ثـــــورة ٢٣ يوليــــــو.. بُشــرى الغـــــــــــــــد لا ذكرى الامـــس بقلـــــــــم: فهــــد الريمـــــــــاوي

صباح الخير يا ثورة ٢٣ يوليو، صباح الورد يا “ابا خالد”، صباح العز والفخار بالضباط الاحرار، صباح الفرح والاستبشار بالانطلاقة الخفاقة والحركة المباركة والعرس الثوري المهيب.

في كل ٢٣ يوليو من كل عام، تُطل علينا “ام الثورات” العربية، ومعجزة مصر الناصرية، وعميدة حركات التحرر الافروآسيوية، وراعية المشروع القومي الوحدوي النهضوي التي انتزعت الانجازات من قلب المستحيلات، واجبرت الاستعمار ان يحمل عصاه ويرحل، وصنعت من الاماني والاحلام المصرية والعربية حقائق واقعية ملموسة، ومواقف كفاحية باسلة زلزلت الشرق الاوسط باسره.

هي -عندي- فعلٌ عبقري يستحق اسمه، ويشبه فاعله، ويملك ديمومته، ويستحق شعبيته، ويستأهل مهابته، ويجدر بمصداقيته، ويليق بتاريخه الجليل، ويمعن في مسيرة التقدم وليس التقادم، ويثبت بمرور الايام والاعوام انه قد شكّل، ولا يزال، التعبير الاصوب والاصدق عن الاهداف والاشواق والتطلعات العربية في الوحدة والحرية والتحرير والاشتراكية.

هي -عندي- ثورة دائمة وماثلة امام الامة العربية وليست غابرة وقابعة خلفها.. هي وعدٌ بما سيكون لا عهدٌ فقط لما قد كان.. هي بشرى سعيدة لغدٍ عربي نهضوي قادم، باكثر مما هي ذكرى جليلة لماضٍ عزيز ومجد تليد.

عندي ان هذه الثورة قد سارت، وما زالت سائرة على وفق الحساب الشمسي، ذلك لانها سطعت لعشرين عاماً ثم غربت في وقتنا الراهن، وملأت القارة العربية ضياءً وسناءً ثم انسحبت امام جحافل الردة والعتمة.. غير انها بقيت تمتلك حق العودة وخصائص الدوران الشمسي، والمداومة على الشروق والغروب، والمراوحة بين الحضور والغياب، تبعاً للاحوال المصرية والضرورات العربية المتغيرة حد الانقلاب.

لقد اثبتت هذه الثورة، غير مرة، انها حالة روحية مستمرة، رغم زوال كيانها السياسي وموجوديتها على الارض.. وانها قوة مثال وطاقة الهام واستنهاض، وبوصلة تأشير وتوجيه ما زالت تسري في ارجاء الوطن العربي، وليست محض حقبة ثورية تاريخية انطفأت انوارها، وسكنت محركاتها، ومضى زمانها، واندرجت في عداد المواضي والسابقات والسلفيات.

فالثورات العظيمة قد تخمد ريحها ذات وقت، ولكن روحها تبقى وثابة تسري في وجدان الامم والشعوب كل الوقت.. فما ان تشتد الحاجة اليها، او تسنح الفرصة لانبعاثها، او تتهيأ الظروف لاشتعالها، حتى تندفع بشدة كما البراكين، وتنطلق بعنف من حيز الكتمان الى رحاب الاعلان، وتخرج في الناس شاهرة سيفها وعزمها ودفتر اهدافها ومبادئها.

هل اتاكم حديث الثورة الفرنسية التي اندلعت منذ عام ١٧٨٩، وتعرضت لاكثر من ردة، ومُنيت باكثر من نكسة، وتناولتها الايدي من كل جانب.. ولكنها ظلت قادرة على تجديد نفسها وتصويب مسيرتها، وبقيت تعتمل في الكيان والوجدان الفرنسي حتى يومنا هذا.

هل اتاكم حديث الثورة البوليفارية التي اضرمها سيمون بوليفار في عموم قارة امريكا اللاتينية منذ اواخر القرن التاسع عشر، واحرزت الكثير من الانتصارات على الاستعمار الاسباني، كما كابدت الكثير من الخسائر والويلات على ايدي اباطرة الاستعمار الجديد ورؤوس الفاشية الامريكية الشمالية الذين رأوا في جارتهم الجنوبية محض “حديقة خلفية”.. ولكن هذه الثورة ما لبثت، بعد عشرات السنين، ان استردت روحها، واستعادت عافيتها ، وانجبت ابطالاً مثل كاسترو وجيفارا وشافيز وموراليس.

مثل هذا ايضاً يمكن ان يُقال عن الثورة الماوية التي استولدها ماو تسي تونج من عذابات الشعب الصيني وشقائه قبل مئة عام، والتي احالت هذا الشعب المطحون بالفقر والمنكوب بالافيون الى قوة عالمية عظمى.. ورغم كل ما اعتورها من خلل وتخلخل في خضم “الثورة الثقافية” اواخر القرن الماضي، وما حاول دينج هيساو بنج ان يضيفه اليها او يحذفه منها، الا انها ما فتئت تطوّر آلياتها، وتراكم انجازاتها، وتجمع بين افضل ما لدى الاشتراكية والرأسمالية، وتزاحم امريكا على قيادة العصر.

وعليه، فثورة ٢٣ يوليو عائدة حتماً الى ديار امتها – ولو بعد حين – ذلك لانها امتداد اصيل للتاريخ الثوري العربي، واستخلاص حصيف ورصين لدروسه وتجاربه وموروثاته، ورافعة فكرية وفنية وثقافية
من روافعة النبوغية المعدودة.. فهي لم تخرج من غبار العدم، ولم تنبت في طيات السراب، ولم تتوافد من ديار الغرباء، بل هي وليدة جذور وارومات عربية واسلامية راسخة في المكان، وخالدة في الزمان، ومروية بدماء الشهداء في بدر واليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت.. وهو الامر الذي اسبغ عليها هويتها القومية العربية، وليس المصرية القُطرية او الفرعونية او المتوسطية او الدينية.

ليس في مصر مواطن واحد لا يستذكر، هذا الاوان، ثورة ٢٣ يوليو، ويترحم على جمال عبد الناصر، ويشخص ببصره نحو السد العالي.. بعد ان تجرأ الاحباش الاوباش على تعطيش مصر، واعتقال نهر النيل، وسجنه في قمقم ضخم، ومصادرة حريته في الفيض والتجوال في النجوع والوهاد المصرية والسودانية.. ضاربين عرض الحائط بتمتمات وهمهمات “السي سي” الهزيلة والذليلة، ومستخفّين بقوة الجيش المصري الذي انهمك، في اوج الازمة مع الاحباش، بتنظيم جنازة عسكرية للحيزبون المتصهينة جيهان السادات.

ليس في عموم الوطن العربي كاتب صحفي او مراقب سياسي لم يفهم مقصد الرئيس التونسي قيس سعيد وغايته من عقد لقاء عاجل مع جمال عبد الناصر – ولو في ضريح – لدى اول زيارة رسمية قام بها للقاهرة في التاسع من شهر نيسان الماضي.. فقد بعث هذا الرئيس العروبي برسالة واضحة الى خصمه اللدود والحقود راشد الغنوشي تُخطره بان عبد الناصر – وليس اردوغان – هو العنوان، وتنذره ان العروبة – وليس الاخونة والعثمنة – هي فَرَس الرهان، وتذكّره ان القاهرة – وليس انقرة – هي شقيقة تونس ورفيقة دربها والاقرب الى قلبها، وتُعيّره بتاريخ “جماعته” المثقل بالتآمر على المشروع القومي الوحدوي النهضوي.

ليس الرئيس التونسي وحده الذي يستذكر باجلال واحترام ثورة يوليو ويشيد بفارسهها المغوار، بل هناك قائد ثوري اثيل (يعيد الى الاذهان معارك “ابي خالد” ضد امريكا واسرائيل) قال في هذه الثورة كلمة حق وصدق.. فقد قرأنا مؤخراً مقالاً للزميل اللبناني الاستاذ غالب قنديل، منشوراً على موقع “اضاءات الاخباري”، تحت عنوان “الناصر والخميني والاخوة العربية – الايرانية” جاء فيه حرفياً..

كتب آية الله السيد علي الخامنئي مرشد الجمهورية الإسلامية ” كنت معتقلا في سجون الشاه، الذي كان يكنّ لعبد الناصر كراهية شديدة، ولاحظت، في اليوم الحزين لوفاته، حالة ابتهاج في السجن بين الضباط والحراس، وعندما سألت عن السبب علمت بوفاة الرئيس عبد الناصر. وأقسم بالله أنني بكيت عليه كما لم أبك على أبي وأمي، لقد كان الزعيم الوحيد الذى ساعد الإمام الخميني، وأمدّ الثورة بالمال والسلاح وقواعد التدريب”.

وعليه، فيا ابناء واحباء واصدقاء ثورة ٢٣ يوليو، لا تقنطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من فطنة التاريخ، ولا ترتابوا في حتمية نهوض امة العرب عند اول فرصة.. فقبل شروق شمس هذه الثورة المظفرة كانت امتنا العربية تكابد الويلات والمشقات، ولكنها سرعان ما تألقت وتعملقت وانبعثت من رماد تخلفها والهوان، ووقفت على قدم المساواة مع ارقى الدول.. ذلك لان هذه الامة الطاعنة في الوجود، والمتحالفة مع متواليات الدهر، والمشبّعة بروح الاسلام واسماء الله الحسنى، والمعبأة بفروسية الصحراء وملحها وقيظها وصليل سيوفها وصهيل خيولها.. تمتلك جوهرها الخاص، وقوانينها الحركية الذاتية، وشخصيتها الاستثنائية الفذة، ومزاياها السرمدية الفريدة، المختلفة كل الاختلاف عما لدى الدول الطارئة والعابرة والملفقة والرخوة المفتقرة لاسس واركان الديمومة والرسوخ والاستقرار .

وفي الختام.. عاشت ثورة ٢٣ المجيدة التي نصرت الشعب العربي وانتصرت له، ولم تنتصر عليه مثلما فعلت “الثورات البرتقالية” التي انجبها “الربيع العربي” الكاذب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى