأسبوع من شهر يوليو 1952 آستطاع «الضباط الأحرار» الوصول إلى حكم مصر، ومن وقتها استمر ذلك الحدث مثار جدل وخلاف لا ينقطع، ومع مرور كل هذه العقود وغياب أي وجود فعلي أو رمزي لذلك الحدث، ورغم الجهود التي بذلت للمزاوجة بين ثورة يوليو، وبصمتها المصرية؛ مع «التحررية الأوروبية»؛ المعروفة إصطلاحا بـ«الليبرالية» وحدث ذلك خلال ثورة يناير 2011 فقد اعتبرها البعض فرصة لزواج «محرم» بين نقيضين، ونتج عن ذلك إنتكاسة مدوية، وإذا ما وضعنا في الاعتبار المعنى الكلاسيكي لليبرالية، وكان يحمل قدرا كبيرا من البراءة التاريخية، لكن سرعان ما تم توظيفه واحتواؤه، وانتهى الأمر باختطافه، وحُمِّل مضمون ينحاز للاستغلال والظلم والدمار، والحروب التي لا تتوقف تحت رايات الليبرالية، ففقدت براءتها التاريخية، وكانت عابرة ووئدت في المهد.
وحين حل عصر الهيمنة الأمريكية، ووقوفها الأعمى مع الحركة الصهيونية؛ المعبرة عن أعلى مراحل العنصرية، ولها سيطرتها على عوالم الغرب، وأضحت غطاءً لكل أنواع الأذى والضرر الذي يلحق بشعوب ودول «القارة العربية» وكان مستقبل العرب واعدا مع اتساع رقعة حركات الثورة والاستقلال والتحرر الوطني التي إنتشرت بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أقل من ثلاثة عقود، وتحديدا بعد حرب 1973، قبل أغلب الحكام العرب بالتماهي الكامل مع أعدائهم، وفي وقت إرتفاع أسعار النفط الذي غير حال منتجيه، وأدخل المسؤولين والتجار العرب زمن الثراء الفاحش.
وكان أثر ذلك واضحا على الدول غير النفطية، ومنها مصر؛ رغم إمكانياتها ومواردها وثرواتها البشرية والطبيعية والمعدنية الكبيرة المنهوبة والمهدرة، فتراجعت قيمتها الحضارية والتاريخية والثقافية والاستراتيجية، وفي الداخل واكب ذلك التراجع مبالغة في استخدام مطارق الأمن والرئاسة والسياسة والإعلام والجبايات المنتزعة من المواطنين، وهذا أصاب كثيرا منهم بفقدان الأمل والتوازن، بجانب معاناة المجتمع في عمومه من ضعف القدرة على الإنتاج، وهو داء عضال يثبت أن للثورة والليبرالية طريقين متوازيين لا يلتقيان، إلا إذا إعوج أو انكسر أحدهما، وكلما زاد ضغط ذلك الواقع يتذكر البسطاء وعموم المصريين ثورة يوليو رغم مرور كل تلك السنوات.
والتعلق بذكرى غير حضور مفتقد، وغياب فعلي وفراغ شديد وفساد منتشر؛ ارتاحت له الثورة المضادة، ومع طول الغياب استعصى الأمر على الحل، وأضحت «شيطنة» الثورة لا تفرق بين ثورة وثورة مضادة، ووضع إحداها مكان الأخرى؛ في خلط لا يتم اعتباطا، وكان حدث ثورة 25 يناير استثنائيا؛ استمر مدة ثمانية عشر يوماً. والفهم غير التاريخي لها انتهى بها إلى الصورة التي عليها الآن.
ورغم الآمال التي كانت معلقة على دفع الثوار إلى صدارة المشهد الرسمي، وتمكينهم من الحكم، فثبت إن ذلك لم يكن كافيا للاستمرار؛ دون تحديد المسارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ولم يكن الاكتفاء بالأيام الثمانية عشر معيارا للنجاح، وهو ما أفقد الثورة بوصلتها؛ غير المُسْتنِدة لفهم تاريخي واضح، فاستمرت فكرة نظرية تنقصها ممارسة عملية حقيقية وجادة، واستفادة من دروس النشاط والعمل غير المتاح، وذلك عكس ثورة يوليو؛ كثيفة النشاط.. غزيرة العمل والممارسة والابتكار والإنجاز، وذلك بصوابه وخطئه ترك تراثا عظيما ما زال برسم الهدم لأكثر من نصف قرن، وبقي مستفزا للثورة المضادة ومعيقا لمخطط «الشيطنة» الذي تكلف المليارات، وتمت تصفيتها على الطريقة التتارية والمغولية والنازية والصهيونية، بالانتقام والإبادة.
ويشرح المؤرخ المعروف عاصم الدسوقي، عمل المؤرخ؛ يتولى كتابة وتسجيل الوقائع كما حدثت في الواقع؛ يلي ذلك التفسير واعتماده «على توجه وأيديولوجية المفسر» فمَنْ يفسّر الواقعة ساعة حدوثها يكون تناوله لها غير مكتمل، وبمرور الزمن يتم الوصول إلى الصورة المتكاملة المتوافقة مع العقل والمنطق، واعتبر ثورة يوليو 1952 بداية لإعادة بناء الدولة المصرية واستقلال قرارها عن الجميع، ونهاية عصر الاستعمار البريطاني، ونظر للأحداث التي مرت بها هذه الثورة على أنها كانت تاريخية بكل معنى الكلمة.
واللافت أن أول من أطلق وصف ثورة على حركة الضباط الأحرار كان عميد الأدب العربي طه حسين، وقت أن كانت تُعرف بـ«الحركة المباركة» وتعزز رأي العميد بالخطوات التي اتخذها الحكم الجديد وإجراءات ثورية بدأت بإلغاء الألقاب، ثم صدور قانون الإصلاح الزراعي، وتأكيد الاستقلال الوطني، وفتح أبواب العدالة الاجتماعية على مصراعيها، والتوسع في التعليم (مدرستين كل ثلاثة أيام) والصحة بوحدات مجمعة وصحية في القرى، وتوسع زراعي أفقي رأسي، وتصنيع ضخم (بناء 1200 مصنع)؛ في الصعيد والدلتا وصحراء مصر الشرقية والغربية، وتحولت مصر لأكبر ورشة عمل في التاريخ، وتلك النهضة الشاملة تركت صدى كبيرا على المواطنين، ورفعت معنوياتهم وزادتهم ثقة بأنفسهم.
وتحوّلت الحركة المباركة بالتبعية إلى ثورة، حسب أستاذ العلوم السياسية حسن نافعة، وروى الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «سقوط نظام.. لماذا كانت ثورة يوليو 1952 لازمة؟» تفاصيل واسعة عن وقائع اللحظات الحساسة والحاسمة في البدايات ونجاح الضباط الأحرار في الحكم، وحدثت تحولات كبرى في تاريخ مصر وتاريخ العرب، ولا نبالغ إذا ما قلنا وفي تاريخ العالم أيضا.
ومن أجل فهم أكثر لما جرى منذ ذلك اليوم، وكيف تغير وجه مصر، وتأثيرها الكبير على واقع «القارة العربية» وامتداده لأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وأثر في مفكرين وكتاب وأدباء غربيين؛ من سويسرا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرهم، وأكثر بلدين أضيرا من ثورة 1952 هما بريطانيا وفرنسا؛ الأولى بخروج قواتها المحتلة من مصر، وتأميم قناة السويس، ومواجهتها لصد العدوان الثلاثي «الصهيو أنكلو فرنسي» وانتقل العالم برمته إلى عصر جديد؛ شهد غرق امبراطوريتين كبريين؛ في مياه السويس، وفشلت بريطانيا في العودة لاحتلال مصر مرة أخرى بعد شهور قليلة من جلاء آخر جندي لها، وأخفقت فرنسا في الانتقام من مصر بسبب دعمها لثورة الجزائر منذ الإعداد والتمهيد لها قبيل «الفاتح نوفمبر 1954» وجاءت مشاركة تل أبيب مؤكدة لدورها «الوظيفي» في إجهاض أي نزوع نحو أي استقلال وتحرير يجد وقوفا ودعما من قاهرة ذلك الزمان.
وفي محاولة لفض الاشتباك حول جمال عبد الناصر كزعيم رتب وأعد الضباط الأحرار، وأشرف على تحريكهم للقوات ليلة الثورة، وطُوِيت صفحة أسرة محمد علي، وما زال عبد الناصر بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته مؤثراً «يملأ الدنيا ويشغل الناس» وأضحى نموذجا في تاريخ العرب المعاصر. ورمزاً للتحدي في عصر إنهاء الاستعمار القديم، ووضع بلاده على طريق التحولات الكبرى، وعُمِّد بطلا للقومية العربية، ورائدا للاشتراكية العربية، ومناهضا للاستعمار العالمي. وكان أول حاكم مصري من أبنائها؛ منذ تناوب الرومان والفرس والإغريق على احتلالها، وكان معبرا عن أمة ممتدة من الخليج إلى المحيط، وفهمها بعمق لم يسبقه إليه أحد.
ومشكلة عبد الناصر مع أعدائه أنه منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، وما زال حضوره طاغيا، وأضحى مصدر قلق وحرج لمن أتوا بعده؛ بقامته وقيمتة وجاذبيته للشعب والثوار والمقاومين والقوميين العرب، واستمر تأثيره وهو في قبره، وكان قد نجح في بناء كتلة عالمية كبرى؛ ضمت أحمد سوكارنو المسلم الآسيوي، وجواهر لال نهرو الهندوسي الهندي، وشو إن لاي الشيوعي الصيني، وتيتو الماركسي اليوغوسلافي، والمسيحي الأرثوذكسي، وثوار أمريكا اللاتينية المسيحيين؛ انصهروا جميعا في بوتقة أرست قواعد السلام القائم على العدل، وعبد الناصر بثراء تكوينه الشخصي، ينطبق عليه وصف «الثائر» بالألف واللام؛ أكبر من أي لقب؛ المتطلع دوما للتغيير إلى الأفضل، وتغلبت ذكرى الثائر على عنصرية مخطط «الشيطنة» فما زال قويا في غيابه، وكما التف الشعب حوله في حياته، فهو ينتظر سماع صوته ورأيه وتقييمه لما يجري اليوم لعرب هذا الزمان، وبقي ملهما لشعوب تتطلع للحرية والسلام القائم على العدل، ويصدق في ثورة يوليو قول الشاعر «في الليلة الظلماء يفتقد البدر».

*كاتب من مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى