لانها “ام الثورات”.. الجزائر لن تشارك في بيع فلسطين ولن تبارك للبائعين والمطبعين

يشهد العالم العربي موجة مسمومة من التقارب مع إسرائيل، من خلال إقامة دول عربية علاقات رسمية مع الطرف الإسرائيلي؛ على غرار الإمارات العربية المتحدة والبحرين اللتين وقَّعتا اتفاقية تعلن من خلالها رسميًّا تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
بالإضافة إلى البحرين والإمارات، فقد استقبلت سلطنة عُمان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أكتوبر (تشرين الأول) 2018م، كما تدل مؤشرات أخرى على أن السودان يمضي في الطريق نفسه بعد لقاءات جمعت القيادة العسكرية السودانية التي تدير البلاد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ كما تحدَّثت بعض الجهات الرسمية الإسرائيلية عن قرب التحاق بلدان أخرى بقافلة «التطبيع».
في ظلِّ هذه الموجة الجديدة من تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، تقف علاقة فلسطين والجزائر بعيدة عن ذلك كله، إذ أكَّدت الجزائر، على لسان رئيسها عبد المجيد تبُّون، أن «هنالك نوعًا من الهرولة نحو التطبيع، نحن أولًا لا نشارك فيها ولا نهرول إليها، القضية الفلسطينية بالنسبة لنا مقدَّسة وبالنسبة للشعب الجزائري برمَّته، هي أم القضايا لا يمكن حل القضية الفلسطينية إلا من خلال دولة فلسطينية على حدود 1967م، وعاصمتها القدس الشريف، حينها فقط سيحلُّ مشكل الشرق الأوسط».
يعود الارتباط بين فلسطين والجزائر إلى مئات السنين منذ الحملات الصليبية على الأقل؛ إذ شارك الثوار الجزائريون بقيادة العالم المتصوِّف «أبو مدين الغوث» في حروب صلاح الدين الأيوبي لاسترداد القدس من أيدي الصليبيين، وقد بقي بعضهم هناك وسكنوا في محيط المسجد الأقصى، وقد أهداهم ابن صلاح الدين الأيوبي أراضي في تلك المنطقة عُرفت فيما بعد بـ«حارة المغاربة»؛ وهي التي جرى تدميرها في حرب 1967م من طرف الاستيطان الإسرائيلي، وتلك لمحة تاريخية ممهدة لتلك العلاقة المتينة التي نشهدها بين فلسطين والجزائر.
وبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م، عرفت البلاد موجات هجرة بين فلسطين والجزائر من بعض القبائل الجزائرية إلى فلسطين، سواء هربًا من بطش الاحتلال وقمعه، أو نفيًا بسبب مشاركتهم في الانتفاضات الشعبية، ومن بين القرى الفلسطينية التي احتضنت الجزائريين وقدموا إليها في القرن التاسع عشر، قرية ديشوم الفلسطينية التي هجَّر أهلها الاحتلال الإسرائيلي.
نموذج التحرُّر الجزائري يُلهم الفلسطينيين
أثناء بدايات الاحتلال اليهودي لفلسطين والنشاط الصهيوني لانتزاع الأراضي الفلسطينية في مطلع القرن العشرين، كانت النخبة الجزائريَّة، رغم رضوخها تحت الاستعمار الفرنسي تؤكِّد دعم القضية الفلسطينية، وذلك ما يظهر في كتابات بعض المثقَّفين مثل الفنان محمد راسم، وجمعية العلماء المسلمين مثل عبد الحميد بن باديس، وبالخصوص البشير الإبراهيمي الذي كتب العديد من المقالات، وأسس تنظيمًا لدعم المقاومة الفلسطينية باسم «الهيئة العليا لإعانة فلسطين» في يونيو (أيَّار) 1948م، بمشاركة كل من فرحات عبَّاس (التيار الليبرالي)، والطيب العقبي، وإبراهيم بيوض (تيار جمعية العلماء المسلمين).
حتى أثناء الثورة التحريرية كانت عين قيادة الثورة متخوِّفة من المصير الفلسطيني في حالة انكسار الكفاح المسلَّح؛ إذ كان فرحات عبَّاس قد صرَّح حينها «لو هزم جيش التحرير عسكريًّا لن يكون هناك أي داع لسياسة أشمل، أو لتضييع الوقت في القنصليات والمناسبات الدولية. سيكون كل شيء قد ضاع إلى غير رجعة، وستصبح الجزائر فلسطين جديدة».
كانت تلك من الملاحظات المبكرة على تقاطع نموذجَي فلسطين والجزائر في نضالهما ضد الاستعمار؛ إذ إن كلا الشعبيْن قد عاشا تحت وطأة الاحتلال والقمع والتهجير، وفي الوقت الذي كان المثقفون الجزائريون يكتبون المقالات ويجمعون الأموال دعمًا للمقاومة الفلسطينية في الأربعينيات بينما كانوا يرزحون تحت الاستعمار، جمع الفلسطينيون الأموال دعمًا للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، حتى وهم في مخيَّمات اللجوء.
الجزائر، كانت هذه الدولة المستقلَّة الفتية التي مثَّلت تجربتها في الكفاح المسلح من أجل الاستقلال مصدر إلهام للكثير من الحركات التحررية في أفريقيا وآسيا، وأصبحت في وقت قياسي عنوان الكفاح «العالم ثالثي» من خلال حركة عدم الانحياز التي صعدت في فترة الحرب الباردة، من أجل الدفاع عن حقوق الدول المستقلة حديثًا من الاستعمار، والتي تطمح للحصول على مقعد لها في عالم يجتذبه الاستقطاب بين المعسكرين الشرقي والغربي؛ وبهذه النظرة، دعمت الجزائر كفاح نيلسون مانديلا الذي تدرَّب في معسكرات «جبهة التحرير الوطني الجزائريَّة»، وبهذا الزخم الثوري والطموح لتصدير النموذج الجزائري دعمت العديد من الحركات التحرُّرية في كل من أنجولا، وموزمبيق، وغينيا، والكونغو، وغيرها. بل إن أول دستور للجمهورية اعتبر أن استقلال الجزائر لا يكتمل إلا باستقلال كل القارة الأفريقية من الاستعمار.
طوال فترة الستينيات والسبعينيات في ظلِّ الرئيسين أحمد بن بلَّة، وهواري بومدين، كان النظام الجزائري يكتسب جزءًا كبيرًا من شرعيته من خلال تبنِّيه لقيم الثورة التحريرية، والتزامه بدعم الحركات التحررُّية في العالم وتقديم نفسه بوصفه سندًا للحركة العالمثالثية، التي برزت بعد مؤتمر باندونج 1955م، ثم حركة «دول عدم الانحياز»؛ وذلك بالتزامن مع صعود تيار القومية العربية بقيادة مصر في ظل الرئيس عبد الناصر، والذي كان يتبنَّى تحرير فلسطين بوصفها قضيَّة العرب المركزية، وكان ذلك من الحلقات الأهم في تكوين تلك الرابطة المتينة ما بين فلسطين والجزائر.
وقد شاركت الجزائر في حرب 1967م مشاركة رمزية بحُكم حداثة الدولة وخروجها للتوِّ من حرب التحرير الطاحنة، كما شاركت بشكل أكثر قوَّة وحضورًا في حرب 1973م في عهد الرئيس هواري بومدين؛ إذ أكد الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية أثناء الحرب، أن للجزائر دورًا مهمًّا أثناء الحرب في التواصل مع الاتحاد السوفيتي من أجل بعث السلاح لمصر، فرئيس الاتحاد السوفيتي حينها، بريجنيف، كان غاضبًا من الرئيس السادات، الذي طرد الخبراء السوفييت قبلها، لكن بومدين نجح في إقناع بريجنيف بتسليح مصر مقابل شيك بلغ 200 مليون دولار، بحسب الشاذلي.
بالإضافة إلى هذا الدور السياسي في التوسُّط بين مصر والسوفييت، أرسلت الجزائر طيَّارين وجنودًا شاركوا في القتال ضد الإسرائيليين في الجبهة المصرية. كما استضافت الجزائر المقاتلين الفلسطينيين في أكاديميتها العسكرية بشرشال، وذلك منذ سنة 1964م.
وبالعودة لملف فلسطين والجزائر، فقد لعبت الجزائر دورًا سياسيًّا مهمًّا في دعم «منظمة التحرير الفلسطينية»؛ إذ ساعدتها في الحصول على اعتراف دولي، ومنحت رئيسها ياسر عرفات الفرصة لمخاطبة العالم لأوَّل مرة من منصَّة الأمم المتحدة، وذلك في ظلِّ ترأس عبد العزيز بوتفليقة للدورة التاسعة والعشرين لها. كما احتضنت الجزائر مؤتمر إعلان قيام دولة فلسطين في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1988م، وهو المؤتمر الذي كاد أن يجعلها تحت طائلة هجمات جويَّة من سلاح الجو الإسرائيلي.
 المزاج الشعبي يرفش محاولات للتطبيع
في تصريح منسوب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قال فيه إن «أكبر عائق يقف وراء السلام مع البلدان العربية، هو الرأي العام العربي وليس القادة»؛ ربما يصف هذا التصريح بدقَّة حالة العديد من الدول العربية وعلاقتها بالقضية الفلسطينية، وبالتحديد الجزائر.
شهدت التسعينيات موجة من تقارب الأنظمة العربية نحو الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ عرفت الكثير من البلدان العربية إقامة علاقات مع إسرائيل، وإن لم ترق لمستوى فتح السفارات بين الطرفين، إلا أن هنالك علاقات قد أُقيمت على شكل مكاتب تجارية أو ثقافية بين إسرائيل وكل من المغرب، وتونس، وعمان، وقطر، وموريتانيا، وغيرها.
في الوقت نفسه كانت الجزائر تنزف تحت وطأة الحرب الأهلية بين الإسلاميين والنظام بعد إلغاء الانتخابات البرلمانية سنة 1992م، بعد فوز «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وقد عاشت الجزائر في تلك الفترة مرحلة من العزلة الدولية بسبب المجازر والانتهاكات الحقوقية التي كان النظام الجزائري متورِّطًا في ارتكابها بذريعة «الحرب على الإرهاب».
شهدت هذه الفترة محاولات للتطبيع مع إسرائيل وكسر الموقف الجزائري التاريخي من القضية الفلسطينية؛ إذ تشير مصادر إلى سفر خليدة مسعودي، الناشطة النسوية المقرَّبة من السلطة حينها، والتي أصبحت وزيرة للثقافة في عهد الرئيس بوتفليقة، إلى إسرائيل من أجل حشد الدعم للنظام الجزائري «في حربه على الظلامية والإرهاب الإسلاموي»، كما شهدت فترة التسعينيات وقوف شخصيات فرنسية مثقَّفة محسوبة على التيار الصهيوني، مع النظام الجزائري، ومحاولة تلميع صورته في الإعلام الفرنسي بوصفه محاربًا للإرهاب الإسلامي، من بينهم برنارد هنري ليفي، وأندريه جلوكسمان، اللذيْن زارا الجزائر، وكتبا مقالات مؤيِّدة للنظام.
بعد أشهر قليلة من وصول الرئيس بوتفليقة إلى سدَّة الرئاسة سنة 1999م، وفي ظلِّ أوضاع معقَّدة تعيشها البلاد من سيطرة للجناح العسكري في النظام إلى الحرب الأهلية المستمرَّة، شهدت البلاد واقعة كانت سابقة في تاريخ الجزائر، وذلك أثناء جنازة الملك المغربي الراحل الحسن الثاني؛ إذ وقعت مصافحة ومحادثة سريعة بين الرئيس الجزائري ونظيره الإسرائيلي، إيهود باراك، حيث تبادل الطرفان التحيَّة أمام الكاميرات العالمية؛ وقد صوَّرت السلطات الجزائرية الحادثة بوصفها «فخًّا» نُصب للرئيس الجزائري الذي وصل للرئاسة قبلها بأسابيع فقط.
فيما بعد، نظَّمت جهات قريبة من السلطة زيارة لمجموعة من الصحافيين الجزائريين إلى إسرائيل، وسط تعتيم إعلامي على أسمائهم والمهمة التي كلِّفوا بها، واعتُبرت الزيارة بمثابة «بالون اختبار» للمزاج الشعبي حول رأيه من تطبيع العلاقات، ووسط الغضب الشعبي العارم الذي شهدته الزيارة؛ وصف الرئيس بوتفليقة هذه الزيارة بأنها «عمل إرهابي»؛ لكنه تدخَّل شخصيًّا من أجل منع اعتقال الصحافيين فور وصولهم للجزائر.
من خلال هذه الحوادث يتَّضح أن السلطة في الجزائر منذ التسعينيات على الأقل كانت تطمح لشكل من أشكال التقارب مع الجانب الإسرائيلي؛ من أجل الحصول على نفوذ أكبر لدى واشنطن، ولفكِّ العزلة الدولية التي كان يعيشها النظام أثناء الحرب الأهلية، لكن هذه المساعي كانت تُقابل برفض شعبي واسع؛ ممَّا يقف حاجزًا وراء تطوُّر هذه المساعي لتصبح واقعًا مكرَّسًا.
ولمعرفة تلك العلاقة بين فلسطين والجزائر، فالواقع أنه لا تغيب الأهازيج الداعمة لفلسطين عن ملاعب كرة القدم في الجزائر؛ إذ تتغنى مختلف أندية الكرة بالحرية للشعب الفلسطيني، كما تظهر الأعلام الفلسطينية شديدة الحضور في مظاهرات الحراك الشعبي التي انطلقت في 22 فبراير (شباط) 2019م، بما لها من رمزية الحريَّة والانعتاق من الاستعمار ودعم الشعب الفلسطيني.
في المقابل، يحضر العلم الجزائري في المواجهات بين الشباب الفلسطينيين وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، بصفته رمزًا لانتصار ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار. كما تسمح السلطة بهامش معتبر من الحريَّة للجميعات ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل على الدعم الخيري للقضية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى