من حق يوم ١٥ يناير ان يُفاخر باحتضان عيد ميلاد جمال عبد الناصر.. بقلم : فهــــد الريمــــاوي

صبيحة يوم ١٥ يناير/ كانون الثاني من كل عام، تستيقظ الذاكرة العربية على صوت التاريخ، معلناً بدء الاحتفال بعيد ميلاد جمال عبد الناصر، ومرحباً بهذه المناسبة القومية الغالية، ومهنئاً كل الاحباء والشرفاء بهذا اليوم المبارك، ومترنماً برائعة نزار قباني..

زمانك بستانٌ وعصركَ اخضرُ          وذكراكَ عصفورٌ من القلبِ ينقرُ
دخلتَ على تاريخنا ذات ليلةٍ          فرائحة التاريــــخ مسكٌ وعنبرُ

ففي مثل هذا اليوم من عام ١٩١٨ وفد الى الدنيا وافد استثنائي سيكون له شأن ثوري عظيم، وخرج الى الحياة مولود موعود بمستقبل باهر ودور هائل وتوفيق من رب العالمين، وطلع الى الوجود من رحم مصر مخلوق خلوق مفطور على الشرف والامانة والطهارة والسجايا الحميدة، ومنذور لقيادة الامة العربية كلها نحو ذرى الوحدة والحرية والكرامة والاستقلال.

من حق يوم ١٥ يناير ان يعتب على لغة الضاد، لانها لم تسعفه باكثر من ٢٨ حرفاً للتعبير عن افتخاره باحتضان ميلاد “ابي خالد”، وزهوه بالترحيب به والانتساب الى عهده المجيد، وتباهيه بالاصطفاف في شرف استقباله وهو يلتقط اول انفاسه، ويطلق باكورة صرخاته، ويبدأ مسيرة عمره.

وقت ميلاد عبد الناصر، كانت الامة العربية مهلهلة ومبهدلة وطاعنة في البؤس، وضالعة في البلوى، وخاضعة لعملية تحول تاريخية مفصلية وفاصلة بين حقبة الانحطاط العثماني السابقة، ومرحلة الاستعمار الاوروبي اللاحقة، بدءاً بفرض الحماية الانجليزية على مصر (١٩١٤) ومروراً بتقسيمات سايكس بيكو (١٩١٦) ووعد بلفور المشؤوم (١٩١٧) واحتلال اللنبي للقدس (١٩١٨) وقولته: اليوم انتهت الحروب الصليبية، ثم مجزرة غورو في ميسلون (١٩٢٠) وقولته: ها قد عدنا يا صلاح الدين.

مؤكد ان التاريخ لا يحترم الا من يصنعه، وان الحياة لا تُنصف الا من يستحقها، وان الزعامة لا تُسعف الا من يليق بها، وان الامم العريقة لا تستدعي – وقت الحاجة وعند الضرورة – الا الجدير بقيادتها، والقدير على استنهاضها وتعبئة كامل طاقاتها، والمؤهل بصدق لتجسيد آمالها واشواقها وتطلعاتها نحو الغد الافضل والعيش الاكرم.

منذ مُستهل فتوته ومبتدأ شبابه امتثل عبد الناصر لاوامر الوطن، وانخرط في معمعان النضال، وخاض مع اقرانه مظاهرات الطلبة، واتصل بمعظم قادة الحركات الوطنية والاسلامية المصرية، وحين انتسب للقوات المسلحة قاتل في فلسطين تحت اصعب الظروف.. ثم تولى تشكيل وقيادة تنظيم الضباط الاحرار الذي اشعل، بعد طول اعداد واستعداد، ثورة ٢٣ يوليو المظفرة التي زلزلت الشرق والغرب.

لقد نادته مصر المرزوءة بفاروق والانجليز فسارع لتلبية النداء، واستجارت به الشعوب الاسلامية المتطلعة للعلوم الازهرية فما خيّب الرجاء، واستغاثت به فلسطين المنكوبة بالزحف الصهيوني فكان اشرف نصير ومغيث، وتوسمت فيه الامة العربية المهيضة الجناح خيراً واسلمت له القياد، فاثبت انه القوي الامين الذي حقق لها نقلة ثورية وتقدمية شاسعة، واضاف لها وزناً نوعياً وضعها على قدم المساواة مع اكرم الامم.

لم يكن هذا الربان الماهر يرى نفسه خارج دائرة الواجب الوطني، والتكليف الشعبي، والالتزام العروبي، والحمية الثورية، والحقيقة الايمانية، والطهارة الاخلاقية، والمتواليات الهندسية في الانتاج والانجاز، والمسؤولية في انقى حالاتها وارقى درجاتها.. فالحكم عنده رديف للحكمة وليس وليد التحكم، والسلطة لديه وسيلة للامن المجتمعي وليس التسلط، والدولة في حسبانه خيمة عملاقة تظلل كل ابنائها دون تمييز، بل وفق مسطرة المساواة والكفاية والعدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص.

في عيد ميلاد “ابي خالد” لا بد ان نكتب بلغة الياسمين، ونرسم بالوان قوس قزح، ونقدم الجملة الرومانسية على تلك السياسية، فلا لزوم لاستعراض جولات هذا القائد المقدام وصولاته ومنجزات عهده الميمون لانها محفوظة عن ظهر قلب، علاوة على ان المقام هذا اليوم عاطفي بامتياز، وصوفي بكل المعاني، ووجداني مفعم بآيات الشغف ومشتقات الحنين، وروحاني يضاعف التشبث بالرموز والرواد والقادة العظام، باعتبار ذلك متطلباً ضرورياً للوقاية من آفات اليأس والاحباط والكفران بالعرب والعروبة في هذا الزمان الموبوء بالتطبيع والخيانة والخسران المبين.

ليس من اللياقة والادب ان نأتي على ذكر فلاسفة الفشل من الحكام الاعراب في حضرة عبد الناصر، وان نشوه مناسبة عيد ميلاده بسرد سوءاتهم وخياناتهم وصلواتهم النجسة في محراب الليكود، ثم توجهاتهم من المشرق والمغرب ، ليس صوب مهابط الوحي، بل نحو تل ابيب.. فلو كان “ابو خالد” على قيد الحياة لما تجرأ جربوع منهم على الارتماء تحت قدمي نتنياهو، والاحتماء بزوج “المستورة” ايفانكا ترامب.

ويح قلبي، فبين المبتدأ في عام ١٩١٨ والمنتهى في ١٩٧٠ عاش الزعيم العظيم عمراً قصيراً قصيراً، فقد رحل مبكراً وهو في اوج الاعداد والتجهيز لخوض معركة الثأر الفاصلة.. ربما رحل بمشيئة الاقدار، وربما بفعل ايادي الغادرين الاشرار، خصوصاً وان الحال العربي قد انقلب فوراً، من بعده، رأساً على عقب، كما لو ان وفاته شكّلت اشارة انطلاق للمشروع المضاد والمخطط النقيض.

وعليه.. هيهات للانسان، مهما عَظُم شأنه وبلغ قدره، ان يشتري عُمراً، او يستأجر عيشاً، او يُطيل بقاءً، او يستدين حياة، او يقترض ما تيسر من الايام والاعوام.

كلمة اخيرة برسم الاختتام.. صدقوني لو لم اكن قومياً ناصرياً منذ ستين سنة، لاصبحت اليوم – بفعل مهازل الواقع العربي المخزي – ناصرياً ثم ناصرياً ثم ناصرياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى