مكانة جمال عبدالناصر في التاريخ

 

كان قدر جمال عبدالناصر ان يكون رجلاً تاريخياً في كل ما فعل. إنجازه لثورة الثالث والعشرين من يوليو كان شيئاً تاريخياً، وكذلك كان دوره في تأسيس حركة عدم الانحياز وكسره لاحتكار السلاح. وكذلك كان تأميمه لقناة السويس وصموده للعدوان الثلاثي وخطابه التاريخي من على منبر الازهر الذي لم يعتليه رئيس عربي قبله ولا بعده. ثم تحقيقه للوحده ودوره في استقلال الجزائر. ولا ننسى حب الجماهير له و شعبيته التاريخية التي لم يتمتع بها حاكم قبله ولا بعده. مَنْ غير عبدالناصر من الحكام قام الملايين من السوريين (عندما كان سكان سوريا اربعة ملايين فقط ) بانتظاره طول الليل وحمل سيارته حباً به؟ حتى بعد رحيله، مًن غير عبدالناصر من الحكام قام حوالي ستة ملايين مواطن ( خُمس سكان مصر وقتها) بتشييع جنازته؟

وقد تطول القائمة، و أي بند منها كفيل بأن يجعل من ينجزه من الحكام شخصية تاريخية هامة. فلو فرضاً قام رئيس ما بتأميم قناة السويس ثم لم يقم بأي إنجازات أخرى فإن التاريخ سيذكره بأحرف من نور و ستتغنى بذكراه الأجيال المقبلة بسبب ذلك الإنجاز. فها نحن اليوم لا نزال نذكر بإعجاب الدكتور محمد مصدق الذي قام بتأميم البترول في إيران، رغم أنه لم يمكث في الحكم إلا عام واحد، بينما لا نذكر اسماً واحداً من أسماء رؤساء وزارات إيران الآخرين. منذ بزغ نجم عبدالناصر تداول على العرب حكام وحكام وحكام لكن أكثرنا لا يذكر حتى أسمائهم رغم أننا عاصرناهم، لكنك لا تجد عربياً واحداً لا يعرف من هو جمال عبدالناصر.

إنجازات عبدالناصر وشخصيته و كاريزميته تضمن له مركز تاريخي مرموق. بل أنه يزداد قامةً في عين التاريخ، وتظهر ملامحه بوضوح أكثر، مع تقادم السنين وتباعد العصر حيث يتلاشى سيئاً فشيئاً ويضمحل كل من كان حوله من غثاء الزعامات.

السؤال الذي يفرض نفسه: بأي صورة يا ترى سيذكر التاريخ جمال عبدالناصر؟

والإجابة واضحة أمام أعيننا الآن، وما علينا إلا قراءة ما كُتِبَ عنه في الغرب والشرق. كل ماكتب أو نُشِر في العالم عن هذا الزعيم يؤكد مكانتة التاريخية المرموقة. أنا لست مؤرخاً أو متخصصاً في التاريخ، بل مجرد قارىء يقرأ عن تاريخ بلاده وأمته. ومنذ جئت إلى بريطانيا قبل أربعة عقود أثار انتباهي ما لمسته من قرآتي لما كان يقع بيدي من كتب ومقالات أو أشاهده من برامج عن هذا الزعيم. لقد حاربته بلادهم طيلة حياته ومع ذلك يذكرونه الآن بإعجاب لمواقفه البطولية دفاعاً عن حقوق بلاده، وإصراره على تنفيذ مشاريعه الطموحة لتطوير مصر. بل أكثر من ذلك أنهم الآن يصبون جام غضبهم على مواقف حكوماتهم للحيلولة دون تنفيذ تلك المشاريع. وبالطبع ليس كل ما كُتِبَ عن عبدالناصر إطراء وتبجيل، فكثيراً ما ينتقدون سياساته مثل مواقفة المتشددة ضد اسرائيل وعدم السماح لها بالمرور في قناة السويس و كذلك عدم تهاونه مع أعوانهم و أصدقائهم من الرجعيين في المنطقة، أو مصادقته للاتحاد السوفياتي والصين … الخ وهو ما عبّر عنه الاستاذ فهد الريماوي بقوله: ” يعيبون عليه فضائل لا نقائص .. وطنية لا تبعية..استقامةً لا اعوجاجاً ..“

تلك هي المكانة التاريخية المرموقة التي تليق بجمال عبدالناصر كما أسبغها عليه المؤرخون في مختلف البلاد. لكن عندما نستعرض أرفف المكتبات في العالم العربي نجد شيئاً مختلفاً تماماً، نجد كتباً تنضح حقداً وتبالغ بالجرح والقدح وكتباً أخرى تكشف ما نشر من تلفيقات، وكأن الرجل متهم بطبيعته. ويزيد الأمر غرابة أن أكثر تلك المنشورات صدر في مصر ومن مصريين بعد سنين قليلة من رحيله وفي كثير من الحالات من أناس سبق لهم وأن كتبوا الكثير، في حياته وبعد رحيله، بتمجيده والإشادة بإنجازاته. غني عن القول أن ما لُفِّقَ من قدح وتجريح لا يسيء إلى عبدالناصر، فالرجل عاش عظيماً ومات عظيماً ولن يمسه شيء مما أُفتري عليه، لكن كل ذلك القدح والتجريح يطعن في صميم كرامة الشعب المصري و حكمته وأصالته و اتهام له بالسطحية والرعونة وتغيير مواقفه من النقيض الى النقيض.

و لكن لا عجب ــ فنحن لا نزال نعيش عصر الردة الذي بدأ باستسلام السادات. عصر ارتفعت فيه كفة الفساد والتبعية وراج فيه سوق الخيانه والتطبيع و أصبح التذكير بجمال عبد الناصر أمراً غير مرغوب فيه خشية ايقاظ الضمائر النائمة، أو إفساد متعة جلسات التطبيع و الخيانة كما يفسد صوت الآذان المتعة في السهرات الحمراء. انبرى الاخوان والصهاينة العرب بمختلف أطيافهم لتوظيف احقادهم لإغراق العالم العربي بكتابات ركيكه و تلفيقات طفولية لتشويه إنجازات عظيمة و شخص عظيم لا يزال نقاؤه يؤرقهم كما تؤرق الضمائرُ من لهم ضمائر.

هناك مقولة مشهورة ”أن التاريخ ما هو إلا مجموعة أكاذيب كتبها المنتصرون“، وهو قول صحيح الى حد كبير لكنه طبعاً ليس صحيح تماماً لأن بديهيات التاريخ تبقى واضحة. فها نحن الآن نعيش عصراً انتصر فيه الصهاينة العرب و المستسلمون ومع ذلك و بعد نصف قرن من أكاذيبهم و تلفيقاتهم الحاقده لا نزال نرى أن بديهيات التاريخ يعرفها العدو كما يعرفها الصديق ولا يشك فيها الا معتوه. فلا يشك أحد في وطنية عبدالناصر و نزاهتة وبساطة اسلوب معيشته ومناعته ضد الفساد. ولا يشك أحد في شعبيته الجارفة و استعادته لقناة السويس وبنائه للسد العالي. بل أنه لا يشك أحد في مكانته التاريخية، وهو ما يؤلم الحاقدين عليه لعدم مقدرتهم على تقبل تلك الحقيقة فيزدادون إصراراً على تشويهها، مثل الفاشل الذي ينهال على كتاب التاريخ تلطيخاً وتمزيقاً ظاناً أنه بذلك يغير التاريخ.

لنلقي معاً نظرة سريعة على تاريخنا ونستعرض سيرة نخبة من القادة الذين صنعو ذلك التاريخ لنتعرف على المكانة التي يحتلها هذا الزعيم الذي وصفه سامي شرف بدقة عندما قال ” إنه كان فلتة من فلتات التاريخ“. لكن من البداية ينبغي التنويه أنه ليس من السهل دراسة شخصيات وأحداث الماضي بمعايير الحاضر، فالزمان غير الزمان والظروف غير الظروف. ثم أننا الآن ننظر الى الخلف (hind sight) لمعرفة أحداث الماضي، وما أسهل من انتقاد الأحداث بعد أن تكون قد حدثت وتبينت نتائجها، وميزة ”النظر للخلف“ لم تكن متاحة للذين صنعوا الاحداث فكان توقع نتائجها بالنسبة لهم ضرباً من التنجيم.

من حسن حظنا كعرب ومسلمين أننا نمتلك في تاريخنا نموذجاً ذهبياً للقياس عليه متمثلاً في الدولة الاسلامية الراشدة و خلفائها الاربعة الذين كانوا مثالاً أعلى في الاستقامة والعدل وكل جوانب ادارة الدولة ومثالاً يحتذى لما ينبغي ان يكون عليه الحاكم. لم يكونوا انبياءً يوحى اليهم، بل كانوا من عامة البشر، وبالتالي فإنه من الممكن، نظرياً على الأقل، لسائر الحكام أن يجاروهم في ما أنجزوه.

انتهت الخلافة الراشدة بمقتل علي وقيام الدولة الأموية على يد معاوية بن أبي سفيان، و هو يعتبر من أهم الشخصيات في التاريخ لإسلامي ولكن ليس من أفضلها. فقد أنهك الدولة الاسلامية في صراعات داخلية وتسبب في مقتل عشرات الآلاف من خيرة المسلمين. وهو الذي ألغى نظام الخلافة الانتخابي باستحواذه على الدولة الاسلامية الفتية و تحويلها الى مملكة لبني أمية. ورغم أنه يسجل للدولة الأموية اضافاتها الكثيرة وتوسعاتها في شمال أفريقيا وآسيا والأندلس، إلا أن ذلك كله كان غالباً سيتم على أي حال تحت راية الخلفاء الراشدين، فدولتهم كانت أصلاً دولة فتوحات. كان معاوية زعيماً حصيفاً قوياً لكنه لم يكن معصوماً، وكان كفؤاً و عظيماً لكن عظمته نفعت عشيرته و أضرت بأمته، وها هو الشرخ الذي أصاب به المسلمين لا يزال ينزف بغزارة الى يومنا هذا.

أما أفضل خلفاء بني أمية وأكثرهم استقامة وزهداً فقد كان عمر بن عبدالعزيز وذلك بإجماع المؤرخين، لكن وللآسف نالته يد الغدر بعد نحو عامين من ولايته.

ورث خلفاء بني العباس دولة كبرى مترامية الاطراف ومتعددة الجنسيات عمَّ فيها الرخاء و التقدم العلمي والأدبي. توارث المُلْك في الدولة العباسية نحو أربعون خليفة كان من أشهرهم مؤسس الدولة عبدالله السفاح وأبو جعفر المنصور وهارون الرشيد وأبنيه الأمين والمأمون. كان أداء الخلفاء بشكل عام متوسطاً وفي بعض الحالات كان أقل من المتوسط مما قد يفسر النهايات المأساوية لكثير منهم . والدارس لتاريخ الإمبراطوريات الكبرى يلاحظ أنه ليس من الضرورة أن يجلس على رأس الدولة العظيمة قائد عظيم، فقد كان معظم قياصرة الروم و ملوك الفرس ضعفاء، ولنا في أمريكا عبرة: فها هو يرأسها ترامب وهو جدير أن يكون في زنزانة سجن، وكذلك كان اوباما .. وبوش .. وكلينتون … الخ.. عموماً لم يأت من خلفاء بني العباس من ينافس معاوية في زعامته و قيادته و قدراته في إدارة الدولة ولا في أهميته أو فصاحته، كما لم يأت منهم من ينافس عمر بن عبدالعزيز في استقامته وعدله.

بعد سقوط الدولة العباسية وتدمير بغداد على يد التتار، تعاقبت على بلادنا دويلات كثيرة وملوك أكثر وكان لكل هفواته وانجازاته. من بينهم يقف مهيباً و شامخاً صلاح الدين الأيوبي، مؤسس الدولة الايوبية وصاحب الانتصارات العسكرية المبهرة وتحرير القدس.

ظهر جمال عبدالناصر سنة ١٩٥٢ وبلاده محتلة عسكرياً ومضطهدة سياسياً و مسلوبة الحقوق وكان أول مصري يحكم مصر فعلياً منذ آلاف السنين. حرر بلاده وعكف على تطويرها فجعل التعليم حقاً لكل فرد وبنى المصانع وجعل قناة السويس مُلْكاً لمصر وبنى السد العالي وهو أعظم مشروع في تاريخ مصر. أقام دولة كبيرة في الشرق بتوحيده مصر وسوريا وجعل للعرب مركزاً عالياً وأحيا في قلوبهم الأمل بمستقبل مشرق. لم تفسده السلطة وعاش حياة بسيطة ولم يجعل الدوله مُلكاً له ورحل عن هذه الدنيا وهو لا يمتلك بيتاً. مكث في السلطة ثمانية عشر عاماً ومع ذلك لم يستبدل سيارته الأوستن الصغيرة التي اشتراها قديمة قبل قيامه بالثورة .

ربما كان جمال عبدالناصر هو الزعيم الوحيد الذي يقترب من عمر بن عبد العزيز في زهده واستقامته. وطبعاً كانت ظروف كل منهما مختلفة تماماً فمصر لم تكن دولة قوية مستقلة كما كانت الدولة الأموية، وكان أعداؤه في الداخل والخارج يحيكون ضده المؤامرات تلو المؤامرات للتخلص منه. من الناحية الأخرى كان جمال عبدالناصر قيادياً موهوباً وذو شخصيه كاريزميه بينما اشتهر عمر بن عبدالعزيز بالورع والقسط أكثر مما اشتهر بموهبته القياديه.

بعض الناس، وبحسن نية، يعقدون مقارنة بين عبد الناصر و محمد علي باشا الذي جعل من مصر دولة حديثة ذات جيش قوي وصل الى اعتاب اسطنبول. لكن المقارنة مجحفة لأن محمد علي كان يبني مجداً شخصياً له ولأسرته بينما كان عبد الناصر يبني مجداً للمصريين و دولة لهم وللعرب جميعاً. محمد علي كان مهووساً بالمُلْك بينما جورج واشنطن، الذي عاش قبله بفترة، رفض المُلك عندما عُرِضَ عليه باعتبار أن العالم تجاوز عصر الملكيات الذي كان في أنفاسه الأخيرة. ثم لا ننسى مذبحة القلعة وإبادته للمماليك عن بكرة أبيهم، و كانوا قوماً مستعربين ولم يعرفوا لغة ولا ثقافة إلا لغة العرب وثقافتهم و يعود اليهم الفضل في الانتصار على التتار والصليبيين … شتان بين هذا وذاك.

يظهر لي أنه باستعراض تاريخنا منذ عصر الخلفاء الراشدين، نكاد نرى جمال عبدالناصر وهو يقف شامخاً مهيباً في بلاط الشرفاء في ساحة التاريخ جنباً إلى جنب مع الناصر صلاح الدين، في قيادته وتصديه للمعتدين الغاصبين. كما أننا نراه يقف محاذياً لعمر بن عبد العزيز في استقامته وزهده وأن كلاهما لم يسعيا لمُلْك أو مجد شخصي أو عشائري.

وعلى أي حال فكما قلنا من البداية فأنه من غير الانصاف الحكم على الماضي بمعايير الحاضر. لكن مُثُلاً عالية مِثل ِنسيان الذات و التفاني في سبيل الأمة والوطن والزهد والبساطة في المعيشة و الاستعصاء على الفساد لم تكن من اختراعات القرن العشرين، فقد مارسها الخلفاء الراشدون في القرن السابع الميلادي، ثم نسيها الحكام المسلمون أربعة عشر قرناً حتى ذكرنا بها جمال عبد الناصر.

ولكن يبدوا أننا نسيناها مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى