ماذا نستخلص من أحداث الكابيتال الأمريكي .. ما العمل ؟

يكاد يجمع السياسيون والمحللون على اختلاف توجهاتهم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، مجرد أحمق متهور متقلب يعمل بعقلية تاجر عقارات مغامر والى ذلك من التوصيفات التي تعطيه طابع الفردانية لما تُتخذ من قرارات في أمريكا ، رغم أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات مستقرة على مدى عقود وأكثر ، والرئيس فيها مجرد كبير موظفين لاحتكارات السلاح ومؤسسات رأس المال ومافيات العنصرية والسجون الطيارة عابرة اقارات ، وهو واجهة لقرارات الدولة العميقة وتطلعاتها الحقيقية لا يخرج عن إرادتها بل ينفذ تلك الإرادات ، وإذا إمتلك الميكانيزم الخاص به والرغبة والإستطاعة للخروج عنها فإن مصيره معروف ويسير .
ليس من الصواب الإعتقاد بأن ترامب يتصرف على هواه ، أو انه على قدر مميز من الحماقة والعنجهية والإرتجال الخ .. فقد إنتخبه 74 مليونا من الأمريكيين ويدعمه اليمين الأكثر تطرفاً ومحافظة وعنصرية سكسونية وثراء ودموية وتعصبا ، ومن قوى دينية غيبية متعصبة ، ومن هم أكثر إنحيازاً للمستعمرة الإسرائيلية ولبريطانيا على حساب الإتحاد الأوروبي ، كما تدعمه الإحتكارات على اختلافها وأغلب الأمريكان اليهود ،
وهذا لا يعني ان مناهضي سياساته ليسوا على قوة يعتد بها ، و لا ينبغي فهم ما يبدو عليه من تخبط وتناقضات وسياسات غريبة ، شأنا فردياً مزاجياً ، وإنما يعبر ترامب عن تيار أمريكي عريض آخذ بالتشكل ، أكثر تطرفاً من أي وقت مضى في زمن تتراجع فيه مكانة أمريكا على غير صعيد ، وتنذر بأفول نجمها إلى مرتبة ثانية أو ثالثة أو رابعة ، ربما ، فيما تصعد الصين وروسيا وقد يحتل الاتحاد الأوروبي المرتبة الثالثة بعدهما ، وتحتل الولايات المتحدة ( أو ما قد يتبقى منها ) المرتبة الرابعة أو الخامسة بعد الهند أو جنوب إفريقيا أو اليابان أو كندا ..
بهذا المعنى فإن التخبط والجنون الأمريكي ” الترامبي ” هذا ؛ ليس جنوناً ولا تخبطاً فردانيا منقطع الجذور والأصول والمبررات .. وإنما هو من صميم الحالة الأمريكية الراهنة بأدق تجلياتها ، وبالتالي عند تحديد السياسات ينبغي أخذ ذلك بعين الاعتبار ، فالجناح المناهض للترامبية ، لا يعني انه صديق لتطلعات الشعوب والأمم الأخرى ولا صديقاً لقوى التقدم والتحرر والسلام ، ولكنه أقل تهوراً وأكثر عقلانية وإدراكاً بأن هذه السياسة مدمرة فيما هي مدمرة ؛ للولايات المتحدة الأمريكية اولاً .
لقد كشفت عملية اقتحام الكابيتال حقيقة النظام الأمريكي على حبّته ، ارهابي بدرجة إمتياز، إن تضررت مصالح فريق من الطبقة الحاكمة ؛ أما الديمقراطية التي صدع العالم بها فهي شكلانية ، مجرد هراوة يقاتل بها أنظمة الدول التي تناقض سيساساته ،أو تشكل خطراً عليه من قبل أي كان ، والأمثلة على ذلك بالعشرات .
إن السقوط الأخلاقي الفضائحي للترامبية ، لا ينبغي أن يدفع للتفاؤل كثيراً ، ذلك أن الولايات المتحدة كما أسبقنا دولة مؤسسات لا يمكن القفز عن طوقها ، ويسقط أمريكياً غير مأسوف عليه ، كل من يحاول القفز عن تقاليدها الراسخة ، وفي تاريخ أمريكا شواهد، ولها ضوابطها الرئيسة ؛ وفي المقدمة الرأسمالية الإمبريالية، واستحالة مجيء نظام حكم إشتراكي أو شيوعي ، وإمساك المجمع الصناعي وبخاصة العسكري منه بتلابيب القرار ، وطتحكم السكسونية واليهود في مفاصل القرار والاقتصاد ، وفي إدامة القواعد العسكرية في مختلف جهات العالم للتحرك السريع عند الضرورة وإشعال الفتن والحروب وإسقاط الأنظمة الخارجة عن الإرادة الأمريكية ، ومن ضوابطها الذرائعية مفهوم حقوق الإنسان والمرأة والطفل والديمقراطية ، حيث يستخدم وفق معايير متباينة ، حتى داخل الولايات المتحدة .
ويأتي عدم المراهنة على أمريكا أيضاً من منطق أنها لم تعد على ذاك القدر من القوة والقدرة على فرض سياساتها بالكامل وبالسرعة المطلوبة ، حيث لم تعد اللاعب الأول ولا الوحيد في ساحات الصراع العالمية ، فالذين يراهنون عليها باتوا يراهنون على وهم ، ليس فقط لأنها كثيرا ما تخذل الخاضعين لإرادتها ، وإنما لأنها لم تعد قادرة كما السابق ، حتى لو تعارضت مع الضوابط الأمريكية الرئيسة .
بكلمات إن البقاء في الفلك الأمريكي ضرب من الجنون وما هو أسوأ ( ..) وقد جرّبت الأمة العربية هذا ( الخيار) كثيرا، وحصدت بموجبه أسوأ النتائج ، ولم تكن المنح والقروض والمساعدات إلا وبالاً عليها ، وتعميقاً للأزمات والمديونية والفقر والبطالة ، بل وزادها بعداً عن المعالجات الناجعة للمشكلات الإقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية .
لكن البقاء عند موقف عدم المراهنة غير كافٍ ، ما يستدعي وضع استراتيجية جديدة خارج التحالفات القائمة وعدم وضع الخيارات في سلة واحدة ، واجتراح وسائل عمل وبرامج وبدائل قابلة للتنفيذ وغير تفريطية في آن، ومد يد التعاون والتنسيق مع قوى التقدم والتحرر والسلم في العالم ، وتجنب عثرات وانحرافات التجارب “السابقة” عن الأهداف الحقيقية، بما في ذلك تجنب الشعارات الشعبوية والدماغوجية والمراجعة المستمرة للمسيرة سواء كدول أو كحركات ، باعتبار أننا ما زلنا في مرحلة تحرر وطني ، ومحاذرة الاختراقات حيث تترافق مع الشعارات الإنقسامية الهوجائية مستحيلة التطبيق ، والوقوف وسطاً بين الديمقراطية الداخلية وعدم ديمومة القيادات حتى الموت .
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى