تونس بين الفساد السياسي والمالي والشعبوية

تتواصل أزمة النظام السياسي الحاكم في تونس فصولاً،منذ أن رفض الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ التعديل الوزاري الأخير الذي أجراه رئيس الحكومة هشام المشيشي،والمأزق الدستوري الذي اتصل به، لجهة احتدام الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية،والذي أفضى إلى تعطّل مصالح الدولة وإلى شلل عام لكلّ أجهزتها، الوضع السياسي الذي بات يتجه للمجهول، إضافة إلى تداعياته الاقتصادية و الاجتماعية على وضع البلاد الهش أساسًا،لا سيما في ضوء تراجع التصنيف الإئتماني لتونس الذي أصدرته وكالة”موديز” منذعشرة أيام.
الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية هي المعضلة الحقيقية في تونس
لم يأت إعلان وكالة التصنيف الائتماني “موديز”، لتونس من عبث ،حيث أكّدت الوكالة عن تخفيض ترقيم إصدار العملة الأجنبية والعملة المحلية لتونس من ب2 إلى ب3 مع الإبقاء على آفاق سلبية، لينذر بإمكانية أن تتسم المرحلة المقبلة بمزيد تخفيض الترقيم السيادي للبلاد إلى – ج أأ1- وهو ما يعني تصنيفها في موقع عالي المخاطر بمعنى عدم القدرة على الإيفاء بالالتزامات المالية.
ومن جانبه، أبرز الوزير السابق المكلف بالإصلاحات الكبرى توفيق الراجحي أنّ “هذا التصنيف يأتي من إحدى أكبر وكالات الترقيم السيادي في العالم ويمثّل موقف المؤسسات الدولية وتقييمهم للوضع الاقتصادي في تونس، بما فيهم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي”.
وأثار التصنيف الجديد جدلاً واسعاً في الأوساط التونسية، حيث قال مدير عام التمويل والدفعات الخارجية بالبنك المركزي عبد الكريم الأسود: إن الترقيم السيادي السلبي لتونس له تأثير سلبي على توجه وزارة المالية، للحصول على ضمان قرض بمليار دولار من إدارة الرئيس الأمريكي جو بادين، وإصدار صكوك بالسوق الدولية في وقت لاحق، كما سينتج عنه تكلفة أكثر بالنسبة للتداين الخارجي.
كما أعرب الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد العام التونسي للشغل عن انشغالهما لانحدار الترقيم والتصنيف السيادي للبلاد، وأشارا في بيان مشترك إلى ما قد يترتّب عنه من تداعيات وخيمة، من بينها عدم قدرة تونس على الإيفاء بالتزاماتها المالية، معتبرين أنّ الأزمة الراهنة قد أسهمت في هذا التخفيض، الذي ستكون كلفته عالية جداً على الاقتصاد الوطني وعلى التونسيين بصفة عامة.
كما نبها إلى أنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي الراهن بلغ مرحلة خطيرة جداً وزاد في تفاقم المصاعب التي تواجهها كلّ الفئات والقطاعات من إجراء سواء أصحاب مؤسّسات وحرفيين ومهنيين لا يزالون تحت وطأة انعكاسات وباء “كورونا” الذي عمّق تدهور أوضاعهم، وأثّر على مستوى عيشهم وعملهم.وفي الأثناء، بيّن عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية سليم غربال أن 40% من المؤسسات الاقتصادية الصغرى أقفلت، و40% أخرى مهددة بالإفلاس.
ويشير المراقبون إلى أن تونس تعيش أزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ استقلالها في العام 1956، محذرين من إمكانية دخولها مرحلة الإفلاس، خصوصاً أنَّ العام الجاري يشهد عجزاً في ميزانية الدولة بنحو 3.2 مليارات دولار، إضافة إلى ديون خارجية مستحقة الدفع تصل إلى نحو 6 مليارات دولار.
وكان النمو الاقتصادي خلال سنة 2020 قد تراجع بشكل غير مسبوقٍ إلى -8.8%، وفق ما كشفه المعهد الوطني للإحصاء، إذ خسرت تونس بين 2011 و2015 قرابة 3 نقاط في نسق النمو من قرابة 4.5 % خلال الفترة من 2000 إلى 2010 إلى 1 % خلال سنة 2016 مع خسارة قرابة 28 مليار دينار(14 مليار دولار)، كان بإمكان الاقتصاد التونسي تحصيلها لو سارت الأمور عادية ووفق ما كان مخططا له قبل اندلاع الثورة.وهورقم يغني عن كل تعليق بل كان سيغني عن كل القروض التي حصلت عليها البلاد في السنوات الخمس الأخيرة والتي ذهبت النسبة الأكبر منها في الاستهلاك ودفع الأجور بعيدًا عن التنمية وبعيدًا عن الدخول في الدورة الاقتصادية والتنموية.كما أنَّ التهربَ الضريبي يَحْرُمُ الدولة التونسية 5مليار دينار سنويا، أي ما يعادل 2.5مليار دولار.
في العقد السابق للثورة كان متوسط النمو الاقتصادي في تونس 4.5%سنويًا،وفيما بعد وصول حركة النهضة إلى السلطة في سنة 2011،بدأ هذا النمو يتجه نحو الانحدارإلى أقل من 1في المئة، ثم دخل في مسلسل الأرقام السلبية .و فيما يعتبر الخبراء أنَّ هذا الأمر يعود جزئيًا إلى عوامل خارجية منها بطء النمو في بلدان الاتحاد الأوروبي بحكم تبعية الاقتصاد التونسي لدول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى تراجع مداخيل الدولة بسبب تدنى إيرادات القطاع السياحي من العملة الصعبة في ظلّ الانخفاض الحادّ في مداخيله، وتحديداً بعد الهجمات الإرهابية التي عرفتها تونس في قصر باردو وسوسة سنة 2015 وتأثيراتها على مردود السياحة ،و أخيرًا جائحة كوفيد 19منذ 2020.
أمَّا على صعيد العوامل الداخلية، فقد أضرت حركة الاحتجاجات الاجتماعية التي عاشتها تونس منذ سنة 2011 ولغاية الآن، و الإضرابات في جميع القطاعات الاقتصادية بعجلة الاقتصاد التونسي،بل أدَّت إلى تدميرالإنتاج في صناعة الفوسفاط، الأمر الذي تسبَّبَ في نقص موارد الدولة من مداخيل الفوسفات التي تُقدّر بخمسة مليارات دينار (2.5مليار دولار)،إذ تراجعت الكميات المصدرة منه في ظل تعطل الإنتاج في الحوض المنجمي ،وأصبح إنتاج الفسفاط اليوم يعادل إنتاج تونس من نفس المادة لسنة 1928 ،كما تراجع إنتاج البترول والغاز،الذي كان يغطي حوالي 93 في المائة من الحاجات الوطنية ،أهم مورد للعملة الصعبة في البلاد،و تقليص إنتاج النفط و الغاز.
كما أن السياسة العشوائية للتحرير الاقتصادي والانفتاح على السوق الرأسمالية العالمية، ألحقت ضرراً كبيراً بالصناعات التقليدية التونسية، نظراً لإغراق السوق التونسية بالسلع الرخيصة وذات النوعية الرديئة،وتزامنت مع انسحاب الدولة من الاستثمار في القطاع الزراعي، الأمر الذي قاد عملية تحرير أسعارمستلزمات الإنتاج في قطاع الزراعة كالبذور والأسمدة والأعلاف ومياه الريّ وفي المقابل تجميد أسعار أهم المنتوجات كالحبوب مثلا الذي يبقى لخمس سنوات متواصلة لا يتغيّر..
بشهادة كبار الخبراء في الاقتصاد سواء من الدول العربية أومن الدول الغربية، يعتبر النموذج الاقتصادي التونسي هجيناً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى دقيق، فهو ليس نموذجاً رأسماليا خالصاً على الطريقة الغربية خاضعاً لقانون السوق،بل هو نموذج خاضع لقانون مافياالفساد السياسي و المالي و الإداري المهيمنة على الاقتصاد التونسي في ظل الحكومات المتعاقبة ما بعد سنة 2011،لتتحول تونس بعد ما سمي بالثورة إلى ما أشبه بالعيش في العصور الإقطاعية ، لا في عصر العولمة الليبرالية ،بسبب تفاقم المشاكل طويلة الأمد مثل البيروقراطية، وصعوبة الحصول على التمويل،وتحول الفساد إلى آفة تأكل الأخضرواليابس،ونمو الاقتصاد الموازيى الذي بلغ نسبة 53%، متفوقًا على الاقتصاد الرسمي،إلى جانب قطع استثمارات الدولة في البنية التحتية لتمويل الفاتورة المتزايدة لأجور القطاع العام ،لا سيما بعد عملية التوظيف العشوائي التي قامت بها حركة النهضة حين وصلت إلى السلطة ، ودعم المواد الغذائية،وكذلك المساعدات للمؤسسات العمومية.
تعيش تونس اليوم في الهاوية،لا سيما بعد ما خلّفته جائحة “كورونا”من أضرار على الاقتصاد ، بل إنَها تتجه نحو السيناريو اليوناني،بيد أنَّ اليونان قام بالتضحيات اللازمة، وسانده أيضاً الاتحاد الأوروبي بضخ نحو 87 مليار يورو، ولكن تونس تواجه مصيرها وحدها رغم بعض المساعدات من الدول الأوروبية ومن صندوق النقد الدولي.وتحتاج تونس خلال سنة2021 إلى تعبئة قروض جديدة من الخارج بالعملة الأجنبية بـ 7.2 مليارات دولار، بما في ذلك نحو 5 مليارات دولار من القروض الأجنبية و2.2 مليار دولار من السوق المحلية.
“توازن الضعف”وانسداد الأفق
الأزمة التي تعيشها تونس، هي أزمة بنيوية، أي أزمة نظام سياسي عاجز عن إرساء دولة الحق و القانون، وبناء الدولة الديمقراطية الوطنية التعددية القائمة على المؤسسات، في ظل هذه الديمقراطية الناشئة.فالمتابع للمشهد السياسي التونسي،يلمس بوضوح مظاهرغياب الدولة أو الدولة المتغيبة، في ظل حزمة الأزمات المستعصية التي تعيشها البلاد،فلا نجد ثقل الدولة التي من المفترض أن تكون دولة الكل الإجتماعي،دولة كل المواطنين،وهو الوحيد القادرليس بتعديل الموازين بل بقلبها لمصلحة كل ما هو منظم بالقانون،وكلما يتماشى مع قوانين البلاد و دستورها.فقد أظهرت الأزمة الأخيرة التي تعيشها تونس أن الدولة لم تقدر بعدُ على فرض هيبتها بالوجه الكافي،وعلى تحقيق الانتظارات الشعبية،فبدت ضعيفة هشة رغم تركيز سلطات منتخبة ودائمة ومسنودة سياسيًا.
فالأزمة السياسية الناجمة عن التعديل الوزراي الأخير مستمرة بقوة، بعد رفض رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد هذا التعديل الوزاري،ورفضه أيضًا كل الدعوات للحوار رغم التدخلات و الوساطات التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل،وباقي المنظمات الوطنية،حيث يذهب المراقبون إلى القول أنَّ الرئيس سعيد أصبح جزءًا من الأزمة السياسية ومن التجاذبات و الصراعات السياسية.
في ظل التصريحات و الإنهاك المتبادل بين رئيس الدولة التونسية قيس سعيد وداعميه من أحزاب سياسية ممثلة في البرلمان(حركة الشعب و التيار الديمقراطي) وأنصاره من حزب”الشعب يريد” الذي تأسس في شهر يوليو/تموز 2020،وبدأ يظهر على الساحة الإعلامية و السياسية مؤخرًا، و رئيس الحكومة هشام المشيشي المدعوم من حزب النهضة الحاكم في تونس منذ عشر سنوات،وحلفائه من “اِئْتِلاَفِ الكرامة” السلفي اليميني المتطرف،وحزب قلب تونس الذي يقبع رئيسه في السجن بتهمة شبهة فساد.
يخيم على المشهد السياسي التونسي “توازن الضعف” بين قصر قرطاج وقصر القصبة،بين الرئيس سعيّد الذي يصفه خصومه بأنَّه مصابٌ “بلوثة الشعبوية التي لا عقل لها”،وبين رئيس الحكومة المشيشيي الذي فقد مصداقيته بالكامل بعد مأزق التعديل الحكومي،وما صاحبه من أزمة هيكلية عميقة،ماليا واقتصاديا واجتماعيا،إضافة إلى الدعم الذي يتلقاه من أحزاب الفساد السياسي والمالي،حزب “قلب تونس” ، وخاصة “حزب النهضة” حيث تواترت في الآونة الأخيرة تصريحات لعدد من قياداته الغاضبة ،تؤكد على غياب الحوكمة والشفافية داخل الحزب وآخر هؤلاء هو عماد الحمامي في ظهوره التلفزي الأخير..
فحزب النهضة يتلقى أموالاً ضخمة من أطراف إقليمية معروفة (قطر وتركيا)، ما جعل جزءًا كبيرًا من الرأي العام التونسي والأحزاب الوطنية يهتمون بطرق تمويل وتسيير هذا الحزب لميزانيته الضخمة التي بقيت “تابوه” بحكم هيمنة رئيس الحزب راشد الغنوشي على المالية بصورة إطلاقية، وطريقة تسييره الإداري و المالي للحزب .فقد صدرت مؤخرًا تصريحات لبعض قيادات بارزة في النهضة تتحدث عن وجود مؤشرات قوية داخل الحزب حول الفساد المالي و الإداري،خاصة في علاقة ذلك بثروة رئيس الحزب راشد الغنوشي،في ظل غياب الحوكمة و الشفافية، وتطالب بإصلاحات جوهرية وبمزيد من ترسيخ الديمقراطية و الحوكمة الرشيدة داخل الحزب، وبنقد”الانتهازية و السلوكيات الوصولية ” لا سيما في ظل وجود قيادات نهضوية مستفيدة ماليًا من بقاء الغنوشي على رأس الحزب..كما كشفت تقارير تونسية تتحدث عن علاقة حزب النهضة برجال الأعمال الفاسدين ، وهو ما جعل بعض القيادات النهضوية تتحدث عن تطبيع معلن مع الفاسدين.
كما أكَّدَتْ النائبة سامية عبوعن كتلة التيار الديمقراطي في البرلمان أَنَّ ملف عشرات رجال الأعمال ممن تمت مصادرة أموالهم تم إخضاعهم للإبتزاز عندما كان القيادي في حزب النهضة
نور الدين البحيري، وزيرًا للعدل..كما أنَ اليوم ومع اصطفاف قيادة حزب النهضة إلى جانب نبيل القروي المودع بالسجن و الملاحق بنهمة التهرب الضريبي و تبييض الأموال و المفرج عنه بكفالة ال10مليارات،(حوالي 3ملايين دولار )، أثارت بدورها نقاط استفهام حول علاقة حزب النهضة بمتورطين في قضايا فساد بعد تأكيد في وقت سابق راشد الغنوشي و قضية القروي لا تزال جارية، أنَّه سيغادر السجن معززًا مكرَمًا وهو ما حصل بالفعل،عندما تم الإفراج عنه بكفالة.
تونس بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد و حكومة إنقاذ وطني
إنَ حلَّ الأزمة التونسية لا بد أن يكون عن طريق الحوار الوطني ، بعيدًا عن الشروط التعجيزية التي تفرضها الأطراف الماسكة بالحكم و بزمام الأمور و المتورطة في هذه الأزمة، لأنّ الخلافات الموجودة اليوم تفرض لمعالجتها التوافق بين الفرقاء ولا مجال لحلها بالاستقواء بالشارع كما فعل حزب النهضة ،وهو ما يستوجب حواراً أكيداً وسريعاً،مع أخذ بعين أنَ ظروف أزمة سنة 2013، تختلف عن ظروف الأزمة الراهنة.
ومع ذلك ،لا بديل عن الحوار الوطني الذي يجب أن تلعب فيه المنظمات الوطنية الأربع دورًا بارزًا فيه،ووضع أهداف وخارطة طريق، تماماً مثلما فعل الرباعي الراعي للحوار سابقاًفي سنة 2013، الذي أسهم في إخراج تونس من أزمتها، ولولا الحوار لما كان الدستور الحالي، الذي يبقى جيداً على الرغم من بعض النقائص التي يمكن إصلاحها.
في ظل الديمقراطية الناشئة في تونس، وهي بالمناسبة ديمقراطية غير ناضجة،ومن مظاهر عدم نضجها،تعدد الأحزاب ذات الرؤى و البرامج المتشابهة،ولكنها ترفض الاندماج أو التكتل فيما بينها،بسبب مرض الزعامة لقادتها،على القوى الوطنية والديمقراطية التونسية، والمنظمات الوطنية الأربع،ومنظمات المجتمع المدني ،وكل العقلاء من سياسيين ونقابيين، أن يجتهدوا عبر الحوار الوطني،لبلورة عقد اجتماعي جديد للبلاد،عبر تشريك كل الأطراف الاجتماعية في العقد الاجتماعي الجديد، ليتم تحديد كل المسؤوليات ،وتشكيل حكومة إنقاذ وطني حقيقية تخرج البلاد من أزمتها العميقة.
وير تكز هذا العقد الاجتماعي الجديد إلى النقاط الأساسية التالية:
1-التحرر الحقيقي من عقلية الدولة الغنائمية( حيث لاتزال الأحزاب الحاكمة تعتبر الدولة في نظرها دولة الغنيمة )وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية أي دولة القانون ،بما تتضمنه دولة المؤسسات،عبر استبدال القانون الانتخابي الحالي القائم على العتبة،والذي أفرز تكتلات برلمانية فسيفسائية متناثرة ومتناقضة إيديولوجيا و سياسيا،من خلال توزيع المقاعد بين العديد من الأحزاب، ومنع حصول الحزب الأكبر على الأكثرية في البرلمان، ما أدَّى إلى تشكل الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2011وليومنا هذا ،دون أن تحقق الإصلاحات الحقيقية في البلاد.وفضلاً عن ذلك،تعيش تونس في ظل نظام نصف برلماني نصف سياسي هجين،أسهم في تعميق ازدراء الشعب من الطبقة السياسية الحاكمة، بحكم فسادها،و السلوك السيىء لدى العديد من أعضاء البرلمان الذين يغير ون أحزابهم متى شاؤوا، ويستخدمون مناصبهم من أجل الإثراء الشخصي، ونادرا ما يحضرون في البرلمان أو الذين يعطلون عمل البرلمان بعراك بالأيدي أو بالإعتصامات.
2-القيام بالإصلاحات السياسية الحقيقية ،والتي تشمل سدّ الثغرات في الإطار الدستوري عبر تشكيل المحكمة الدستورية،و تغيير القانون الانتخابي من أجل إنتاج حكومات أقوى و أطول أمد،وبناء ثقافة المسؤولية تجاه الناخبين بين السياسيين،وكلها غير مرجحة في الوقت الراهن. فمن دون هذه الإصلاحات السياسية و الدستورية،ستبقى الثورة غير مكتملة،وسيستمر عدم الاستقرار السياسي و الاجتماعي.
3- إن الإخفاق الذي واجهته الحكومات التونسية المتعاقبة منذ سنة 2011، يعودإلى تمسكها بالليبرالية الاقتصادية الجديدة،التي تعيد الأسباب في إخفاق تونس تحقيق معدل نمو كبير إلى تدخل الدولة، بينما أنصار الدولة التنموية في تونس يُعِيدُونَ أسباب الإخفاق إلى إغراق الحكومات المتعاقبة تونس بالديون الخارجية، التي جعلتها تلجأ إلى المؤسسات الدولية المانحة التي فرضت عليها “الإصلاحات والتكيف الهيكلي”، الذي قاد إلى إفقار عموم الطبقات الشعبية والطبقة الوسطى لمصلحة الطبقة الرأسمالية الطفيلية،وأدّى إلى إطلاق ما بات يعرف في تونس ب”اليد الخفية”أي مافيات الفساد التي تسير شؤون الاقتصاد،وعجزكل الحكومات عن محاربة الفساد وتخلف أجهزة الدولة التونسية، وغياب المساءلة، وانعدام الشفافية ،و انحيازها لأصحاب المصالح الخاصة،والوقوع في أسر المؤسسات الدولية المانحة ومصالح الدول الغربية الكبرى كالاتحادالأوروبي و أميركا.
4-العمل من أجل بناءالدولة التنموية بوصفها دولة مؤسسات تستهدف إقامة مجتمع ديمقراطي عادل يضمن أوسع مشاركة شعبية من خلال العمل المؤسساتي في إدارة شؤون المجتمع المدني ،وهي دولة قانون، يحترم فيه حق الناس بالمقاضاة، كما تحترم حقوق الإنسان وتؤمن بالمساءلة والمحاسبة.و في هذه الدولة التنموية، دور أساسي لآليات السوق، كما للتخطيط دوره الأساسي أيضا،وينطلق مفهومها لعلاقة التنمية بالعولمة الاقتصادية، من مفهوم التنمية، الذي هو بالأساس مفهوم نقدي للرأسمالية القائمة، وللعلاقات الاقتصادية الدولية الجائرة القائمة، والتي تريد دول الاتحادالأوروبي والولايات المتحدة،استمرارها،كونها قائمة أصلاً لتحقيق مصالح تلك الدول، والإضراربمصالح البلدان والشعوب في العالمين الثالث والرابع.
هذا لا يعني بحال من الأحوال العزلة عن العالم، بل إخضاع العلاقات مع الخارج لمقتضيات التنمية في الداخل التونسي لا العكس،وتركيز برنامج إصلاح اقتصادي بمشاركة المنظمات الوطنية الأربع، و منظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية،وضرورة القيام بالإصلاحات المالية الضرورية التي تشمل الحدّ من عجز الميزانية، وتحرير الموارد للإستثمار العمومي الذي ينتج عنى خفض الإنفاق على أجور القطاع العام و الإعانات و الشركات المملوكة للدولة،و إصلاح النظام الضريبي لجعله أكثر عدلاً، وتشجيع العاملين في الاقتصاد الموازي على الانضمام إلى النظام الرسمي، وتشجيع الشركات الخاصة من خلال تحرير قانون الاستثمار،و استكمال إصلاح القطاع المصرفي لتحسين الوصول إلى القروض، و إزالة الاحتكارات الخاصة.
5- تؤمن الدولة التنموية بضرورة ضخ موازنة كبيرة لتحقيق المشاريع التنموية في المحافظات الفقيرة والمهمشة تاريخيًا،وبالموازنة بين جهود القطاع الخاص وإمكانيات القطاع العام والدولة، وهي لا تطرح القطاع العام في مواجهة القطاع الخاص،أوالعكس، فلا يستطيع أي منهما أن يحل محل الآخر، كما ترفض طرح السوق مقابل التخطيط، إذ إنّ كل منهما يكمل الآخر.بل إنَّ الدولة التنموية تؤمن بضرورة إصلاح المؤسسات العمومية وتطهيرها من الفساد، لا سيما تلك التي تعاني من صعوبات مالية وتمثل عبئًا كبيرًا على الموازنة العامة للدولة، إذ يستهلك القطاع العام في تونس ما بين 7و8 بالمئة من الناتج الإجمالي الخام سنويًا،كما تستحوذ مؤسسات القطاع العام على نسبة كبيرة من الديون العمومية، حتى أنها تقترض من البنوك العمومية التابعة هي الأخرى للدولة قروضا هامة، وهو ما يشكل اختلال في توازناتها العمومية.
تتطلب مثل هذه الإصلاحات الضرورية، وجود حكومة إنقاذ وطني قوية، والوصول إلى شكل من أشكال التوافق بين حكومة الإنقاذ الوطني و النقابات العمالية القوية، ومنظمة الأعراف، ومنظمات المجتمع المدني، لتكون قادرة على مواجهة معارضة حازمة ، ومصالح المافيات الرأسمالية الطفيلية، وعصابات التهريب، ولوبيات الفساد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى