هُنَاكَ.. هُنَاكَ.. كانَ “بهْجَت سليْمَان”!!!..

هُنَاكَ.. هُنَاكَ.. كانَ “بهْجَت سليْمَان”!!!..
هُنَاكَ..
هُنَاكَ..
كنّا صغَاراً..
لمْ تلْفَحْنا شمْسُ السيَاسَةِ بعْدُ..
حيْنَ كُنَّا نَبْني ممَالكَ منَ بُحُورِ الشِّعْرِ..
ومُدَنَاً منْ ملْحِ الكَلِمَاتِ..
وحيْنَ كنَّا نَصْنعُ أَنْظِمَةً وحُكُوْماتٍ..
عَلَى مِقْيَاسِ مفْردَاتِ “مظَفَّرِ النَّوَّابِ”!!!..
كانَ الوَقْتُ رمَادَاً..
وكانَتِ أرْواحُنَا مسْكُونَةً بظلِّ رؤُوْسِ أنُوْفِنا..
نظُنُّ بأنَّ الأرْضَ واقِفَةٌ..
وأنَّ أسَافيْنَ قنَاعَاتِنا هِضَابٌ لَا تَميْدُ..
حيْنَ طَالَعَنا اسْمُ “بهْجَتُ سليْمان”!!..
قُلْتُ لصَاحِبِي: مَنْ يَكُوْن؟!!..
قَالَ: سَجَّانٌ في أمْنِ الدّوْلَةِ!!..
*
مَرَّ دَهْرٌ منَ العُمْرِ عَلَيْنا..
كَانَ الحَمَامُ فيْنا قَدْ غَادَرَ خَاتَمَ أعْشَاشِهِ..
فاكْتّشَفْنَا أنَّ البِلَادَ لَا تَحْميَها مفْردَاتُ الأمَانِي..
والقِلَاعَ لَا يُسَوِّرُها ملْحُ الكَلِمَاتِ..
والسِّياسَةَ لَا تصْنَعُهَا سَلَالِمُ انفِعَالَاتِنَا..
وانْتَبَهْنَا أنَّ مَمَالِكَنَا كَانَتْ قَبْضَ رِيْحٍ..
وأنَّ حَكَايَانا صغيْرَةٌ..
صغيْرَةٌ..
صغيْرَةٌ!!..
*
وَهُنَاكَ..
هُنَاكَ..
كَانَ الزَّمَانُ دمَشْقِيَّاً..
حيْنَ الْتقَيْنَا..
عِنْدَ أوَّلِ أنْفَاسِ الصُّبْحِ..
عَلَى هَامِشِ صُدْفَة تَمْرِيْنٍ للْقَهْوَةِ..
ألقَيْتُ عَليْهِ ورْدَ الصَّبَاحِ..
فَصَافَحَنِي بِوَرْدِ الصَّبَاحِ..
وقَالَ: أنّا “بهْجَت سليْمان”..
قُلْتُ: سَجّانُ أمْنِ الدَّوْلّةِ؟!!..
قَالَ: سَجَّانُ أمْنِ الدَّوْلَةِ..
وضَحِكْنَا طَويْلاً..
طَويْلاً..
حتَّى التَّعَب!!..
*
وهُنَاكَ..
هُنَاكَ..
فَوْقَ موْجَةٍ منْ حَشرَجَاتِ المُتوسِّطِ..
وَتَمَاماَ، في منْتَصفِ القرْنِ الماضِي..
اسْتَفَاقَ طِفْلٌ عَلَى وَقْعِ صَمْتِ التِّلَالِ..
يَعْبَثُ بِوَشْوَشاتِ الفَجْرِ..
يَلْثَغُ بَيْنَ مَرَاكِبَ مِنْ أمَلٍ..
ويُعَانِقُ وصَايَا جِبَالٍ تُعيْدُ تَصْريْفَ فِعْلِ المَجْدِ..
وِفْقَ هنْدَسَةِ التَّقَمِّصِ..
حِيْنَ أسَرَّتِ امْرَأَةٌ..
بأنَّ وَلَداً سيُعيْدُ لَيْمُوْنَ بَهْجَةٍ..
مَرَّتْ بَيْنَ أصَابِعِ الجَدَّاتِ..
وَحَكَايَا عَنْ شِتَاءِ نَوَارِسَ..
كَحَّلْنَ ابتِسَامَاتِ الأُفُق!!!..
*
هُنَاكَ..
عنْدَ التِقاءِ سُمْسُمِ الأرْضِ بالمَاءِ..
وعِنْدَ أَوَّلِ شَهْقَةٍ للْرِيحِ..
عَلَى أبْوَابِ صَمْتِ “أوغَاريْتَ”..
فَاضَتْ نُهُوْرُ جَبيْنِ فَتَىً..
سَكَبَتْهُ لَحْظَةٌ مِنْ فَائِضِ الفِطْنةِ..
وَعَمَّدتْهُ عَبَرَاتُ قَلَقٍ نَقِيٍّ..
حَمَلَتْهُ كَيْ يَكوْنَ في أّوّلِ مِقْعَدٍ للخَيْلِ..
في حِدَاءِ غِزْلانِ “عريْنُ العُرُوبَةِ عَلَيْكُم سلَام”..
دِفَاعاً عَنْ سِرِّ باكُوْرَةِ المَجْدِ..
*
وهُنَاكَ..
هُنَاكَ..
هُنَاكَ..
عِنْدَ أَوَّلِ خَيْطِ أصِيْلٍ..
لاصْطِدَامِ الحُلْمِ بالنَّارِ..
كَانَ ابْنُ “ماجِدِ سُليْمَانَ” يَعْقِدُ زَغْرَدَاتِ رَايَةٍ للْفَجْرِ..
عَلَى إيْقَاعِ سَنَابِكِ خيْلِ “سَرْجُونَ الثَّاني”..
و”عُمرُ بن الخطَّابِ”..
و”خَالدَ بنَ الوَليْدِ”..
و”صَلاحَ الدّيْنِ الأيُّوْبِيِّ”..
و”حَافِظَ الأسَد”!!..
وهُنَاكَ..
عنْدَ بسْمَلَاتِ شَاطِئِ بحَيْرَةِ “طَبَرَيَا”..
وعنْدَ الْتِحَامِ الوَرْدِ بالوَعْدِ..
واحْتِدَامِ حَمْحَمَاتِ وَصَهِيْلِ حَجَلِ المَنَايَا..
كَانَ ابْنُ “ماجِدَ سليْمانَ” يَغْرسُ في رَأْسِ “تَلِّ الفَرَسِ”..
رُوْحَ سِنْدِيَانَةٍ جَاءَ بِهِا من بَطْنِ جِبَالِ “القِرْدَاحَةِ”..
قَرَأَتْ عَلَيْها امُّهُ بَعْضَ تَعَاويْذِ الجَدَّاتِ..
وأقْسَمَتْ ثَلَاثَاً..
بِاسْمِ اللهِ..
وباسْمِ مُحَمَّدٍ..
وباسْمِ عليٍّ..
بأَنَّ الجُوْلانَ عَرَبِيٌّ سُوْرِيٌّ..
عَرَبِيٌّ سُوْرِيٌّ..
عَرَبِيٌّ سُوْرِيٌّ..
*
وهُنَاكَ..
هُنَاكَ..
هُنَاكَ..
فِي شَارِعٍ دِمَشْقيٍّ..
يشْرَبُ مِنْ هَالِ “بغْدَادَ”..
أعَدَّ “بهْجتُ سليْمَانُ” مرْوَحَةَ أوْراقِهِ..
وَنَظَّمَ حُرّاسَ لَيْلِ سَاحَة “العَبَّاسِيينَ”..
وَرتَّبَ وَرْدَ صَبَاحاتِ “قَاسُيُونَ”..
عَلَى إيْقاعِ هَديْلِ أوْجَاعِ “بَرَدى”..
حِيْنَ كَانَ “رَامْسفِيلْد” مَعْ عَرَبِ الرِّدَّةِ..
عَلَى أسْوارِ فَجْرِ الشَّامِ!!..
في هَذهِ المفْرَداتِ الدَّقِيْقةِ..
مِنْ عُمْرِ الرِّوايَةِ..
لمْ يكُنْ “بهْجت سليْمَان”..
يسْهَرُ عَلَى أمْنِ وَرْدِ الشَّامِ..
فَقَطْ!!..
ولَمْ يكُنْ “بهْجت سليْمَان”..
يَحْرُسُ حَكَايَا لَيْلِ الشَّامِ..
فَقَطْ!!..
ولَمْ يكُنْ “بهْجت سليْمَان”..
يعُدُّ أنْفَاسَ حَمَامِ الشَّام..
حِرْصَاً عَلَى “برَدَى” مِنْ أنْ يَنضَبَ..
فَقَطْ!!..
ولَمْ يكُنْ “بهْجت سليْمَان”..
يُوَزّعُ رِمَاحَ آذانِهِ..
ونَوَافِذَ عُيُوْنِهِ..
خِشْيَةً عَلَى رُمَّانِ “الغُوْطَةِ”..
مِنْ أنْ يَصْدَأَ..
فَقَطْ!!..
ولَمْ يكُنْ “بهْجت سليْمَان”..
يُدَثِّرُ مآذِنَ “الجامِعِ الأمَوِيِّ”..
وأَجْرَاسَ “كنيْسَةِ الصَّليْبِ”..
وصَحْنَ “السَّيّدَةِ زَيْنَبَ”..
مَخَافَةَ أنْ يَبْرُدَ مُشْمُشُ رُوْحِ أهْلِ الشَّامِ..
فَقَط!!..
*
كَانَ “بهْجَتُ سلَيْمَانُ” ضَابِطَ إيْقَاعِ المَعْرِفَةِ..
وَحَارِسَ بَوَّابَاتِ خَيْلِ الفَلْسَفَةِ..
وكُلِّ أبْجَدِيَّاتِ السِّجَالِ..
والحِوَارِ..
مِنْ أقْصَى انْفِعَالَات اليّسَارِ..
حَتَّى آخِرَ بَدِيْهِيَاتِ اليَمِيْنِ..
وَكَانَ “بَهْجَتُ سُلَيْمانُ”..
يعدُّ صفْصَافَ التَّواصِلِ بيْنَ حُقُوْلِ التَّناقُضاتِ..
ويَجْعلُ منْ سَبْرِ الثَّقافةِ مَدْخلاً لِتحْصينِ السِّياسَةِ..
ومِنْ طفُوْلةِ الحوَارِ شارِعاً لِكَسْرِ أرْصِفَةِ التَّكَلّسِ..
وَلِحَرْقِ غَابَاتِ التَّشَنّجِ..
بيْنَ أنْسَاقٍ تَنَامُ فَوْقَ وَحْلِ الشُّكُوكِ..
وَكَانَ “بَهْجَتُ سُلَيْمانُ”..
يُعيْدُ تعْريْفَ سقْفِ الوَطنِ..
فِي بَرِّيَّةٍ مَليْئةٍ بضَبابِ المرْحلةِ..
وفِي بلَادٍ مخْنُوقَةٍ بدُخَانِ الأسْئلةِ..
وَفِي وَطَنٍ تصْطَادُهُ نِمَالُ الفجِيْعة..
وتَرْصُدُهُ عَناكِبُ المَصْيَدةِ!!!..
*
وهُنَاكَ..
هُنَاكَ..
هُنَاكَ..
فِي نَارِ موْقِعٍ آخَرَ..
مِنْ جَبَهاتِ النُّذرِ المفْتُوْحةِ على “دبْلومَاسِيَّةِ” تَوَرُّمِ المُلوْكِ..
بصَقَ “”بَهْجَتُ سليْمَانُ” فِي وَجْهِ الخليْفَةِ..
وَفَوْقَ تَاجِ الإمَارةِ..
حيْنَ كَانَ “هُولاكُو” عَلَى أسْوارِ “دِمَشْقَ”..
يَرْفعُ فوْقَ رِمَاحِ ذِئَابِهِ..
رؤُوسَ بَعْضِ فُرْسَانِ ملْحَمَةِ “عَيْنِ جَالُوتَ”!!!..
كَسَرَ “بَهْجَتُ سليْمانُ” مَراسِمَ الذّبْحِ..
لِيَفْضحَ سِرَّ المَلِكِ المَحْشِوِّ عَمَالةً..
هَذَا المَنْفُوْخُ بكُلِّ سُلَالَاتِ الخِسَّةِ..
كَيْ يَحْميَ إلْيَتَهُ..
عَلَى حِسَابِ عِنَبِ دِمَاءِ السُّوْريّينَ!!!..
مَا كَانَ “بهْجَتُ سليْمانُ” ككثِيْريْنَ..
مِمَّنْ خَذَلَتْهمْ حِسَاباتُ بَصَائرِهمْ..
أوْ ممَّنْ سَحَرَتْهمْ خِيَاناتُ نَوَاياهُمْ..
وبُوْرصَاتُ دَمِ..
تَوَزَّعَت فوْقَ كلِّ أرصِفَةِ السَّفَاراتِ والمُخَابَراتِ..
ظَلَّ يَحْمِلُ بُنْدقيّةَ المعْرِفةِ لَدَيْهِ..
مُمْتَشِقَاً رُوْحَاً مِنْ رَفْضٍ..
وَقلْبَاً مِنْ بأْسٍ..
يَتْلُو من أسْفارِ سَجَاياهُ..
علَى حُرَّاسٍ مِنْ يَاقُوْتٍ..
وعَلى فلَاحيْنَ شَوَتْهُمْ شَمْسُ بَيَادِرِ عِشْقٍ..
وَعَلى فرْسَانٍ سَوَّرُوا قِلَاعَ كَرَاماتِ المَجْدِ..
*
وهُنَاكَ..
هُنَاكَ..
هُنَاكَ..
في آخِرِ عَبَرَاتِ الشَّوْطِ..
حَطَّ ابْنُ “مَاجِد سليْمَانَ” نَهْرَ ابْتِسَامَاتِهِ..
فَوْقَ سَريْرٍ مِنْ تَعَبِ الأدْوارِ..
بالقُرْبِ مِنْ ظِلِّ تَفَاصيْلِ النِّزَالِ..
كَانَ “برَدَى” مُثْقَلاً بالصَمْتِ..
وَأبْوَابُ “دِمَشقَ” السَّبْعَةُ..
مَفْتُوْحةٌ عَلَى أرْصِفَةِ تَنَانيْرِ الوَجَع..
مَرَّ وَعْدُ “أمِّ بهْجَت”..
عَلَى طَرَفِ حَرَارةٍ فِي عَبَثِ حَبْوِ صَغِيْرِها..
ضَحِكتْ لِسُلَالَةِ الصَّبْر..
أسْبلَتْ لَهُ عَيْنيْهِ..
مَسَحتْ عَلَى أطْرافِ وَرْدِ وَجْنَتَيْهِ..
دثّرَتْهُ مَخَافةَ بَرْدِ الطَّريْقِ..
ألْقَتْ يَاسَمِيْنَ أصَابِعِ خوْفِهَا عَلَيْهِ..
قَبَّلَتْ كَسْتَنَاء هُدُوئِهِ..
وَدَّعَتْهُ..
عَلَى أمَلِ اللِّقَاء!!!..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى