السُّودَانُ يُكَسَّرُ اللاَءَاتِ الثَلاَثِ وَيَلْتَحِقُ بِقَافِلَةِ الْمُطَبِّعِين

يشكل قادة العسكر الذين ينتمون لنظام الجبهة الإسلامية القومية، وذلك عبر اللجنة الأمنية داخل مجلس السيادة التي تولت ملف العلاقات الخارجية رغم تبعيته المفترضة لوزارة الخارجية، القوة السياسية التي تقود التحول الجديد في السوادان عبر التطبيع مع الكيان الصهيوني.فقد تكونت اللجنة الأمنية من قبل الرئيس المخلوع عمر البشير، وهي تضم رتبا عسكرية كبيرة، ولم يكونوا لينالوا هذه الرتب ما لم يتوفر فيهم الانتماء لحزب المؤتمر الوطني والولاء الخاص للبشير.وتُعَدُّ اللجنة الأمنية جزءً من النظام القديم، وقبلت بالتطبيع عبر ابتزاز إقليمي جعلها ترضخ للضغوط الأمريكية.
وجاء ذلك بالتزامن مع إعلان وزير الخارجية السوداني المكلف عمر قمر الدين، أن الحكومة الانتقالية وافقت على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني ، وسط رفض بأوساط سودانية وعربية.وبذلك سقط حجر آخر في سور المعارضة للكيان الصهيوني في العالم العربي والإسلامي وليس مجرد حجر، بل السودان، الذي في عاصمته، الخرطوم، انعقدت القمة العربية الرابعة عام 1967، والتي أكَّدَتْ أنَّه “لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع إسرائيل”، لتشتهر بـ”عاصمة اللاءات الثلاث”،وليصبح السودان الدولة العربية الخامسة التي توافق على تطبيع علاقاتها مع الاحتلال، بعد مصر (1979)، والأردن (1994)، والإمارات والبحرين (2020).
طُعْم الفوائد الاقتصادية
ويبرِّرُ المجلس العسكري السوداني إقدامه على خطوة التطبيع من خلال الوعود الأمريكية بإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب،وانتشال الاقتصاد السوداني من حالة الاحتضار،إذ تدرج الولايات المتحدة السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ 1993.وتبلغ الديون الخارجية على السودان 60 مليار دولار ويحتاج بشكل ملح لمساعدة مالية لإعادة تنظيم اقتصاده.وبلغ التضخم 167 في المئة في آب/ أغسطس الماضي، وهبط الجنيه بصورة حادة مع طبع الحكومة أموالا لدعم الخبز والوقود والكهرباء.
ويرى المحللون السودانيون،أنَّ قبول المجلس العسكري بالتطبيع مع الكيان الصهيوني،يدخل في سياق ممارسة السياسة المرنة، بهدف جني فوائد اقتصادية ملموسة، ويستبعدون اندلاع احتجاجات شعبية في السودان ضد التطبيع، بسبب ما تمارسه السلطة الانتقالية من “عملية تشويش وخداع وإخفاء للحقائق” حول اتخاذها قرارًا مصيريًا دون العودة للشعب.فما يجري في السودان هو تعتيم كامل على ما حدث، وبالتالي فإنَّ رئيس الوزراء عبد الله حمدوك والمجلس العسكري اتبعا نفس الأسلوب القديم في التعامل مع الشعب السوداني عبر الكذب والتضليل وإخفاء الحقائق.
من الواضح أنَّ حمدوك واللجنة الأمنية خائفون من رَدَّةِ فِعْلِ المجتمعِ السودانيِّ تجاه التطبيع، لذا فهم يتعمدون تسليط الضوء على فوائد إزالة اسم السودان من الإرهاب،فقد تطرق بيان صدر عن مجلس الوزراء السوداني، مساء الأحد الماضي ،إلى الفوائد التي ستعود على السودان جراء رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب،مشيرا إلى إعفاء السودان من الديون الخارجية المتراكمة البالغ قيمتها 60 مليار دولار،إلى جانب عودة الاستثمارات المالية ورفع القيود على الحسابات المالية والسفر للسودانيين وإتاحة الوصول للمنتجات التقنية والتكنولوجية.غيرأنَّ التركيز على فوائد إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب من قبل السلطات كان بمنزلة “دَسِّ للِسُّمِ في الْعَسَلِ”، لإلهاء الشارع السوداني عن حقيقة التطبيع.
و الحال هذه،أبرمت الحكومة الانتقالية السودانية والبنك الدولي ومانحون أوروبيون، اتفاقية لتقديم حزمة مالية لدعم الخرطوم، الجمعة الماضي ، بقيمة 370 مليون دولار،تخصص بشكل رئيس لدعم الأسر المحتاجة في السودان.ووقع عن الخرطوم وزيرة المالية والتخطيط الاقتصادي هبة محمد علي، وعن البنك الدولي المدير القطري عثمان دايون، بحسب الوكالة السودانية للأنباء “سونا”.
ويأتي التوقيع متزامنًا مع إعلان البيت الأبيض، الجمعة الماضي ، عن قبول السودان و”إسرائيل”، توقيع اتفاق تطبيع للعلاقات، بعد توقيع الرئيس ترامب مرسوما رفع بموجبه اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأوضح بيان مشترك أصدره البيت الأبيض، أنَّ كلا من دونالد ترامب وعبد الفتاح البرهان وعبد الله حمدوك، وبنيامين نتنياهو، أَجْرَوْا محادثاتٍ واتَفَقُوا على تطبيعِ العلاقاتِ، وأضاف أنَّ الاتفاق يَنُصُّ على بَدْءِ علاقاتٍ اقتصاديةٍ وتجاريةٍ، والتركيز بصورة أولية على الزراعة.
وتشمل المنحة مبلغ 200 مليون دولار من البنك الدولي، و170 مليونا من شركاء السودان الأوروبيين (الاتحاد الأوروبي، وألمانيا، وإيرلندا، وهولندا، والسويد).وستخصص المنحة لدعم المواطنين السودانيين بطريقة مباشرة، عبر برنامج دعم الأسر، خاصة المتعففة منها، في وقت تعاني فيه البلاد من تراجع فرص العمل وتزايد نسب الفقر، ونسبة تضخم بلغت 212 بالمئة، الشهر الماضي.
وتقضي خطة الإصلاح، بإلغاء دعم الوقود الكبير لإفساح المجال لمزيد من الإنفاق الاجتماعي، بما في ذلك برنامج دعم الأسرة في السودان، والإنفاق الصحي، وتوسيع القاعدة الضريبية.وبحسب البنك الدولي، لم يحظ السودان بدعم منه منذ قرابة 29 عاما، بالتزامن مع وضع اسمه في قائمة “الدول الراعية للإرهاب”، تبعها عقوبات اقتصادية نتج عنها وقف المساعدات الدولية.
إذا كانت حجة التطبيع بين السودان و الكيان الصهيوني، هي جني الفوائد الاقتصادية من هذا التطبيع ،فإنَّ الدول الأفريقية التي طبعت مع “إسرائيل”،خير دليل على عدم تحقق فوائد من التعامل مع الاحتلال الصهيوني ، وأمام السودان تجارب ماثلة سواء في إريتريا أو التشاد التي طبعت لكنها لا تزال دول فقيرة إلى الآن.وينفي الوطنيون السودانيون أن تكون مناصرة السودان للشعب الفلسطيني سببا في الأزمة الاقتصادية بالبلاد، منبهين أنَّ التدهور الاقتصادي بدأ منذ التدخل الصهيوني بدعم الميليشيات المسلحة في جنوب السودان ما أدى إلى تقسيم البلاد وخسارة السودان لثرواته النفطية التي تتركز في الجنوب.وربما يشعر الشعب السوداني بتحسن بسيط لفترة قصيرة جراء رفع اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب ،لكنَّ الفوائد لن تكون استراتيجية في ظل البنود التي تضعها أمريكا مثل احتكار الاستثمارات والسيطرة على مناجم الذهب في السودان ووضع قاعدة عسكرية في البلاد.
تداعيات التطبيع على تحالف السلطة في السودان
يطرح تطبيع السودان علاقاته مع الكيان الصهيوني تساؤلات حول ما سيعقب الخطوة من ارتدادات على الداخل السوداني سياسيًا وشعبيًا واقتصاديًا، في ظل انقسام حزبي حاد تجاه التطبيع.ويظهرمواقف الأحزاب والتجمعات السودانية الانقسام جليا بشأن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما على صعيد الأحزاب الداعمة والمشاركة في السلطة الحالية. وبدأت في 21 آب/ أغسطس 2019، مرحلة انتقالية بالسودان تستمر 39 شهرا تنتهي بإجراء انتخابات، ويتقاسم خلالها السلطة، الجيش و”قوى إعلان الحرية والتغيير”، قائد الاحتجاجات الشعبية، التي أدت إلى خلع الرئيس عمر البشير.
وتُعَدُّ قوى “الحرية والتغيير” التحالف الأكبر في تاريخ السودان، وتمثل المكون المدني في السلطة الانتقالية، وتتكون من “تجمع المهنيين”، و”تحالف الإجماع الوطني”، و”تحالف نداء السودان”، و”تحالف التجمع الاتحادي والقوى المدنية” (عدد من أجسام ومنظمات المجتمع المدني).ومن هذه المكونات، يعارض التطبيع “تحالف الإجماع الوطني” وأبرز أحزابه (“الشيوعي”، “البعث العربي الاشتراكي”، “الناصري”)، إلى جانب المكون الأكبر في تحالف” نداء السودان” الذي يتكون من أحزاب: “الأمة القومي”، و”المؤتمر السوداني”، و”البعث السوداني”، و”الجبهة الثورية” (حركات مسلحة).
في المقابل، أعلنت “الجبهة الثورية” بشقيها (الجبهة الثورية، والجبهة الثورية بقيادة مناوي)، ترحيبها بالتطبيع، فيما يرى “المؤتمر السوداني” أنه “ليس هناك أي موقف أيديولوجي ضد إسرائيل”.ولم يعلن أي من “تجمع المهنيين” و”التجمع الاتحادي” و”القوى المدنية” موقفه من التطبيع حتى الآن.
وتستبعد النخب السودانية حصول “شرخ أو انهيار” في التحالف المدني المكون والداعم للسلطة الانتقالية، رغم معارضة جزء منه للتطبيع.فهي تعتقد أنَّ هذا التحالف “توطد خلف قضايا سودانية محلية تتصل بمعارضة النظام الحاكم واستمر بعد الإطاحة بالبشير على هذا الأساس”.
و ما يؤكد هذا الاعتقاد َّ حزب “الأمة القومي” ورئيسه الإمام الصادق المهدي الذي رفض التطبيع، لكنه في ذات الوقت لم يشارك في مسيرات 21 تشرين أول/ أكتوبرالجاري ، لكي لا يضعف الحكومة. علمًا أنَّ تيار الشباب في الحزب هو الذي اشترك في الثورة.
وتشير هذه النخب السودانية أن أحزاب “تحالف الإجماع الوطني” تخشى من عودة فلول النظام السابق، وعليه فإنها تستبعد إقدامهم على “إحداث شرخ في جبهة الحكومة الحالية”، لا سيما أنَّ
الموقف من التطبيع ليس بالعامل القوي الذي يدفع باتجاه تفسخ التحالف المكون للسلطة الانتقالية.
وهناك قسم من النخب السودانية يتوقع انهيار تحالف السلطة الانتقالية لسببين، الأول: أن “تحالف نداء السودان” يعمل على المحافظة على الدولة العميقة التابعة للنظام البائد، والثاني: أن المكون العسكري بالمجلس السيادي يسعى إلى إقصاء قوى الحرية والتغيير عبر تكوين مكون جديد يدعى “شركاء السلام”، يضم إليه الجبهة الثورية (الحركات المسلحة) الموقعة على اتفاق جوبا للسلام الشهر الماضي.وعبر عن استغرابه من عدم صدور موقف من قبل “تجمع المهنيين” بالسودان من التطبيع، إلا أن يرجح أن التجمع يميل نحو رفض التطبيع، نظرا لأنه مكون محسوب على التيار اليساري.
وعلى صعيد الأحزاب خارج السلطة، تقف التيارات الإسلامية المختلفة ضد التطبيع، ومن أبرزها “حزب المؤتمر الشعبي” وحركة “الإصلاح الآن”.ففي المقابل، يعتبر “حزب الأمة” بقيادة مبارك الفاضل، من أكبر المؤيدين للتطبيع.ولم يصدر موقف حول التطبيع من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو أحد الأحزاب خارج السلطة لكنه يبدي مرونة تجاه الفترة الانتقالية.
ويعتقد المختص في الشأن السوداني هاني الدالي أنه “لا يوجد وزن حقيقي للأصوات المؤيدة للتطبيع داخل الشارع السوداني”، مشددا على أن جميع الأحزاب والمكونات السودانية الكبيرة والمؤثرة موقفها رافض للتطبيع.
خـاتمـــــة:
بِتَجْسِيدِهِ سياسةِ التطبيعِ مع الكيان الصهيوني ، يُعَبِّدُ السودان بوصفه جسرًا بين شمال أفريقيا العربي وجنوب أفريقيا، الطريق لمزيد من التغلغل الصهيوني في القارة السمراء، بعد أن كانت الخرطوم ندبة في علاقات تل أبيب مع العالم العربي، فهناك تقررت اللاءات الثلاث في 1967، وإضافة إلى ذلك، فإنه في الخرطوم قتل السفير الأمريكي في 1973، وفي حرب أكتوبر 1973، شاركت فيها قوات سودانية، إضافة إلى سماح السودان لإيران بأن تقيم بنية تحتية لإنتاج الوسائل القتالية وشبكة تهريب لدعم جركات المقاومة حماس والجهاد في غزة.
في حرب 1967الخاطفة حقق الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية نصراً كبيراً على الزعيم الراحل عبد الناصروالحركة القومية العربية .ولم تكن هزيمة 1967 هزيمة للعرب أمام الكيان الصهيوني فحسب، بل كانت أيضًا هزيمة لليسار العربي في مواجهة القوى الرجعية العربية بقيادة المملكة السعودية، أي بصورة رئيسية ، هزيمة مصر الناصرية العالمثالثية، الشعبوية، الاشتراكية، و للقومية العربية في مواجهة الملكية السعودية المحافظة، المؤيدة للغرب الإمبريالي و الداعية إلى الجامعة الإسلامية.
لقد انتصرالمشروع الصهيوني في حرب حزيران 1967، ونجح في إحداث الفرقة بين العرب ،إذ بات يتصوربعضهم أن البعض الآخر يسرق ثروته. وباتت مفردات ” النكسة” تعني الهزيمة في وجه الكيان الصهيوني لكن أيضاً – وخصوصا ً- نهاية قاسية للمشروع القومي العربي بإقامة دولة عربية تقدّمية قوميّة وحديثة كان ينادي بها جمال عبد الناصر (1918-1970) الذي تسلم الحكم في مصر في العام 1952، مع الضبّاط الأحرار،وأصبح الداعي إلى الوحدة العربيّة.
في مؤتمر القمة العربية الرابعة الذي عقد في الخرطوم عاصمة السودان في نهاية أغسطس/آب 1967،أباح عبد الناصر بعد أن استخلص نتائج هزيمته وانعكاساتها على صعيد العلاقات العربية-العربية، للدعاوي السعودية المؤيدة للقوى الإمبريالية الغربية أن تتغلب على دعاوي”المتصلبين”، من دعاة الخط اليساري المعادي بشدة لإمبريالية الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى، إذ كانت سورية البعث تقف على رأس هذا الخط المتصلب.
إذا كانت قمة الخرطوم قد كرست الرفض العربي للكيان الصهيوني ، إذ التزمت الدول العربية بعدم توقيع الصلح مع دولة الكيان الصهيوني ، وبعدم التفاوض معها، وبعدم الاعتراف بها، أي اللاءات الثلاث ، لكن قمة الخرطوم كرست في الوقت عينه الانتصار للرجعيين العرب المرتبطين بالإمبريالية الأمريكية،وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية و المغرب وتونس-على “المتطرفين” أي بصورة أساسية على سورية، وبدرجة أقل على الجزائر و العراق ومنظمة التحريرالفلسطينية ،والاعتراف بهيمنة مصالح القوى الغربية في الوطن العربي، والامتناع عن استخدام السلاح الوحيد الذي يملكه العرب- النفط- للضغط على الغرب، الذي يملك وحده القدرة لإجبار الكيان الصهيوني على الجلاء عن الأراضي العربية المحتلة،كان يعني في الواقع تكريس هذا الاحتلال الصهيوني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى