فِي تُونِسَ الْجَرِيحَةِ الْيَوْم هُنَاكَ عَالِمَانِ مُتَخَارِجَان لَا يَلْتَقِيَانِ، عالم السلطات الحاكمة، إذ يعيش منذ أشهر عديدة صراعًا محتدمًا بين الرئاسيات الثلاث (قصر قرطاج ممثلا بالرئيس قيس سعيد، وقصر باردو ممثلا بالشيخ راشد الغنوشي، وقصر القصبة ممثلا برئيس الحكومة هشام المشيشي)، حيث أنهكت الحرب السياسية بين أقطاب منظومة الحكم هذه، الدولة التونسية ، وعطلتها، لا سيما حين اعتقد هؤلاء الرؤساء الثلاثة أنَّهم الأقدر على تسيير شؤون الدولة،بينما أثبتت تجربة الحكم في تونس أنهم سياسيون فاشلون،وليسوا برجال دولة ، يكشف عن ذلك خياراتهم الخاطئة ، في مواجهة جائحة كورونا،التي كانت كلفتها حياة الشعب التونسي الذي انتخب هذه الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة في سنة 2019.
فرئيس السلطة التشريعية (البرلمان) الشيخ راشد الغنوشي حَوَّلَ هذه المؤسسة إلى مزرعة إقطاعية في خدمة لوبيات الفساد والأطراف السياسية (حركة النهضة وحلفائها) ومراكز النفوذ القابعة في الدولة العميقة لا في خدمة الشعب صاحب السلطة الأصلية. ورئيس الحكومة السيد هشام المشيشي الذي، يشرف على هيئة علمية استشارية، من مهامها متابعة الحالة الوبائية في البلاد، وترفع توصياتها إلى الحكومة التي تنفذ ما تراه صالحًا، تحول إلى أداة طيعة في خدمة أجندة الإسلام السياسي في تونس وارتباطاته الإقليمية.ورئيس الدولة السيد قيس سعيد،الذي يرأس مجلس الأمن القومي؛ لم يدعُ هذا الهيكل الاستراتيجي إلى الاجتماع رغم أنه مخصص للنظر في كل ما يهدد أمن البلاد وسلامتها،فكيف والحال هذه والوباء يُهَدِّدُ سلامة الشعب التونسي بأسره، وذلك حتى يَتَجَنَّبَ مشاركة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب اللَّذَيْنِ يَرَى فِيهِمَا خَصْمَيْنِ لا شَرِيكَيْنِ.بينما أَجْمَعَ علماء تونس وأطباءها على أنَّه كان بإمكان الرؤساء الثلاثة، إنقاذ البلاد من تفشي هذا الوباء اللعين ،لو اتُخذت القرارات السليمة في الوقت المناسب .
يتفق العديد من المحللين السياسيين و الخبراء في الاقتصاد، وصناع الرأي في تونس ،أَنَّ هذه المنظومة السياسية الحاكمة مابعد 2011 ولغاية الآن ،هي من طبيعة معادية للدولة الوطنية الديمقراطية التعددية ،وللحداثة العلمية، وللعقلانية السياسية، وظلت رهينة لأجندات تحالفاتها مع أمريكا وفرنسا وتركيا وقطر،وعاجزة عن مجابهة جائحة كورونا،والتي لم تجد حلاً لمواجهتها سوى التسوّل لدى المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ) طلباً للإقتراض الخارجي،من دون اتخاذ أي خطوات إصلاحية مطلوبة أو حتى إبداء النيّة لذلك.
وهكذا ،أصبح الشعب التونسي تائهًا،وفاقدًا للبوصلة،ومحاصرًا من قبل لوبيات ومافيات الفساد التابعة للمستعمر الفرنسي،والبعير الخليجي،والبغل التركي،والثورالأمريكي،وهو شعب يئن تحت وطأة الفقر والغلاء والجوع ووباء كورونا.
عالم الشعب
أمًا العالم الثاني، فهو عالم الشعب بكل فئاته وطبقاته الاجتماعية،الذي يعيش منذ سنة 2011، ولغاية الآن ،على وقع أزمة بنيوية عميقة اقتصادية و اجتماعية و سياسية في ظل انتشار سريع وخطير لجائحة فيروس كورونا كوفيد 19، التي احتلت صدارة الأحداث في تونس منذ عدة أشهر، و أدت منذ ظهور هذا الفيروس بالبلاد مع بداية شهر مارس 2020 و حتى شهر يونيو 2021، إلى إصابة أكثر من 400 ألف إصابة مؤكدة بكورونا وأكثر من 16ألف وفاة.ومنذ انطلاق حملة التطعيم أواخر آذار/مارس2021، تمكنت السلطات التونسية من تلقيح حوالى 1.8مليون شخص بجرعة واحدة على الأقل في بلاد يقطنها نحو 12 مليون نسمة. كما قررت الحكومة الانطلاق في حملات تلقيح ميدانية عن طريق فرق متنقلة تابعة لوزارة الصحة حول البؤر.
بالنسبة للشعب التونسي الذي يعاني من تفشي قياسي لجائحة كوفيد-19، وما تبعها من انهيار اقتصادي واحتقان اجتماعي وتدهور للقدرة الشرائية، ترسخت لديه القناعة التالية :أنَّ الدولة التونسية الحالية دولة فاشلة ، لا سيما منذ أن استلمت المنظومة السياسية الحكم بعد سنة 2011 (الإسلام السياسي متمثلاً بحركة النهضة، وتحالفاته مع القوى السياسية المشبوهة التي تمثل الفساد والإرهاب ) ،فبعد عشر سنوات من حكم هذه المنظومة السياسية، حافظت على نفس منوال التنمية الذي كان سائدًا قبل الثورة، ويرتكز في النقاط التالية:
1-الإبقاء على الأجور في أدنى المستويات،2-التحكم في أسعار المواد الغذائية الأساسية،3-كبت القطاعات الطبيعية (العضوية)،4-تمويل الموازنة عبر التداين الخارجي،5-الاستثمار في المشاريع الكبرى المندمجة في الاقتصاد المعولم،6-توجيه الموارد الطبيعية والبشرية والمالية نحو المنتجات والخدمات ذات الميزات المقارنة في الأسواق العالمية
فتوالت الخيبات وفَشِلَتْ منظومة الحكم ما بعد 2011 في الاستجابةلإنتظارات الشعب التونسي من الثورة،حيث أصبح هذا الأخير يَلْعَنُ هذه الدولة التونسية الفاشلة والفاسدة حتى في ظل الرئيس الحالي قيس سعيد( الْمُتَرَدِّدِ، و الْفَاقِدِ لِصِفَاتِ رجُلِ الدولةِ القويِّ القادرِ على اتخاذ القرارات الوطنية المصيرية)، ويُكَّفِرُبمنظومة حكم ما بعد 2011.هذه المنظومة التي يدينها التونسيون اليوم بقولهم “لا تنتظروا من الدولة شيئا ” ،إِذْ أسهمتْ جائحة كورونا، في الكشف بأكثرِ وضوحٍ، عن حدَّة وخطورة الهشاشة الهيكلية التي عليها الاقتصاد التونسي خاصة مع تنامي الانعكاسات الاجتماعية(تنامي البطالة والهشاشة والفقر) وارتفاع نسق الإصابات بالكورونا، في ظل الهشاشة الحادة للمنظومة الصحية، وتفاقم الهشاشة الاقتصادية(غلق المؤسسات وتسريح جزئي أو نهائي للعمال و ارتفاع تكلفة دعم المؤسسات المتضررة نتيجة الحجر الصحي) و الهشاشة المالية(الارتفاع المهول لنسبة عجز المالية العمومية لسنة 2021)، و الهشاشة المؤسساتية(تنامي عجز الدولة ومؤسساتها، واستمرار الصراعات السياسية و المناكفات و النزاعات الحزبية المخجلة العاكسة لعدم النضج السياسي و لغياب المشاريع التنموية و الطموح للنهوض بالبلاد و العباد).
هشاشة النسيج الاجتماعي وانهيار المنظومة الصحية
يتسم النسيج الاجتماعي بهشاشة عالية ،شكلتْ وضعًا ملائمًا لانتشار الجائحة وسببًا رئيسيًا في ارتفاع كلفة مقاومة الجائحة في ظل أزمة حادة للمالية العمومية. هذه الهشاشة تبرز من خلال أهمية البطالة وهشاشة نسبة كبيرة للمشتغلين العاملين في القطاع غير المنظم أو العاملين بدون عقد عمل. فقد بلغت نسبة البطالة %13 سنة 2010 وبقيت تتراوح بين 15% و 16% في الفترة 2019- 2015وتجاوزت نسبة 16% منذ الثلاثي الأول من سنة 2020 لتبلغ 18% أثناء الموجة الأولى للجائحة أي الثلاثي الثاني وتسجل تراجعا طفيفا بعد التخلي عن الحجر الشامل وفتح الحدود منذ أواخر حزيران/يونيو2020..
وتمثل البطالة أقصى أوضاع الإقصاء والتهميش إضافة للإحباط ، لاسيما لدى حاملي الشهائد الجامعية الذين يبلغ عددهم 281000 في الثلاثي الثالث ونسبة بطالتهم 30.1% مقابل معدل عام للبطالة ب 16.2% في نفس الفترة . علما أن أعلى نسب البطالة تسجل لدى الشباب (من 15 الى 24 سنة ) بنسبة 7 35.% ولدى الإناث بنسبة 22.8 % (مقابل 13.5% لدى الذكور) خاصة صاحبات الشهائد العليا بنسبة 42% في الثلاثي الثاني.
كما تختلف نسبة البطالة (ذكور وإناث ) من ولاية الى أخرى مع اختلاف النسبة بين الذكور والإناث علما أن نسبة البطالة لدى حاملات الشهائد العليا وصلت مستوى 53.2% بقفصه وفاقت 40% بعشرة ولايات داخلية (قفصه ، سليانة ، مدنين ، القصرين ، قابس ، جندوبة ، سيدي بوزيد ، القيروان ، توزر وباجة ). بصورة إجمالية ، تمثل الفئات العاطلة عن العمل، و أصحاب المهن الهشة،أهم الفئات التي تعاني من ضعف القدرة على مواجهة جائحة كورونا، كما أنَّ هذه الفئات هي المعرضة أكثر من غيرها للتهديد بالسقوط تحت خط الفقر.
ويحدد المعهد الوطني للإحصاء خطين ونوعين من الفقرفي تونس: خط منخفض يمثل خط البقاء لأنه يمثل الحد الأدنى الذي لا يمكن تحته للأسرة تلبية احتياجاتها الغذائية. وهذا الخط المنخفض أي الحد الأدنى من الموارد يساوي 1032 دينار في السنة لكل فرد أي 2.8 دينار للشخص الواحد في اليوم. هذا الخط يحدد حجم الفقر المدقع الذي بلغ معدل 2.9 % سنة 2015 أي ما يقارب 321000 شخص. علما أن هذه النسبة تتراوح جهويًا بين 8.4 % في الوسط الغربي و 0.3% في تونس الكبرى.
أما الخط الثاني فهو الخط المرتفع الذي يمكن من تلبية الحاجيات الغذائية الأساسية دون التضحية بجزء منها لتغطية الحاجيات الأساسية غير الغذائية. وقد تم تحديد هذا الخط سنة 2015 ب % 15.2 ومثلت حوالي 1694000 شخص يعيشون في حالة فقر. علما أنه وعلى المستوى الجهوي تتراوح نسبة الفقر بين 30.8 % في الوسط الغربي و % 28.4 في الشمال الغربي مقابل 5.3 % في تونس الكبرى و 11.5 % في الوسط الشرقي.
ووفقًا لمعايير تقرير البنك الدولي في تحديده لنسبة الفقر،فإِنَّهُ يعتبرُ أنَّ عتبة الفقر المدقع (Pauvrete extreme ) تحدد في مستوى 1.9 دولار كحد أدنى للنفقات لتسديد الحاجيات الدنيا في اليوم لكل فرد أي ما يقابل حوالي 5.4 دنانير في اليوم . وعلى هذا بالنسبة للبنك الدولي يوجد في تونس حوالي 1.7 ملايين تونسي فقراء يعيشون بأقل من 9 دنانير في اليوم حوالي نصف مليون ضحايا الفقر المدقع . بالتالي يعتبر البنك الدولي أنَّ نسبة الفقراء تتراوح بين 18% و 16% في تونس سنة 2015 ويصنف تونس من أكثر البلدان فقرًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا (MENA).
وتعاني تونس من الفوارق بين المناطق (الجهات) من حيث نسبة انتشار الفقر، خاصة في مناطق الوسط الغربي والشمال الغربي اللذين بقيا من أكثر الجهات فقرًا، ولهذا ليس عبثًا أن تنتشر جائحة كورونا في محافظات (ولايات) باجة وجندوبة و الكاف، وسليانة،والقيروان، والقصرين ،والتي أصبحت تلقب بالمحافظات الموبوئة، نظرا لانتشار الوباء ، الذي تفشي بسرعة متناهية خاصة بعد سيطرة السلالة البريطانية ودخول السلالة الهندية الخطيرة للغاية إلى تونس ،وإخفاق جلّ الإجراءات المعلنة من قبل السلطات التونسية في تحويلها من قرارات إلى ممارسة محترمة من قبل غالبية المواطنين .
إلى جانب الفوارق بين المناطق (الجهات) نسجل في تونس وجود فوارق بين الفئات المهنية حيث أنَّ الأسر التي على رأسها عاطل عن العمل تبقى من أكثر الأسر فقرًا. من ذلك أنَّ هذه الأسر التي لا تمثل إلا حوالي 2% من مجموع السكان في تونس نجدها تمثل قرابة 9% من الذين يعيشون تحت عتبة الفقر المدقع . وهذا الوضع مرشح الى التفاقم نظرًا الى ارتفاع نسبة البطالة التي ستتجاوز نسبة 17 % المسجلة في سنة 2020 لتبلغ حوالي 20 % في سنة 2021 ،نتيجة لسرعة انتشار جائحة كورونا في المدة الأخيرة . وبجانب ارتفاع نسبة البطالة هناك غياب نظام يسند منحة البطالة للعاطلين عن العمل خاصة في ظل الازمات المتكررة للمالية العمومية ومشاريع التخلي عن برنامج دعم النفقات التي تخص الحاجيات الأساسية.
إلى جانب العاطلين عن العمل الممثلين لأهم شريحة نسبيا للفقراء نجد عمال الفلاحة والمزارعين والحرفيين الناشطين المستقلين في ميادين التجارة والصناعة … كل هذه الفئات تعاني من غياب برامج إستراتيجية تهدف الى النهوض بالقطاعات التي تمثل مجال نشاطهم إضافة إلى وضع الفتور الذي يميز منوال التنمية الحالي وغياب مشاريع بدائل لهذا المنوال نظرا لانعدام المسؤولية لدى الفئات الحاكمة وانكباب هذه الأخيرة على التكالب على المواقع وتحسين نصيبها من الغنيمة أو ما تبقى منها في ظل تراجع نسق نمو الإنتاج في اطار المنوال تنمية متهرئ.
هشاشة المنظومة الصحية في تونس
لا يمكن تطويق جائحة كورونا والحد من انتشار الفيروس وارتفاع الإصابات الى مستوى عال جدًّا في ضوء هشاشة المنظومة الصحية ،وهشاشة النسيج الاجتماعي والاقتصادي.وكان شهر يونيو2021 الأكثر كارثية إذ حققت فيه تونس كل الأرقام القياسية الكارثية من حيث عدد الإصابات (74629 إصابة جديدة،وعددالوفايات في حدود 2305 وفاة جديدة) .أما خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو 2021، فقد بلغ عدد الإصابات 44811، وعدد الوفيات 776، وقد وصل طاقة استيعاب المحتاجين إلى العناية المركزة إلى حدودها القصوى في معظم المحافظات(الولايات )وخاصة في الشمال الغربي وفي الوسط ، والتي كشفت عن حدود طاقة وامكانيات استيعاب المنظومة الصحية .
علما أنَّ الإجراءات الصارمة التي اتخذتها حكومة المشيشي من شأنها أنْ تُعَطِلَ الحركة الاقتصادية وتزيد من أزمة المالية العمومية من جهة، كما أنَّها تفترض نفقات عمومية إضافية لدعم المؤسسات حتى لا تنهار وتغلق أبوابها لدعم العمال الفاقدين جزئيًا أو كليًّا لشغلهم وللتدارك ولو جزئيًا للوضع الرديء للمنظومة الصحية ، وذلك في ظل تراجع الموارد العمومية وتنامي عجز الميزانية والغموض السائد حول مصادر تمويل هذا العجز المتنامي . مثل هذا الوضع طرح معادلة صعبة التحقيق تتمثل في المحافظة على صحة المواطن من جهة والحفاظ على الحدِّ الأدنى من النشاط الاقتصادي قصد دعم قدرة البلاد على مواجهة الجائحة . بعبارة أخرى مثل هذه المعادلة تتمثل في إيجاد توازنٍ صعبٍ بين المنطقِ الاقتصادِي المالي وبين المنطقِ الصحِي الاجتماعِي.
في تحليله للانتشار السريع لفيروس كوفيد-19، يقول الدكتور عبد الجليل البدوي،في كتابه (أزمة المالية العمومية لسنة 2020و 2021) ) الصادر بتونس في شهر يونيو2021:”الجدير بالذكر أنَّ أثناء الموجة الأولى للجائحة قد وقع تغليب المنطق الصحي عبر اعتماد إجراءات شاملة وصارمة كان مفعولها إيجابي بفضل ضعف الفيروس أثناء الموجة الأولى والانضباط النسبي للمواطنين الذين تملكهم الخوف من انتشار الفيروس في ظل وعيهم بهشاشة المنظومة الصحية ،إلا أنَّ التوظيف السياسي للنتائج الإيجابية وصيحات “الانتصار على الجائحة” التي اطلقتها بعض الأطراف السياسية ، وخاصة في ظل تلميع وزير الصحة السابق القيادي في حركة النهضة عبد اللطيف المكي ،وعديد وسائل الاعلام، أدَّت الى التسيب من قبل المواطنين وتراجع الخوف من انتشار الجائحة، ومهدت إلى التخفيف من الإجراءات وفتح الحدود في 27 يونيو2020،بحثا عن إنقاذ الموسم السياحي والوضع الاقتصادي ، لتقود في الأخير إلى تغليب المنطق الاقتصادي والمالي على حساب المنطق الصحي ، مما فتح الطريق واسعًا أمام الموجة الثانية وانتشار سريع ومخيف للجائحة كشف بأكثر وضوح وفي آن واحدٍ حجم هشاشة المنظومة الصحية ودرجة هشاشة النسيج الاجتماعي . ذلك أنَّ المحددات الاجتماعية ( البطالة ،التشغيل الهش ،الفقر، الامية ، عدم نفاذ الماء الصالح للشراب ، عدم الربط بشبكة الصرف الصحي …) تؤثر بشكل كبير على الحالة الصحية للفئات اجتماعية عريضة .والمؤشرات المتوفرة تشير أن الوضع العام لا يمكن أن يساهم في إرساء حالة صحية تساعد على مواجهة جائحة كورونا.
الليبرالية الاقتصادية وتنامي المستشفيات الخاصة وهجرة الأطباء
لقد انساقت تونس في الخيارات الليبرالية الجديدة منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين ، وطبقت بذلك سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي، أو بالأحرى استراتيجية الخصخصة الهيكلية للإقتصاد ، بإشراف مباشر من صندوق النقد والبنك الدوليين المدعوم بمواقف البلدان الرأسمالية الكبرى .
ومع انتشار الليبرالية الاقتصادية على أوسع نطاق في تونس ، أنشأت العديد من المستشفيات الخاصة ،وشهدت المنظومة الصحية تخلي العديد الأطباء عن العمل بالمستشفيات العمومية والانتقال الى القطاع الخاص للعمل لحسابهم الخاص أو العمل داخل المستشفيات الخاصة التي عرفت تناميًا ملفتًا لعددها في فترة الانتقال الليبيرالي .وقد أصبح هذا القطاع يحتوي على النصيب الأكبر من حيث التجهيزات الثقيلة في البلاد. وتفيد المعطيات المتوفرة لدى المجلس الوطني لعمادة الأطباء أن هذا القطاع بالنسبة لسنة 2016 يشغل 53% من الأطباء و 77% من الصيادلة و 79% من أطباء الاسنان في البلاد.
علما أنَّ تشجيع المستشفيات الخاصة بالتوازي مع تهميش القطاع العمومي في المجال الصحي كانت نتيجته تقزيم دور الدولة في المجال الصحي، وعدم استثمارها في تطوير البنية الصحية في البلاد. هذه السياسات من شأنها أن تعمق الفوارق بين الفئات الاجتماعية نظرا لان الفئات الفقيرة لا اختيار لها سوى التوجه إلى المستشفى العمومي عند الحاجة للتداوي.
وفضلاً عن ذلك، كان نتيجة لانهيار المنظمة الصحية الوطنية تزايد هجرة أعداد كبيرة من الأطباء التونسيين إلى فرنسا وألمانيا وبلدان الخليج بالخصوص . وهذا النزيف من الكادر الصحي لا يهم فقط الأطباء الشبان بل كذلك المتقدمين في السن أصحاب التجربة والخبرة بما في ذلك عدد من رؤساء الاقسام في مختلف الاختصاصات بالإضافة الى أساتذة الطب. وتفيد المعطيات الصادرة عن المجلس الوطني لعمادة الأطباء أنَّ أكثر من 45% من الأطباء بالعمادة سنة 2017 قد غادرو البلاد للعمل بالخارج مقابل نسبة لم تتجاوز 7% سنة 2013. ولعل من أهم المؤشرات لظاهرة هجرة الأطباء مشاركة العديد منهم في مختلف الاختصاصات كل سنة في مناظرة معادلة الشهادات ومراقبة المعارف بفرنسا في سنة 2017 نجح أكثر من 240 طبيبا في كل الاختصاصات وسجل نجاح التونسيين نسبًا عالية في عدد الاختصاصات ( 88% في طب القلب والشرايين و86% في التصوير الطبي و80% في الإنعاش الطبي).
وزادت الوضعية سوء أثناء جائحة كورونا حيث تنامت ظاهرة الجشع والمضاربة والاحتكار لدى القطاع الصحي الخاص أمام عجز القطاع العام على مواجهة الانتشار السريع لفيروس كورونا في الأشهر الأخيرة بالخصوص. من ذلك أنَّ القطاع الخاص أصبح يفرض دفع ضمانات خيالية تصل قيمتها إلى30000 دينار تونسي(حوالي 10000دولار أمريكي) لتمكين المرضى من الدخول إلى المصحات الخاصة للتداوي. وأمام هذا التَكَالُبِ على استغلال المآسي أصبحت الطبقة الوسطى غير قادرة على النفاذ إلى الخدمات الصحية كما تؤكد على ذلك حادثة وفاة القاضية التي تنتمي إلى عائلة تتمتع بدخل محترم متكون من دخل المرأة ودخل الرجل . وعموما المواطن التونسي عندما يُصَابُ بالكورونا يَجِدُ نفسه عاجزًا ومحبطًا أمام مستشفياتٍ عموميةٍ منهارةٍ تشكو من نقص شامل في التجهيزات والطاقم الطبي والأدوية وفي الصيانة من جهة، وأمام مستشفيات خاصة تتفنن في استغلال الفرص لابتزاز المواطن بدون شفقةٍ ولا رحمةٍ من جهة أخرى. بجانب ذلك يجد المواطن صناديق ضمان اجتماعي مكبلة بالديون لا تضمن تحمل المصاريف علاج الكورونا ولو بصفة جزئية رغم ما تكبده المواطن من مساهمات اجتماعية طوال سنوات لفائدة هذه الصناديق.
خاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
وكالعادة بعد كل جائحة ، ارتفعت عديد الأصوات منادية بالتركيز على ما بعد الكورونا لامتصاص تأثيراتها الكارثية ولمراجعة الاختيارات الاقتصادية القائمة والتي ساعدت على بروزوانتشار الجائحة الحالية .فقدأفضى المحافظة على منوال التنمية القديم من جانب الطبقة السياسية الحاكمة في تونس منذ سنة 2011 وليومنا هذا ،على احتداد أزمة المالية العمومية خلال سنة 2020-2021،وفقدان البلاد السيادة الغذائية والتدحرج إلى أسفل سلسلة القيمة المضافة واندثار القدرة على التخطيط الاقتصادي ،وخاصة الاعتماد على الديون الخارجية والارتهان للمؤسسات الدولية المانحة، ورهن السيادة الوطنية للخارج مثال(مصادقة البرلمان التونسي مؤخرًا على الاتفاقية مع الصندوق القطري، التي تجسّد سياسة التمكين التي تمارسها حركة النهضة، وتساهم في تبييض الأموال.(
ويمتاز المنوال الاقتصادي التونسي بضعف قيمة العمل، والتقيُّد بأجندات خارجية والانسياق الأعمى وراء سياسات التبادل الحرِّ وتهميش القطاعات الطبيعية كالفلاحة، والتركيز على القطاعات الثانوية والريعية والاستنزافية، مثل السياحة. وهو منوال غير منتج ولا يخلق مواطن شغل، ومكبل للاقتصاد الطبيعي العضوي ومُفقر للعامة ومتسبب في كوارث اجتماعية صحية لا تحصى ولا تعد. إن إعادة النظر في المنوال الاقتصادي مسألة على غاية من الاستعجال والأهمية لكنها تعني مواجهة مباشرة مع الطغمة الرأسمالية الطفيلية المتمعشة منه التي لا مصلحة لها في تغييره، بل تعمل بنسق حثيث على الإبقاء عليه ومزيد تكييفه لصالحها.
من الواضح أنَّ استفحال هذه الجائحة و تداعياتها الخطيرة مرتبطة بمنوال التنمية القائم في تونس، والذي وصل إلى طريقٍ مسدودٍ، ويحتاج إلى تغييره بمنوال تنميةٍ جديدٍ، لكنَّ عملية التغيير هذه تصطدم بطبقة رأسمالية طفيلية وفاسدة تقف على رأس النظام الاقتصادي الريعي ، هدفها المراكمة السريعة للربح والحفاظ على مواقعها وامتيازاتها. وهي تتكون من كبار رؤوس الأموال وثلة من المسؤولين الساميين، تحيط بهم شبكات علاقات في الدولة العميقة ،والمنظمات والمؤسسات، ومحمية من قبل المنظومة السياسية الحاكمة منذ سنة 2011 و لغاية الآن التي تَدَّعِي زُورًا وَبُهْتَانًا أنَّها حاميَةٌ الثورة، لكنَّها في الواقع العملي هي منظومة سياسية متحالفة مع الفساد، والإرهاب، و الاقتصادي الموازي(التهريب).
وترتبط هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية الفاسدة خارجيًا بالدوائر المالية وبالاقتصاد المعولم عن طريق شبكات التبادل الحُرِّ والعلاقات مع الممولين والبنوك والمستثمرين الأجانب، من داخل ومن خارج الدولة. مما يجعلها قناة للمصالح الخارجية في تونس. تَصْدُرُ عن هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية أهم السياسات العمومية المالية والتنموية والتحفيزية والحمائية التي تتحكم في العلاقات الاقتصادية، وذلك مهما كانت نتائج الانتخابات كما لاحظناه في السنوات العشر الأخيرة.
على المستوى الاقتصادي، تتموقع هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية بالخصوص في ثلاث أصناف من الأنشطة: القطاعات الريعية البحتة كالصناعات الاستخراجية والاتصالات والمالية والتجارة المبنية على الملكية الفكرية، والقطاعات التي تستغل اليد العاملة الرخيصة كالنسيج والصناعات الغذائية والخدمات، والقطاعات التي تحتكرها الدولة أو تحفزها أو تمنعها. وهي إما قطاعات تتمتع بامتيازات ضخمة أو بحماية خاصة، مما يفسر تحولها في الأخير إلى قطاعات تولّد ريع المواقع.
تمتاز هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية الفاسدة بقُدرتها على تطويع القوانين لخدمتها وتكييف السياسات العمومية بما يخدم مصالحها، مُتماهية مع الهيمنة الخارجية. وهي تتموقع أيضا في أهم التمثيليات النقابية والأطر التفاوضية، والطبقة السياسية الحاكمة(خاصة حركة النهضة وحزب قلب تونس، وأحزاب أخرى انبثقت من حزب “نداء تونس”،وتنظيم الكرامة الإرهابي الذي يمثل الذراع اليمنى لحركة النهضة )، وتلعب دورًا واضحًا في رسم السياسات الاقتصادية بما يخدم مصالحها ويقصي مصالح بقية الفئات الاجتماعية، ولعل كارثة جائحة كورونا كشفت عن الوجه القبيح لسياساتها. إذ تعتبر منبعا لا ينضب للفساد بكل أنواعه، وحاضنة لتبييض الأموال وبوابة للتهرب الضريبي كما بينته وثائق باناما وفضائح البنوك العمومية.
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال