الجمهورية العربية المتحدة

 

 

«لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق، ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عادية عليه ولا مستعدية .. دولة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوي ولا تضعف، توحد ولا تفرق .. تشد أزر الشقيق، وترد كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنحرف ولا تنحاز.. تؤكد العدل، وتعزز السلام، وتوفر الرخاء لها ولمن حولها من البشر جميعا بقدر ما تتحمل وتطيق»

بتلك الكلمات المشرقة و المفعمة بالأمل, و من على منبر مجلس الأمة المصري، أعلن جمال عبدالناصر عن قيام دولة الوحدة بين مصر و سوريا في فبراير ١٩٥٨. كانت الوحدة العربية حلماً جميلاً عاشته الشعوب العربية طويلاً ثم أصبح ذلك الحلم حقيقة واقعة يوم ٢٢ فبراير ١٩٥٨. لم تأت تلك الوحدة عن طريق إحتلال عسكري أو أطماع توسعية و لم تفرضها على الشعوب قيادة متسلطة، بل جاءت بإرادة شعبية خالصة. بل قد يكون أقرب إلى الحقيقة القول بأن سوريا، و كانت الشريك الأصغر، هي التي طالبت، وألَحّت في الطلب، لإعلان الوحدة مع مصر. جاءت المبادرة من سوريا ممثلة برئيس جمهوريتها المنتخب شكري القوتلي. و رغم ما عُرف عن جمال عبدالناصر من وطنية و إيمان بضرورة و حتمية الوحدة العربية إلا أنه كان متردداً و شديد الحذر من التسرع في اتخاذ مثل تلك الخطوة العملاقة.

كان في تقديره أن مثل تلك الخطوة التاريخية الجبارة يلزمها وقت طويل من التحضيرات و الدراسات المستوفية. لكن سوريا كانت في خطر، فقد كانت حديثة العهد بالاستقلال و تتحسس طريقها للمستقبل بينما كانت القوى العدوانية من اذيال الدول الكبرى مثل إسرائيل و تركيا (التي فعلاً حشدت جيشها على الحدود الشمالية) تَتَحَلّق حولها لتجعلها لقمة سائغة لحلف بغداد أو الأحزاب الشيوعية. أدرك جمال عبدالناصر المخاطر التي تُحيق بقلب العروبة النابض و أدرك أن سوريا ستكون أكثر أماناً مع مصر. كان عبدالناصر محقاً في موافقتة كما كان محقاً في تردده.

بعد الحرب العالمية الاولى تَقسَّم الوطن العربي كما تُقسَّم الغنائم بين المنتصرين، و رُسِمت حدود عشوائية لتفصل بين ابناء الوطن الواحد، وأُصطنعت ممالك و مشيخات و أشباه دول كانت جميعها لا تملك من زمام أمرها شيئاً. كان الحس العروبي في بلاد الشام متوهجاً و بالذات في سوريا التي كانت ( و لا تزال) تمثل قلب العروبة النابض كعهدنا بها دائماً. أصبح الاستقلال أملاً لكل الشعوب العربية التي لم تأتها فرصة لتقرير مصيرها من مئات السنين، كما أصبح إعادة لم شمل هذه الأمة الممزقة و توحيدها حلماً يراود كل عربي شريف.

و يعتقد الكثيرون أن الوحدة فشلت لكنا نقول لهم بل انها نجحت و أبهرت العالم بنجاحها. أما كونها انتهت بعد أقل من أربع سنوات من ولادتها فليس ذلك لأنها فشلت و لكن لأنها قُتِلت غدراً برصاص الخونة المتآمرين مع القوى الاستعمارية الصهيونية. لو كانت دولة الوحدة فاشلة لما استهدفها أعداؤها منذ ولادتها و لما دفعوا الملايين للقضاء عليها و لتركوها و شأنها لتتصدع و ينخر بها سوس الفشل حتى تنهار على أركانها. دولة الوحدة الوليدة عانت فعلاً من مشاكل و متاعب مرحلة “التسنين” تماماً كما يعاني أي وليد آخر، و هل من مفر من التسنين؟ و لكنها كانت متاعب مؤقته و يسيرة العلاج و كان مصيرها على أي حال الى الزوال.

في عيون أعدائها، كانت للجمهورية العربية المتحدة خطيئة لا تُغتفر و هي أنها كانت دولة كبرى في المنطقة و ذات مستقبل مشرق واعد، فقد كانت الشواهد تدل على أنها ستزداد قوةً و بأساً بانضمام دول عربية أخرى إليها. كانت استراتيجية الدول الكبرى و الامبريالية العالمية تعتمد على تجزئة المنطقة العربية إلى دويلات صغيرة تعتمد في بقائها على الغرب، فجاءت الجمهورية العربية المتحدة لتكون بمثابة ضربة قوية لتلك المخططات. و زاد من قوة الضربة إختيار جمال عبدالناصر، بما عرف عن زعامته من استقلالية القرار رفضه للتبعية، ليكون رئيساً للدولة الوليدة مما أرسل موجات زلزالية للدول الاستعمارية أصابتها بالهلع . فلا عجب إذاً أن تلك الدول عمدت فوراً للتآمر مع أعوانها في المنطقة للتخطيط لقتل ذلك العملاق الوليد و هو في مهده و قبل أن يشتد عضده.

و في صباح ذلك اليوم المشئوم، يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٦١ نجح الآثمون المتربصون و أصابوا دولة الوحدة بمقتل فوقعت شهيدة برصاص الانفصال الآثم الذي أطلقته عليها القوى الاستعمارية. قُتلت الدولة و لم تُقتل الفكرة و لا اهتز الأمل بتحقيقها، و هو أمل لا يزال يعيش في قلوب العرب الشرفاء. احتفظت مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة ليقين زعيمها و يقين العرب بأن الانفصال ما كان الا عثرة من عثرات الطريق و أنه لا بد للأمل من أن يصبح حقيقة في يوم ما. و قد بقي اسم الجمهورية العربية المتحدة و بقيت رايتها ترفرف عالياً في مصر حتى جاء السادات و انهال بمعوله المشئوم يحطم إنجازات جمال عبدالناصر فألغى اسم دولة الوحدة و ألغى رايتها. أما سوريا، قلب العروبة النابض و الصامد، فلا تزال ترفع علم الوحدة إلى الآن.

قامت الجمهورية العربية المتحدة بإرادة شعبية عارمة، فقد أُجري في سوريا و مصر استفتاء شعبي متزامن يوم ٢١ فبراير ١٩٥٨ و كانت النتيجة نعم للوحدة و نعم لاختيار جمال عبد الناصر ليكون أول رئيس لها. أما الانفصال فقد كان مضاداً للإرادة الشعبية و هجوماً عليها و ربما كان الانقلاب الوحيد الذي خرجت الجماهير السورية الى الشوارع لمعارضته.

و من المفارقات أن ولادة الجمهورية العربية المتحدة تزامنت مع ولادة الإتحاد الأوروبي. وُلِد الأخير على شكل اتفاقية تجارية بين بضعة دول ثم ما لبثت أن تطورت لتصبح كتلة كبرى من الدول التي لا يجمع بينها سوى تاريخ طويل من العداء المستحكم و الحروب الطاحنة وعشرات الملايين من الضحايا. بينما العرب في جملتهم يجمع بينهم الدين و اللغة والتاريخ و المصالح المشتركة و التطلعات، و هذا يجعلهم أكثر أمة على الأرض جديرة بالوحدة.

كان تحقيق الوحدة بين مصر و سوريا واحداً من أعظم و أمجد إنجازات العرب في تاريخهم الحديث. و كان طبيعياً أن يتم مثل ذلك الانجاز المجيد في عصر عبدالناصر و بفضل قيادته. و من سخرية القدر أنه في زمن الانحطاط و التبعية يخرج علينا أبطال الذل و الخنوع و عباقرة السطحية والتفاهة ليسخروا من ذلك المجد العظيم و يشوهوه كما شوهوا صورة غيرة من إنجازات قائد الوحدة و بطلها. هم يرفضون فكرة الوحدة أساساً و يَدَّعون وهماً أن الشعوب العربية ليست عربية و يروجون لاستعمال اللهجات المحلية بدلاً من اللغة العربية الفصحى. بل يتمادون و يريدون الإمعان في تجزئة الوطن العربي ( وكأنه ليس مُجزّءاً بما في الكفاية!) و تقسيم كل دولة إلى دويلات أصغر فأصغر. لكن هذا موضوع آخر و فتنة أخرى من فتن هذا الزمان.

رحم الله جمال عبدالناصر، و سقى الله ذلك الزمن البهيج الذي تحققت فيه الوحدة و سقى الله ذلك الاسم الجميل الذي كان له وقع مهيب و محبب في نفوس الشرفاء: الجمهورية العربية المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى