أزمة سد النهضة.. مصر تدفع ثمن إهدار التراث الناصري

 

تواجه مصر فشلاً ذريعاً في مساعيها الدبلوماسية بشأن قضية سد النهضة الاثيوبي. الامم المتحدة خذلتها ومجلس الامن الدولي الذي كانت تعوّل عليه كثيرا في التأثير على اثيوبيا أوضح لمصر بصريح العبارة وعلى لسان رئيسه مندوب فرنسا انه لن يتدخل في القضية التي يجب على مصر ان تتعامل معها عن طريق المفاوضات مع اثيوبيا وفي اطار الاتحاد الافريقي. الدول الكبرى الاخرى, روسيا والصين, لم تؤيد الموقف المصري وكانت اقرب الى اثيوبيا. والاتحاد الافريقي بدوره لا يبالي كثيرا بمصر ومطالبها بشأن السد, بل ان رئيس أهم دولة افريقية, سيريل رامافوزا الجنوب افريقي, قد عبّر قبل سنة عن ازدراء شديد لمصر ورئيسها وسياستها في هذه القضية (في حديث مسرّب له).
هذا الهزال الذي تعاني منه مصر على الصعيد الدبلوماسي الدولي ليس مفاجئاً. انه نتيجة تراكمية لسياسة انعزالية سارت عليها مصر في العقود الاخيرة, بدأت مع الرئيس انور السادات صاحب مقولة ان ” 99% من الاوراق بيد امريكا”. اندفع السادات الى احضان امريكا واسرائيل بشكلٍ اقرب ما يكون الى شقلبة سياسية نقلت مصر من النقيض الى النقيض في فترة زمنية قصيرة جدا. اعتبر السادات ان امريكا هي الحل وهي المفتاح لكل الابواب المغلقة وهي المستقبل, وأنّ سياسته المستجدّة هي ذروة بُعد النظر والذكاء السياسي! أدار السادات ظهره لافريقيا ولآسيا, بل ولكل العالم, وانخرط مع امريكا وحدها ينفذ اجنداتها ويقدم لها الخدمات, من كامب ديفيد مع “اسرائيل” الى دعم “المجاهدين” الافغان الى معاداة الثورة الايرانية الى محاربة الشيوعية في العالم ! وتابعَ حسني مبارك سياسة استاذه ومعلمه على مدار سنوات حكمه الطويلة الى ان وصلنا الى ايام السيسي الذي هو امتدادٌ لذات النظام.
أهدرت مصر الإرث العظيم الذي تركه لها جمال عبد الناصر في مجال السياسة الخارجية. العلاقات الوثيقة التي نسجها مع دول كبرى في العالم الثالث , الهند و اندونيسيا وعدم الانحياز, راحت ولم يبقى منها سوى الذكريات. التحالف الطويل مع روسيا (الاتحاد السوفييتي) واوروبا الشرقية كذلك تبخّر ولم تتمكن مصر من الاستفادة من عمقِهِ التاريخي. والاهم من ذلك هو العمق الافريقي لمصر. فقد مارس جمال عبد الناصر سياسة فاعلة جدا في القارة الافريقية وانخرط في شؤونها وتطورات الاوضاع فيها, وساعد المناضلين والثوار الافارقة حتى غدت مصر ملاذا آمناً لهم, دعَمَ حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار وحركات كفاح الافارقة ضد العنصرية,,,, باختصار نجح جمال عبد الناصر في جعل افريقيا كلها رافداً لمصر وذخراً استراتيجياً تستفيد منه على الصعيد الدولي في كل ما يتعلق بمصر وأحبط مجهودات “اسرائيل” التي عجزت تماما عن تحقيق اي اختراق يُذكر في القارة السمراء. جعل عبد الناصر مصرَ قائدةً حقيقية لافريقيا. كل ذلك التراث الناصري ضاع هباءً منثوراً للأسف على يد السادات ومبارك الذين أظهرا ازدراءً لدول افريقيا , بما فيها دول حوض النيل, تجلّى في إهمالها وعدم زيارتها ووقف التعاون الحقيقي, سياسياً واستراتيجياً, معها.
والان تقطف مصر الثمار المرّة لتلك السياسة. ولن تجدي محاولات اللحظات الاخيرة وجولات الزيارات العاجلة لوزير الخارجية المصري في جَبْر ما انكسر على مدى عقود. لا احد اليوم في افريقيا مع مصر, والاغلبية العظمى مع اثيوبيا إما عَلناً او ضمناً.
وعوداً الى امريكا , فإنها اليوم لم تهجر مصرَ تماماً بل أظهرت قدراً لا بأس به من التعاطف مع الحليف المصري القديم والتفهم لمواقفه في موضوع السد. بل ان الرئيس ترامب حذّر علناً (بأسلوبه الفجّ المعروف) العام الماضي اثيوبيا بأن مصر قد تلجأ لنسف السد اذا لم تتوصل الى اتفاق! وفي ظل ادارة بايدن ايضاً هناك مواقف امريكية مؤيدة نوعاً ما لمصر أبرزها تصريح القائد العسكري الجنرال ماكنزي بأن مصر أظهرت قدراً هائلاً من الصبر وضبط النفس تجاه اثيوبيا (بما يوحي أنها لو لم تفعل ذلك لكانت معذورة). ولكن حتى هذا الدعم الامريكي للموقف المصري لم تستفد منه مصر بشكلٍ كبير ربما لأنها تدرك أن التأييد الكلامي الامريكي وحده لا يكفي لخوض صراع كبير الحجم ليس لها فيه حلفاء حقيقيون.

نحن طبعاً نحلل سياسياً ولسنا خبراء عسكريين ولا لدينا معلومات استخباراتية تمكننا من الحكم إن كانت مصر لديها القدرة لتنفيذ عمل عسكري ضد اثيوبيا او لا. نحن لا نعلم إن كان الخيار العسكري متاحاً لمصر ولكننا نعلم أنه سياسياً و دبلوماسياً الخيارات امام مصر محدودة جدا والأفق مظلم.

*كاتب و باحث من الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى