عشرة مظاهر لشيخوخة امريكا

 
مثلما يشيخ كل مخلوق حي فان القوى العظمى تشيخ وتدخل نفق التدهور التدريجي واحيانا السريع حتى تصل هاوية التفكك ثم الموت، او تستقر في قعر الضعف والتحول الى دولة عادية فاقدة لخصائص القوة العظمى، وكل الامبراطوريات في التاريخ خضعت لهذا القانون واخرها الامبراطورية السوفيتية، والان ننتظر تفكك الامبراطورية الامريكية وربما بصورة اشد ماساوية، فما هي ابرز مظاهر شيخوخة امريكا؟

1- كانت امريكا متفوقة على كافة القوى الاخرى اقتصاديا وتسيطر على العالم، اما الان فان دولا اخرى تشاركها هذه القمة مثل الصين واليابان والاتحاد الاوربي وروسيا وغيرها.فالصين تتجه لاحتلال القمة.

2- كانت امريكا متفوقة عسكريا على كل العالم، والان روسيا متفوقة عسكريا على امريكا بصورة واضحة بينما الصين تقترب من التوازن مع امريكا عسكريا وهو تطور يحد كثيرا من قدرة امريكا على العدوانات.

3- قوة الجيوش الاساسية تنبع من معنويات الجنود قبل السلاح، والجيش الامريكي مثل المواطن الامريكي معنوياته متدنية لانه ليس ابن امة بل ابن جالية، بينما جيوش الصين وروسيا وبعض دول الاتحاد الاوربي لامم عريقة لها هوية قومية راسخة.

4- اللحمة الاجتماعية هي مصدر ديمومة اي دولة وبدونها تتفكك وتنهار، ومعين اللحمة الاجتماعية هو الهوية الوطنية وبدونها لا توجد لحمة عضوية دائمة ويصبح متوقعا ان امكانيات الدولة ومهما كانت ضخمة عبارة عن كم يمكن تحوله الى هباء منثور مادام البشر لاتربطهم هوية ثقافية مشتركة وراسخة، ولهذا فان المواطن الامريكي ينظر لمصلحته اولا وليس لمصلحة الدولة وهو ما يجعل العمل السياسي الامريكي قائما على الفردية واشباعها، بينما الصين وروسيا واليابان والاتحاد الاوربي كيانات تقوم على اللحمة الوطنية وهو ما يجعلها متفوقة على امريكا على المدى البعيد.

5- نلاحظ بسهولة ان امريكا تقدم مرشحين شيوخ وتتراجع نسبة الشباب والكهول بسرعة، ولعل اختيار ترامب كان منطلقا من تلك الظاهرة فباستثناء الرئيس رونالد ريجان كان رؤوساء امريكا كلهم من بين الشباب والكهول، والسبب هو ان الرئيس الامريكي بصفته المدير التنفيذي الاعلى للشركة العظمى المسماة امريكا يجب ان يكون حيويا في اداء واجباته التنفيذية، بينما من اختارته، وهي النخب الرأسمالية،تجلس تراقب عن بعد بين الفينة والاخرى لان الالة الراسمالية كانت تعمل بصورة جيدة او مقبولة ولا تحتاج لتدخل النخبة، اما الان ونظرا لتدهور امريكا اقتصاديا وفي كل المجالات فان القائد الفعلي لها عليه ان يتولى القيادة بصورة شبه مباشرة من خلال المتابعة اليومية للرئيس وتوجيهه وتوبيخه وعزله، ولهذا فان الحاجة كانت ماسة لرئيس شبه خرف شائخ الجسد والروح ونصف امي مثل بوش الصغير وترامب وبايدن كي تسهل قيادته من قبل النخبة.

ولعل من ابرز الحوادث الفضائحية التي تدل على ان الرئيس لم يعد يمارس حتى الكثير من سلطاته التنفيذية هو الحادثة الشهيرة التي كان فيها وزير الخارجية بومبيو يتحدث عن كورونا ووصفه (بانه تمرين) فما كان من ترامب الواقف الى جانبه الا ان يقول له: (كان يجب ان تخبروني بذلك)! عندما تمسك النخبة القائدة لامريكا بالحكم بهذه الطريقة فلانها تعرف ان الدولة تترنح بعد ان دخلت طور الشيخوخة. وعلى العكس من امريكا ذات الرؤوساء والمرشحين للرئاسة من الشيوخ ومنهم جو بايدن وترامب فان روسيا قدمت بوتين الشاب الذي قلب عملية الانهيار السوفيتي الى فرصة لنهوض روسي نوعي، وهذا ينطبق على الصين والاتحاد الاوربي واليابان حيث يتولى الشباب والكهول القيادة في تعبير واضح عن المحافظة على زخم الامة وحيوتها. ولذلك فان من اهم الاسئلة الان في امريكا هو السؤال التالي: لم يتنافس شيخان بائسان فاقدان للاهلية حتى في حدها الادنى،على الرئاسة فقط بينما شباب وكهول امريكا يبعدون؟

6- عندما تبدأ محافظات او ولايات الدولة بالمطالبة بالانفصال تحت ضغط العجز عن تحمل تغطية عجوزات الولايات الفقيرة، وهو ما حصل لولاية كاليفورنيا بعد ازمة عام 2008 وتبعتها اكثر من عشرة ولايات كلها طالبت بالانفصال وتأسيس دول مستقلة، عندما تتبلور هذه الظاهرة فان الدولة الاصطناعية –لان امريكا ليست دولة بل شركة بالاصل – تفقد صمغها وتصل الى بوابة جحيم التقسيم مهما تم تأجيله. فالدولة عموما والامبراطورية خصوصا عندما تسود فيها ظاهرة نضال الغني منها من اجل الاستقلال ورفضه تحمل اعباء الفقراء فيها فان اللحمة المصلحية المؤقتة الرابطة لها تكون قد دخلت فرن حرق الجثث، وهو ما يجعلها امام مصيرمفزع. اما الصين وروسيا واليابان والاتحاد الاوربي فانها تعزز لحمتها بعد ان اتسعت العدوانية الامريكية وشملت الحلفاء وليس الاخرين فقط في زمن ترامب، والذي جاهر بلا تردد بان امريكا يجب ان تستولي على ثروات الاخرين!

7- امريكا الان تفقد حلفاءها الاوربيين وغيرهم بعد وصول ترامب الذي تخلى عن كل المنظمات التي اسستها هي مثل منظمة النفتا (امريكا الشمالية والمكسيك) ومنظمة التجارة العالمية والعولمة وفرضت امريكا اقتصاد السوق كوسيلة لتحديد الاسعار وليس تدخل الدول، ثم جاء ترامب ليتملص من اتفاقيات ومعاهدات امريكا ويعيد نظام الحماية التجارية وتدخل الدولة في تقرير الاسعار ويفرض ضرائب على حلفاءه مثل المانيا وغيرها، ويقايض ماكان مجانيا في مرحلة صعود امريكا وهو حماية حلفاءه الاوربيين والاسيويين بالمال محولا جيش امريكا الى جيش للايجار، بل ان امريكا تبتعد عن حليفتها العضوية الدائمة وهي بريطانيا.

8- عندما تعيش الامبراطورية على الدين وتتجاوز قيمته حجم الناتج القومي فان الدولة او الامبراطورية تدخل مرحلة الاحتضار، وامريكا يتفوق الان دينها العام الذي تجاوز ال21 تريليون دولار على ناتجها القومي الاجمالي، فهي تعيش على الدين وتحارب به وتضغط بقوته بينما نرى الصين والمانيا واليابان وروسيا وغيرها لديها فائضا تجاريا وديونها لا تتعدى النسبة المقبولة للمحافظة على حيويتها. وحالة عدم الاستقرار التام والدائم يعرض امريكا للانهيار المفاجئ في اي وقت.

9- تقترن عملية تفكك القوى العظمى بظاهرة انهيار القيم التي كانت سائدة في فترة الصعود والشباب، كانت امريكا تفتخر بالتعددية وحرية الاختلاف واحترام الاراء المناقضة والتمسك باللياقات الاجتماعية والاخلاقية، وهذا ما كنا نلاحظه حتى الستينات من القرن الماضي، ولكنه اخذ يتراجع منذ اقصاء الرئيس ريتشارد نيكسون بعد فضيحة ووترجيت، وهي الفترة الواضحة لبدء انهيار امريكا قيميا كنتيجة لتدهور مكانتها الاقتصادية بعد الغاء اتفاقية بريتون وودز، وتصاعد الانهيار القيمي، فكانت فضيحة مونيكا لوينسكي دليلا حاسما على تراجع القيم الامريكية حيث ان نيكسون اجبر على الاستقالة لانه كذب فقط بانكار معرفته بالتجسس على مقر الحزب الديمقراطي واسمه (ووترجيت)، ولكن بيل كلنتون في التسيعينات ارتكب ثلاثة جرائم يعاقب عليها القانون وليس واحدة فقط مثل نيكسون، وهي 1- الكذب وهو تحت القسم بانكاره وجود علاقة بينه وبين مونيكا، و2- عرقلة العدالة و3- استغلال موظفة فدرالية، ولكن النتيجة كانت مكافأته على كل تلك الانحرافات عن (القيم الامريكية) باعادة انتخابة وبشعبية اكبر ودون متابعة قضائية او اجباره على الاستقالة كما فعلت النخبة مع نيكسون! وحصل هذا التدهور السريع في القيم خلال عقدين فقط!

ولكن الامر مع بوش الصغير وصل حدودا صادمة حيث انه مارس الكذب خصوصا عند تبريره لغزو العراق اكثر من 120 مرة وتسبب في كارثة انسانية للعراق ولامريكا ايضا ووصف من قبل الامريكيين ب(انه غبي) وانه (اغبى رئيس) ومع ذلك اعيد انتخابه مكافئة له على غباءه وانحطاطه الاخلاقي! ولكن انهيار القيم الامريكية الكامل وصل في عهد ترامب مرحلة اللاعودة، ففي المناظرة الاخيرة بين ترامب وبايدن ظهر الانهيار الكامل للقيم الامريكية حيث تبادلا احط انواع الشتائم والبذاءات لدرجة صدمت الامريكي العادي! اشتداد الانهيار الاخلاقي اثناء الحملات الانتخابية تعبير واضح عن تدهور النظام بكامله، فلقد زالت مرحلة احترام التعددية وظهر مارد الاستبداد واضحا من خلال اصرار الاطراف الامريكية على حرق الطرف الاخر بكافة الطرق اللااخلاقية وهي ظاهرة كاركتيرية كانت تسيطر عليها قواعد الضبط الاجتماعي لكنها الان افلتت ولم تنفلت بصورة عفوية. وما وصف به ترامب من قبل الاعلام والساسة الامريكيين يعبر عن المستوى الخطير لتدهور القيم الامريكية وتفكك امريكا شعبيا،وبحسب مجلة “نيوزويك” الأمريكية فقد اطلقت الاوصاف التالية على ترامب: مهرج وعنصري ومحتال ومخادع وغشاش وأحمق وفظيع وهمجي وغير منضبط ولا يحب القراءة، ودكتاتور ومغرور، أناني، جاهل، وعنصري ونرجسي! هذه الاوصاف في دولة المؤسسات تمنع من يحملها من تولي منصب حارس في بناية فكيف صار رئيسا وتلك الصفات كانت معروفة عنه قبل انتخابه؟

10- والمظهر الاخر للانهيار الامريكي هو التبديل السريع للمواقف والتخلى الاسرع عن الالتزامات، ترامب وادارته مارسا اكثر انواع التقلب في الوعد والحنث به لدرجة ان العالم فقد الثقة بامريكا تماما،وهذه التبدلات وعدم احترام الالتزامات والاتفاقات مع دول عديدة بما فيها الاتحاد الاوربي اكدت ان امريكا فقدت القدرة على التماسك لدرجة ان العالم كله عبر عن عدم ثقته بما تقوله او تعد به او توقعه من اتفاقيات.

عندما تبرز هذه السمات في اي دولة فأنها تعد شائخة وتقترب من الموت، ومقدمته الموت السريري وامريكا الان في طور الموت السريري، وهي تؤكد ان امريكا تتهيأ لتكون اقصر امبراطوريات التاريخ عمرا والسبب هو انها امبراطورية شركة عظمى وليس دولة قومية، ولعل الانقسامات الحادة التي اعقبت قتل الامريكي الاسود جورج فلويد واعمال التخريب والتظاهر العنيف مجرد مقدمة لما هو اسوأ بكثير مما حصل فالحقيقة المتبلورة تؤكد ان أمريكا دخلت طور التفكك الحتمي.

[email protected] (شبكة البصرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى